نوروز وشموعٌ وزيزفون

صبري رسول

ديرك، ينبوعٌ، ونهرٌ، وبساتينٌ مشجَّرةٌ، تعلوها عيونٌ ذابلةٌ، وأوراقٌ حافاتُها محترقة، تقرأُ فيها تاريخاً عجنَتْه سنابكُ خيول أرطغرل، وبنادقُ الإفرنجة، يشوبُ هذا التَّاريخَ لونٌ اختفتْ معالمُهُ…

كلَّمَا زرْتَ هذه المدينةَ اللامدينة، المريَّفة، التقيتَ بظلالِ طفولتك الموغَّلة في الشّقاء. مدينةٌ أسيرة بسوارٍ أقلّ ما يُقالُ عنها، بأنَّها تشبَهُ موتاً يتقطّرُ من أصابع (إزرائيل) التي أحكمت بعروقِ أسواقها، وحاصرت نبضاتِ أزقَّتها، وفرضَتْ على وجوه أناسها ألواناً قاتمةً، وابتساماتٍ يابسةٍ لمشعوذةٍ بَالَ القطُّ على موقدِها، فاستَشَاطَتْ غضباً، تهيمُ على وجهها.  …..
هنا كانت مرابعُ طفولتنا التي جارَ عليها الزَّمانُ، كنَّا نلعبُ من دون ألعاب، ما كنّا نملك غيرَ كراتٍ نصنعها بأنفسنا، من (جواريب) ممزّقة، نحشوها خرقاً بالية، وسرعان ما نتركُ ملعبنا(شارعنا) هاربين من مسبات الجارات وغضبهن عند اصطدام الكرة بنافذتهم الخشبية المغلَّفة بـ(نايلون) رخيص، فننتقلُ إلى زقاقٍ آخر جولة أخرى.
أن تكون في ديرك وتحتفل بنوروز، هذا يدلّ على أنَّ طائرَ الحظِّ قد حطَّ على كتفك، فاجتماعُكَ مع الأهل والأحبَّة بعدَ سنواتٍ من الغيابِ والانقطاع، على كتفِ قوقعة باجريق الحجرية يمدُّكَ بقوة وطاقةٍ نفسية، ويغذّي إرثكَ الطّفولي المنسي في أقصى منقار البطّ من جغرافية سوريا.
قبل التسعينات من القرن الفائت سألَتْني صديقةٍ دمشقية: أينَ مدينتك؟ فقلتُ بعدما رسمتُ خريطة سوريا كما علَّمنا إياها مدرّس الجغرافيا: هنا.وضعتُ إصبعي في أقصى الزاوية الحادة شمالاً. قالت: كيفَ تتَّسعُ هذه الزّاوية لمدينة حديثة؟
لم نكنْ نعرفُ أنَّ هذه المدينة ستُصبحُ لامدينة بعد عشرين سنة.
في أزقّة المدينة تصادفُكَ وجوهٌ فقدَتْ مسحتَها الزيزفونية، وضاقتْ اتّساعاتُ الفرحِ في تقاسيمها، وغابتْ ابتساماتُ العيونِ في النّظرات، اتّسعَتْ (جباهٌ جِعَاد).
هناااااك، في سفح باجريق المقابل لقرية( بانه قصر) كانت فرحة الكرد تتّسعُ لكلّ شيء، للحبّ، والحياة، والتآخي، والسّلام، وحده الكره لا يعرفُ طريقه إلى قلب نوروز، ولا إلى قلوب الكرد. وجمعتني مصادفاتٌ كثيرةٌ، بحكم جغرافية المكان والزمان، بكثيرٍ من الأحبة، والأصدقاء، السابقين، تبادلنا الملام، والأشواق، حيثُ يغرقُ القلبُ في بياض الوئام المرتسم على زيزفون ديرك.
لجوء الشعوب إلى التّمجيد والتّقديس لتاريخها، لمناسباتها القومية أو الدينيةٍ، تعويضٌ لضعفها وعجزها عن رسم حاضرها، لكن قد لا يكون تمسُّكُ الكردي بعيده القومي من هذا الباب، وقد لا يندرجُ هذا الأمر على نوروز، فالكرديُّ لا يجد في التراث الدّيني( الزرادشتي، والأزدي، والإسلامي) ما يروي عطشَهُ التّاريخي الظالم، وتوقَهُ اللامحدود إلى آفاق النّور، وحبّ الحرية والعيش بسلام، كبقية شعوب المعمورة؛ فلهفةُ الكرديّ إلى الاحتفال بنوروز وسيلة إلى البحث عن الذّات، والتّعبير عن وجوده ككائن يرفضُ الانقراض والانحلال، أو الذّوبان في القوميات الأخرى، والتأكيد على كرديته (الهوية الضَّائعة).

هذا ما يجعل الكرديّ مندفعاً إلى رفع صوته، بإحياء نوروز المرتبط بشهر آذار، بأعياده، ومآسيه؛ وكأنّ الكردي هو آذار بكلّ ما لهذا الشّهر من سطوة وقوة، وآذارُ هو الكرديّ بكلّ ما له من طموحٌ وآمال.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…