فيصل محمود حاجي يدمي قلوبنا برحيله المر

عمر كوجري

بينما كانت أمُّ فيصل تعد الأيام والساعات، متأففة من اللحظات والثواني التي تتثاءب، فتزيد من توترها، وتنظر للأفق البعيد، تلوح بيديها لقدوم ابنها فيصل، تسقي ورد الحنين والشوق الذي فاض في قلبها، وأشرق، وتتوقع قدوم ابنها الغائب عن عينها منذ ” قرن من الزمان” في أية لحظة من بلاد بعيدة إلى قريته، بعد أن طوى علم الفتح في جهاد طويل واجتهاد وسهر كبير، وقلق بين أروقة المشافي والمرضى والبرد والغربة الذابحة.
عاد فيصل:
وبينما كانت الأم تحفز ذاكرتها، فتزهر خوخاً ورماناً وتيناً في نهارات وبيادر «شرك» وتتجمل، وترتدي ثوب الفرح في هذا الربيع المتألق، وتتذكر حينما كان فيصل يقفز كأرنب بري على الصخور المتاخمة للضيعة، وكيف كان يكبر، ويركض مع الأيام مفعماً بالحيوية والألق، ويلهو مع أقرانه وجبينه صوب الشمس تتلألأ.
عاد فيصل:
وبينما أوشكت عينا أم فيصل أن ينطفئ نورُهما من شدة ما أمطرتا دموعاً في غفلة من أبي فيصل «محمود».. هذا الرجل الذي مازلت حتى اللحظة أتذكّر دفق حنانه لنا حينما كنا صغاراً نزور « شرك» في أواخر سبعينيات القرن الماضي، محمود.. الرجل العظيم الذي أراد أن يكون فيصل اسماً على مسمى.. طبيباً يداوي الفقراء مجاناً في هذه الجزيرة المترامية الحنين والحزن..
 محمود الذي كان يعمل عامل باطون في عز الصيف، وقر الشتاء في دمشق وريفها ليؤمن مصروف فيصل في تلك الغربة اللعينة، ويأتي بشهادة الطب، ويشير الناس بأصابعهم: هذا محمود أبو فيصل.. هذا أبو الدكتور فيصل.
عاد فيصل:
لكن آخ وألف آخ، فيصل الغائب منذ 1992 والعائد إلى قريته شرك مرة واحدة في نهايات تسعينيات القرن الماضي، وغاب طويلاً.. دون أن تتعبه آهات المرضى وتأوهات الحزانى..
عاد فيصل، ولكن هذه المرة لن تسبقه الضحكة.. هذه المرة لن نذهب إلى المطار فرحين بقدومه، وقدوم ابنَيْ عمَّيْه الدكتور أديب والدكتور بشير، بكل أسف وبكل حزن وفيض ألم وقلوب منكسرة، سنذهب إلى المطار لنستقبل فيصل، مسجياً في تابوت باااارد.
 آخ وألف آخ على شبابه، وألف حسرة على دمعة ابنه هناك، وهو يودّع أباه في تلك الليلة الباردة إلى موطنه الذي شهد طفولته وفتوته، ولم يهنأ به، وهو يمسحُ بيديه على جباه المرضى، فتتحوَّل أصابعه إلى بلسم يهدِّئ كل أنين.
ويا أم فيصل.. يا والد فيصل « محمود» هل تسعفني البلاغة لأرد الأسى عن قلبيكما بعد أن فجعتما وكل محبيكما بالرحيل المفاجئ والصاعق لفيصل، أمسح الدمع عن عينيكما بمنديل الكلمات عساها تخفف ولو قليلاً من حزنكما الكبير.
فيصل:

أيها الصديق.. العريس.. هاهم كلُّ محبيكم يزفونك إلى عرسك الأخير.. هاهم من كلِّ فج عميق يحجون إلى منزل والدك محمود.. عسى أمواج الأنين تهدأ قليلاً.. قليلاً.. هاهم عُشَّاقُكَ يا فيصل.. وعاشقات براءة الضحك في عينيك.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…