صحيحٌ أنّ “بارزاني” كان ذا شخصية كاريزمية، تبعث على الشعور بالهيبة والوقار، لكنه كان في نفس الوقت إنساناً طيّب المعشر، بشوشاً ورقيق القلب والحاشية، يشعر بالألم والأسى إذا أحس أنه قد آلم أحد رفاقه من دون قصد؛ ولا يجد ضيراً في الاعتذار الفوري، أو اللاحق، إلى الشخص الذي لحقه الألم أو الغبن، من دون قصدٍ أو تعمّد. بل كثيراً ما كان يطيّب خاطر ذلك الشخص بحديثِ دُعابة، مما كان يزيده محبة وهيبة ووقاراً في عيون رفاقه البيشمركة؛ الذين كانوا حريصين على الذود عن قائدهم والحفاظ عليه، كحفاظهم على حَدَقات عيونهم.
قبل أكثر من ربع قرن، حدثني أحد أبناء منطقتي “برواري”، وكان من البيشمركة القدامى من الرعيل الأول، ممن رافقوا القائد بارزاني في مسيرته البطولية التاريخية نحو “الاتحاد السوفييتي” السابق. كان الرجل المُسن (بيرموس هروري) يحدثني بصوتٍ متهدّج، وهو يحدّق في الأفق بعيني عُقاب، مستحضراً في مخيّلته ذكرياتهُ المتشظية، عن أيام عاشوها مع القائد بارزاني، بُعَيد تلاشي الحلم الكوردي “جمهورية مهاباد”؛ إذ كانوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، في شتاءٍ كان هواؤه زمهريراً!.
كان من يرى هؤلاء النمور، وهم يطوون الجبال والوهاد تحت أقدامهم، في مسيرةٍ بدت محضَ عَبَثٍ ” سيزيفيّ ” لاختراق المجهول واجتراح المعجزات، يظنّ أنّ مصطفى بارزاني ورفاقه قد قدّوا من صخور وجلاميد كوردستان!. فالشدائد التي كانوا يكابدونها، كانت تفوق قدرة الإنسان العادي على تحملها بمراتٍ عدّة. كانوا رجالاً لا يأبهون للموت، الذي كان قابَ قوسين منهم أو أدنى، في حلهم وترحالهم، وكأنهم قد عقدوا صفقة مع “عزرائيل”؛ الذي عيل صبره وهو يراهم يقارعون الموت في معاركهم البطولية، وفي صبرهِم وجَلدِهِم على الجوع والعطش والتعب والإرهاق والمرض؛ فترَكهُم يسيرون أمامَ الموت، ليعطوا المعنى الحقيقي لاسمهم “بيشمركة”، أي الذي يُسابق الموت!.
تنفس المقاتل العجوز الصُّعَداء، وهو يداري سعالاً شديداً انتابه على حين غِرّة، وضيّقَ من فتحتي عينيه، حتى كادتا تغوران في مَحجرَيهما، وقال:- كان ذلك في ليلةٍ ليلاء، وفي منطقة مثلث الحدود (العراقية- الإيرانية- التركية)، حيث جيوش الدول الثلاث تلاحقنا من كل صوب، وتمطرنا بوابل نيرانها أنى ثقفتنا، والكمائن تعترض طريقنا في كل مكان. كنا نخرج من معركةٍ، لندخل أخرى!، ونحن نحس أنّ أقدامنا لم تعد لها علاقة بأجسادنا!. كان الجوع والضَّنى وقلة النوم ينخر في أجساد الرجال الأشداء، كما ينخر السّوس في جذع السنديان الصلد، لكنهم كانوا يكابرون، ويصرون على متابعة المسير خلف قائدهم، الذي لم تكن لِتلِن له قناة؛ وكأنه فارسٌ قادمٌ على صهوة الخرافة!. أما الخوف و الوَجَل، فلم يكن لهما معنى في قاموس هؤلاء الصناديد.
كنا في طريق متعرّج وملتو، وَسْط صخور مشظاة، كأنها زجاج مُدبّب، وظلام دامس موحش؛ لكنّ الهدوء كان سيّد الموقف!. لم يكن أحدنا يسمع صوت أنفاس صاحبه إلا بصعوبة، رغم ضخامة عددنا (مئات المقاتلين المدججين بالسلاح والمزنرين بالرصاص). ما كان يقطع هدوءَنا إلا الأصوات الخفيتة لبعض الحيوانات البرية، التي دفعها البرد والخوف منا لملازمة أوجارها.
فجأة توقف القائد بارزاني، وهو يستمع باهتمام إلى حديثٍ لاهث لأحد كشافتنا من قوة الاستطلاع؛ الذي جاءه على عجل ليخبره بقدوم مجموعة عسكرية استطلاعية صغيرة باتجاهنا، وبكمين طارىء وضخم يتربص بنا، عند نقطة حدودية حساسة للغاية، كما أخبرهم بذلك قروي من أبناء المنطقة.
طلب القائد من مقاتليه النزول فوراً إلى الوادي السحيق، والاحتماء بالكهوف والمغاور والأوجار، ريثما تنقضي هدأة من الليل، لنتبيّن طريقنا بشكل أفضل، وليأخذ الرجال بعض الراحة، استعداداً للمعركة القادمة.
تقدم قائد إحدى المجموعات ليقول بحماس واضح:
– ما رأي القائد لو قمتُ بإبادة هذه المجموعة الصغيرة في طرفة عين؟.
– لا لا، قال الجنرال بارزاني بانفعال واضح. هذه المجموعة الصغيرة هي طـُعمٌ لنا. العدو الغبي يعتقد أننا قد نبتلع هذا الطعم؛ ومن ثم نسير وسط كمائنه وقد تملكنا الغرور بهذا النصر السهل والسريع. أخشى ما أخشاه، أيها الأخوة، أن يفرض علينا العدو زمان ومكان المعركة، وتطبق علينا كمائنه من كل الجهات، ويلجأ في نفس الوقت إلى قصف القرى المجاورة لأرض المعركة، لإنهاكنا معنوياً، بعد أن يكون قد أنهك قواتنا وألحق بنا أفدح الخسائر. أنتم تعلمون، أيها الأخوة، أنّ إخواننا من أبناء قرى كردستان هم أكبر سندٍ لنا في مسيرتنا هذه، ولولا دعمهم المادي والمعنوي لنا، لما تمكنا من اجتياز كل هذه المسالك الطويلة والشاقة، المحفوفة بالمخاطر. هم من يقاسموننا كسرة خبزهم، ويدفعون بشبابهم للمخاطرة بأرواحهم والمجيء إلينا، لتزويدنا بأخبار ودسائس الأعداء أولاً بأول؛ فكيف نكون سبباً مباشراً لإلحاق الأذى بهم؟.
أطرق القائد بارزاني قليلاً، ثم رفع رأسه وهو يتنهد بأسى:
– أنا مستعد لأن أفقد عشرة من رجالي، ولا أكون سبباً في فقدان قروي فقير.
بدا التأثر واضحاً على الشاب القروي، الذي كان قد جاء ليخبر قوتنا الاستطلاعية بأمر الكمائن. ثم نظر إلى القائد بارزاني مبتسماً وهو يقول:
– كلنا فداء لك يا قائدنا، نحن لا نفعل إلا ما يمليه علينا واجب الوطن، كما تفعلون أنتم بالضبط. نحن ليس لنا عليكم أيّ عتب، سوى عدم قبولكم انخراط بعض شبابنا في صفوفكم. قبّله بارزاني وضمّه إليه بحرارة:
– يا بُنيّ، نحن أمامنا مسيرة طويلة محفوفة بالمخاطر، وقد لا نعود منها إلا بعد سنين طوال، هذا إذا بقينا أحياء؛ فلمَ نورِّطكم معنا؟. نحن نشكركم على كل ما تقدمونه لنا، وسيتفطر قلبي ألماً لو حدث لكم شيء بسببنا. وربَّتَ على كتف الشاب بحنان: هيا يا ولدي، عُد إلى قريتك بسرعة؛ فنحن مقبلون على معركةٍ قد لا تبقي ولا تذر!.
سرعان ما ابتلعَنا الوادي السحيق؛ إذ كنا نجيد فن الاختباء، بنفس إجادتنا لفن المواجهة. اختار الجنرال بارزاني بعض المقاتلين الأشداء، وعيّن لكل منهم مكاناً يتمترس فيه، من أعلى الوادي وإلى أسفله، وفي ثناياه.
أمرهم بضبط النفس، وألا يكونوا المبادرين إلى القتال؛ لأنّ مهمتهم هي الحفاظ على هذه القوة الكبيرة، المتمركزة في قعر الوادي. وفي حال اصطدامهم الاضطراري بالعدو؛ فليقاتلوه بشكل متأنٍّ، وليحسبوا الحساب لقلة عتادهم، وليحرصوا على سرعة الانتقال من موضع إلى آخر، لإيهام العدو بكثرة عددهم، لحين صعود قواتنا إلى أعلى الوادي، واتخاذها المواضع القتالية المناسبة.
ما إن نطق الجنرال بكلماته الأخيرة، حتى هرع رجالنا الأشداء صوب المواقع التي حُدِّدت لهم. وأمر الجنرال قادة بقية المجموعات القتالية بالإسراع في إخفاء مقاتليهم في الكهوف والمغاور والأوجار، خوفاً على الرجال من شدة البرد؛ مؤكداً عليهم ضرورة عدم اللجوء إلى استخدام السلاح الناري، عند مواجهتهم لبعض الوحوش الضارية والمفترسة، في تلك الأماكن. وأكد كذلك على وجوب عدم التدخين، أو إشعال النار، مهما كانت خفيفة، ووجوب السيطرة على حالات السعال الشديد، التي كانت قد انتابت بعض المقاتلين؛ مقترحاً بقاء هؤلاء في مؤخرة الكهوف لضمان حصولهم على بعض الدفء، ولعدم وصول أصوات سعالهم إلى خارجها؛ لأن ذلك قد يُربك الحراس المختبئين خلف الصخور والأحراش.
سيطر جو من التوتر والترقب على الجميع. قال أحد المقاتلين، بعد أن سعل بشدة: – هذا الأمر قد يستغرق حتى الصباح؟. هز الجنرال بارزاني رأسه أن نعم، وقال:
– مع ذلك، ليس بيننا وبين الصباح إلا سويعات قليلة، هذا إذا لم تلق علينا الطائرات تحية الصباح!.
سرت بين المقاتلين ضحكات خفيتة، على هذه الدعابة التي أطلقها قائدهم. وأطلق ذلك المقاتل زفيراً قوياً وهو يقول:
– ما أشدّني شوقاً إلى قتال هؤلاء الأوغاد؛ فالموت أهون عندي من الانقطاع عن التدخين حتى الصباح!.
ضحك القائد بارزاني وهو يقول:
– وهل تحب التدخين أكثر مني يا رجل؟.
هنا، تقدم مقاتلٌ بَدين من القائد بارزاني، وكان معروفاً بروح الدعابة، وكثرة ممازحته لزملائه المقاتلين من قوات البيشمركة، عبر إطلاق النكت والطرَف الساخرة، في أشد ظروف الجوع والبرد والإرهاق قساوة. وكان بارزاني يحرص دوماً على سماع طـُرَفه ونكتهِ، ويستحسن تصرفه هذا مع المقاتلين؛ لأنه يخفف عنهم بعض معاناتهم. قال المقاتل البدين، بعد أن حك رقبته قليلاً:
– فداك روحي أيها القائد. لقد منعتنا من استخدام السلاح الناري، ضد الوحوش التي قد نصادفها في هذه الكهوف والمغاور والأوجار؛ فما عساي أن أفعل، مثلاً، إذا صادفني دبّ كبير وشرس وعنيد، لا يقبل أن يخلي لي مكانه؟، هل أمازحه وأروي له نكتة؟!.
سرَت بين المقاتلين، المتوتري الأعصاب، ضحكات خفيفة. وأحس بارزاني بأنّ هذا المقاتل الظريف قد فشل، ولأول مرة، في إضحاك وإسعاد رفاقه، كما كان يفعل دوماً؛ فربَّت على كتفه قائلاً:
– لا عليك يا رجل، عندها ستشارك الدب مكانه بودّ وسلام، ولا أعتقد أنه سيحسبك غريباً؛ بل قد يعدّك أحد أفراد أسرته!.
ضجّ الجميع في ضحك شديد، اهتزت له الأبدان، وبدأ بعضهم يسعل بشكل غريب. ضرب المقاتل البدين بيده على كرشه قائلاً:
– نعم، قد يحسبني أخاً أو ابن عم له، بسبب ما بيننا من قاسم مشترك، مشيراً بيده إلى كرشه!.
مسح القائد بارزاني دموعه، التي تساقطت من شدة الضحك، وكذلك فعل جلّ المقاتلين، وربَّت على خد المقاتل البدين والظريف، قائلاً له بحنان أبوي:
– أعذرني يا بُنيّ؛ فقد أكون أسأتُ إليك بهذا الكلام.
– بالعكس، يا سيدي القائد. لقد أنقذتني من موقف محرج؛ فلأول مرة أفشل في إضحاك رفاقي وإخوتي البيشمركة، ويسعدني كثيراً أن تبزّني في روح الدعابة والمرح؛ لأن ذلك يجعلني أعرف نقاط ضعفي في هذا المجال، ويدفعني إلى تطوير أساليبي في إضحاك رفاقي.
رفع القائد بارزاني يده مودّعاً مجاميع المقاتلين، وهو يقول:
– يمكنكم اللجوء إلى السلاح الأبيض فقط، أي الحِراب والخناجر والمِدي، في عملية الدفاع عن النفس ضد الحيوانات والوحوش، التي قد تشكل خطراً عليكم. لكن لا يجوز أن تبادروها بالاعتداء؛ بل أفسِحوا لها مجال الهرب. ولا تنسوا أنها جزء من الثروات الطبيعية لوطننا كوردستان. ولا أعتقدكم نسيتم، أننا في منطقتنا (بارزان)، نمنع صيد الحيوانات البرية؛ لأنها تشكل أحد مكوّنات جمال طبيعة وطننا كوردستان. ثم تنهّد قائلاً:
– كوردستاننا العزيزة… التي نضحي بأرواحنا وأسَرنا وأطفالنا في سبيلها، ونقاسي ما نقاسيه الآن من أجل عزتها وكرامتها.
سارع المقاتلون لتنفيذ أوامر قائدهم. وبعد أن اطمأن إلى مغادرة الجميع، أشار إلينا كي نتبعه إلى كهفٍ قريب اختاره لنا. كنا ثلة من الرجال اللصيقين به دوماً كظله.
لم يكن ما قصدناه كهفاً؛ إنما جوفاً صخرياً كبيراً وواسع المدخل، لم يكن ليسترنا إلا قليلاً. اقترحتُ على القائد بارزاني أن نبحث عن مكان أفضل:
– أبا إدريس… ألا يمكننا البحث عن مكان أفضل، خلف الأحراش المحيطة بنا؟.
هزّ رأسه بانفعال واضح:
– لا يا بيرموس، يجب أن نكون أمام المقاتلين، لا خلفهم. إذا لعلع الرصاص، ولم يسمع المقاتلون صوتي وأنا أعطيهم توجيهاتي؛ فسيختلط الحابل بالنابل، وتعم الفوضى في صفوفهم؛ وقد يقتلون بعضهم نتيجة الاضطراب وعتمة الليل.
جلسنا داخل الجوف الصخري، الذي كان يشبه فماً كبيراً مفتوحاً على آخره!. كنتُ أجلس إلى يسار القائد بارزاني؛ الذي كان يمسك بندقيته الـ(برنو) بيده اليمنى، وينفخ في قبضة يده اليسرى بهدوء، وهو ينظر بعيني صَقر إلى الأرجاء، التي بدأ يلفها ظلامٌ دامس.
بدأت القشعريرة تسري في أجسادنا؛ فوضع بعضنا يديه تحت إبطيه، وبدأ آخرون ينفخون في أيديهم بهدوء، وقد وضعنا بنادقنا أمامنا. كان الهواء القارس ينفح وجوهنا، ونحن نشعر أننا في طريقنا إلى التجمّد.
لا أعرف لماذا اعتقدتُ، ولوَهلة، أنّ القائد بارزاني قد يكون متجمّداً من البرد؛ إذ لم ألحظ منه أي حركة. كان لا يزال ممسكاً ببندقيته البرنو، التي وضع أخمصها على الأرض، وهو يرنو إلى البعيد، لكن من دون حراك!. وضعتُ يدي اليمنى على ساعده الأيسر، وهززته قليلاً:
– أبا إدريس، هل أنت على ما يُرام؟.
– نعم، نعم. قالها بصوتٍ خافت. أعتقد أنني بخير؛ لكنني أشعر أنّ قالباً من الثلج، يتموضع في داخل أحشائي!.
مدّد بندقيته الـبرنو أمامه، ورفع كفه اليمنى إلى فمه، لينفخ فيها قليلاً.
– بيرموس… أعتقد أن كفي اليمنى قد تجمدت تماماً!. إنّ أصابعي لا تتحرك، كيف سيمكنني مسك بندقيتي إذا دهَمَنا العدو؟. قال ذلك بتأثر واضح، أثر فينا جميعاً.
– هاتِ يدك بين يديّ، سيدي القائد. سأفركها لك قليلاً؛ فقد يجدي ذلك نفعاً.
سارع قائدٌ عسكريٌّ بارزانيّ؛ ووضع كف القائد بارزاني بين راحتي يديه، وبدأ يفركها. سحب بارزاني كفه بهدوء، وهو يقول:
– مهلاً… مهلاً، إنّ ذلك لا يجدي نفعاً، إنك تكاد تسلخ جلد يدي، الذي أشعر كأنّ إبَراً قد غـُرزت فيه.
بدأ القائد بارزاني ينفخ في يديه بهدوء، ويجيل عينيه في الأرجاء كنمر متوثب. التفتَ إلى يمينه، وتناول قليلاً من الهشيم. بدأ يحفر بيده اليسرى حفرة صغيرة، وعيناهُ لا تزالان ترقبان الأرجاء، كعيني صقر مَربَعيّ. وضع الهشيم في داخل تلك الحفرة الصغيرة، وغطى الحفرة بيده اليمنى، تاركاً زاوية صغيرة بين السبابة والإبهام، لإدخال رأس القداحة، التي ضغط على زنادها بهدوء.
شبّت النار في الهشيم سراعاً، وتسرّبت الحرارة إلى كفه اليمنى، حتى كادت تحرقها. أزاح كفه عن الحفرة قليلاً وبهدوء، بعد أن أحس أنها قد عادت إلى طبيعتها. وبلمح البصر، أهال التراب على الحفرة، وأخمد النار.
لمح أحد الحراس بصيصاً خافتاً من النور، لمع فجأة من أمام الكهف وخـَبا. ظن أن أحد البيشمركة قد دخن سيجارة؛ فصاح بغضب:
– مَن هذا الذي يدخن؟، ألم تسمع أوامر القائد بارزاني؟ هل آتي وأعلمك كيف تلتزم النظام؟!.
تملك الغضب ذلك القائد العسكري، الذي يجلس إلى يمين القائد بارزاني؛ فقال وهو يغلي كمِرجَل:
– ويحك، أتعرف من تخاطب؟.
– لا يهمّني مَن يكون، الأوامر هي الأوامر.
شدّ القائد بارزاني على يد القائد الميداني، طالباً منه السكوت، وعدم الردّ على الحارس.
ظللنا على هذه الحالة سويعات قليلة، خلناها سنينَ طويلة. وشيئاً فشيئاً بدأت تباشير الصباح تلوح في الأفق، وتكتسح مواقع الظلام. نهض القائد بارزاني وهو يتنفس الصعداء، وأشار إلينا جميعاً بالنهوض. سرنا باتجاه الحارس المواجه لنا؛ والذي ما إن لمحنا حتى صرخ في بقية الحراس:
– استعدوا جميعاً؛ لقد جاء القائد بارزاني.
وفي لحظاتٍ، امتلأ الوادي بالحركة والنشاط، وبدأت القداحات تقدح، ودخان السجائر يعلو. ناولتُ القائد بارزاني سيجارة؛ فتلقفها بشوق وسرور، وسارع الحارس إلى إشعالها له. شكره القائد على ذلك، وربت على كتفه:
– أنت نِعمَ البيشمركة يا بُنيّ، يعجبني التزامك الصارم بالنظام.
ما إن سرنا خطوات قليلة، والقائد بارزاني منشغل بتحية المقاتلين، والرد على تحياتهم؛ حتى همستُ في أذن الحارس:
– ويحك، أتعلم أنك كنت تصرخ في وجه القائد بارزاني؟. وبدأت أشرح له ما جرى؛ فتملكه الارتباك الشديد، وسارع إلى الوقوف أمام القائد بارزاني، قائلاً بخشوع:
– سيدي القائد، أقدم إليك شديد اعتذاري، على ما بدر مني من قلة اللياقة. حقاً إنني لم أكن أعرف…
قاطعه القائد بارزاني مبتسماً:
– بل أنا من يجب أن يعتذر إليك؛ لأنني الوحيد الذي خالفتُ النظام، الذي أمرتُ بتطبيقه بصرامة. ثم أطلق ضحكة قوية ملأت الأرجاء. وتدافع المقاتلون بفضول شديد، لمعرفة سبب هذه الضحكة المجلجلة، التي يطلقها قائدهم ، في هذا الصباح المبكر!.
استعرض القائد بارزاني قواته. وبعد أن تأكد من أنّ الجميع بخير، أمرَنا بالصعود إلى الطريق الجبلي؛ الذي سبق أن انحدرنا منه. وعند وصولنا إلى هناك، حيّا الحراس بحرارة، وسألهم عمّا رأوه ليلة أمس.
قال قائد الحرس:
– لم نلحظ شيئاً مريباً، سيدي الجنرال. ثم أردف قائلاً:
– أعتقد أن العدو قد أخلى كمائنه من شدة البرد. ضحك القائد بارزاني، وربت على كِتفي، وهو يقول لقائد الحرس:
– نعم… نعم، كان برداً لم أرَ مثله في حياتي؛ لِيُخبركَ بيرموس كيف كنتُ على وشك أن أحرق يدي!.
سار القائد بارزاني أمامنا، وهو لا يزال يهز رأسه من الضحك. ثم توقف هنيهة، ونفث دخان سيجارته بقوة، وهو ينظر إلى الأرجاء، نظرة صَقر مِن عَل ٍ؛ ثم قال بحسرةٍ وألم، لكن بثقة وإيمان:
– سنعود إليك يا وطني… سنعود إليك إن بقينا أحياء!.