إلى ذكرى من رحل وزاده عشق الكُرمانجية

عبدالباسط سيدا

أحيا اتحاد الجمعيات الكردستانية في السويد – الفيدراسيون- قبل أيام أربعينية الأخ الكاتب الكردي عبدا لرزاق أوسي، المعروف بـ ( رَزو)، وذلك بالتعاون مع مجموعة من أصدقاء الفقيد؛ وقد كان من المفروض أن أرتجل هذه السطور بالكردية في المناسبة؛ إلا أنني لم أتمكن من ذلك لأسباب لست بصدد تناولها الآن، لذلك آثرت نشرها بعد ترجمتها إلى العربية. وهي كما سيلاحظ القارئ الكريم عبارة عن جملة من الخواطر أقرب إلى التداعي الفكري منه إلى النص المتكامل،  تتمحور حول ضرورة الإقرار بفضل رَزو وغيره من الذين أخذوا على عاتقهم  المهمة الشاقة النبيلة، مهمة الكتابة بالكردية التي يظل المتمسك بها في زمننا هذا كالقابض على الجمر.

ع. س.
اللقاء الأول بيننا – إذا أسعفتني الذاكرة- كان في منزل الأخ الصديق الدكتور محمد عبدو النجاري بدمشق، وذلك في أواخر ثمانينات القرن الماضي؛ كنت قد سمعت به قبل ذلك بأعوام عدة من خلال بعض الأصدقاء المشتركين؛ إلا أن الحواجز السياسية في ذلك الحين لم تكن قد سمحت لنا بعد بتواصل مباشر يتعرّف بفضله الواحد منا إلى الآخر من دون أي وسيط.
ما أذكر من انطباعاتي عن اللقاء الأول مع الأخ عبد الرزاق أوسي “رَزو” : جديته، قلة كلامه، وتمفصل همه حول اللغة الكردية، وضرورة الكتابة بها، باعتبارها الأداة الأبرز في ميدان تحديد الهوية الانتمائية للمرء.
وما عرفته من الأخ محمد عبدو في ذلك الحين، أنه كان يعمل مع الأخ “رَزو” على تدوين ونشر مجموعة من الحكايات الشعبية الكردية الخاصة بالأطفال ، التي كانت متداولة شفاهاً بين الناس؛ وقد تمثّلت بواكير الجهد المشترك ذاك تالياً في مجموعات: الديك الأبيض 1991، حبة الرمان 1991، الذئب العجوز 2005، القنديل السحري 2005، السخلتان ” شنكي وبنكي” 2005.
والأمر اللافت الهام في هذا المجال هو أن المجموعات المعنية قد صدرت بموافقة وزارة الإعلام السورية، وذلك بفضل جهود الأخ محمد عبدو الشخصية المخلصة. وما ترتب على ذلك هو أن المجموعات المعنية – خاصة الأولى والثانية- قد وزعت على نطاق واسع؛ وقد كانت الاستجابة الشعبية ايجابية إلى حد كبير، لا سيما أن الحكايات كانت قد كتبت بالنصين الكردي والعربي، مما أفسح مجال التعلم والمقارنة والمتابعة أمام المهتمين.

تتالت اللقاءات بيننا فيما بعد سواء في قامشلي أو عامودة، ولكن على نطاق محدود- فقد كنت منهمكاً حينئذٍ بالعمل المتواصل على أكثر من صعيد- وفي كل مرة كانت حواراتنا تتمركز حول أهمية الكتابة باللغة الأم، وضرورة المحافظة على التراث وتطويره، ليكون موضوع استلهامنا ونحن نتطلع نحو المستقبل.
وفي أواخر عام 1991 سافرت إلى ليبيا بقصد العمل؛ ولم أتمكن منذ ذلك التاريخ من الالتقاء برَزو ثانية، إلا أنني كنا أتابع أخباره عبر الصديقين الدكتور محمد عبدو والدكتور عبدي حاجي، فقد كنا معاً في ليبيا، ونلتقي من حين إلى آخر، نتحاور معاً في الأوضاع العامة والخاصة، نتابع أخبار الأصدقاء؛ وكانت جهود  رَزو في ميدان الكتابة بالكردية في معظم الأحيان محوراً من محاور أحاديثنا. وقد كنا نثني دائما على سعيه المتواصل من أجل عمل جماعي، يكون قادراً على النهوض بأعباء المهمة الشاقة.
وفي هذا السياق، لابد من الإشارة إلى أن جهود رَزو وغيره من الإخوة الذين يكتبون وينشرون بالكردية راهناً (منهم على سبيل الذكر لا الحصر: دحام عبدالفتاح، خليل محمد على، سامي ملا أحمد نامي، عبدالوهاب كرمي “ملي كرد”، صالح حيدو، حيدر عمر، جان دوست، أحمد الحسيني، بشير ملا نواف و آخرون كثيرون وجدوا عن حق بأن الكتابة باللغة الكردية هي الوسيلة الأنجع للمحافظة على الهوية)، إن الجهود المعنية تمثل النهوض الثاني بالنسبة إلى اللغة الكردية وآدابها في كردستان سورية، وهو الذي أتى بعد انقطاع شبه تام طويل أعقب النهوض الأول الذي كان في أيام جلادت بدرخان، قدري جان، جگرخوين، وملا أحمد نامي، وعزيز ملا، وعثمان صبري، وملا حسن كرد، وملا أحمد بالو، وغيرهم وغيرهم، رحمهم الله جميعاً، هؤلاء الرواد الأسلاف الين وضعوا الأسس ليستند إليها لاحقاً الأخلاف في كل مكان.

في صيف عام 2008 حضرت فعاليات المؤتمر الدولي الذي نظمه اتحاد الكتاب السويديين في ستوكهولم (ولتِك)؛ وقد كان هدف المؤتمر هو تشجيع الكتّاب في مختلف أنحاء العالم على متابعة الكتابة بقصد استثمار سلطة الكلمة في ميدان مقارعة كل أشكال الظلم. شارك في المؤتمر المذكور حوالي 600 كاتب ومترجم من جميع قارات العالم. ومن بين المحاضرات التي استمعت إليها وتأثرت بها إلى حد كبير، واحدة للدكتورة المصرية المعروفة نوال السعداوي، التي تقيم حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية حيث تمارس التدريس الجامعي. فقد تضمنت المحاضرة الكثير من القضايا المحورية التي تخص مجتمعاتنا الشرقية؛ لكن الذي استوقفني أكثر من غيره – وهو ما يتناسب مع اللحظة التي نعيشها الآن-  هو قول السعداوي بأنها لم تفكر قط الكتابة باللغة الانكليزية مع إتقانها لها، وتدريسها بها، واطلاعها الواسع على الأدب الانكليزي؛ هذا إلى جانب ما ستحققه لها الكتابة باللغة الانكليزية من عالمية يطمح إليها كل أديب. أما مسوغها في ذلك، فهو – وفق ما ذهبت إليه السعداوي في محاضرتها- أنها تكتب انطلاقاً من تجربتها الخاصة من ذاكرتها الشخصية، فهي تعود إلى حكايات الطفولة، إلى أحلام مرحلة الشباب، إلى تجربة الكهولة، وكل ذلك محفور محفوظ في الذاكرة الدفينة بالعربية، وأية محاولة لإخراجها بلغة أخرى ستؤدي إلى مسخها وتشويهها، لذلك – والكلام للسعداوي- “لم ولن أكتب الأدب سوى بالعربية”. حينئذِ شعرت وكأن ستارة سميكة قد انزاحت من أمام عيني، بل لا اخفي عنكم بأن الفكرة وقعت علي كصاعقة هزتني من الأعماق؛ قلت في نفسي يا الهي كم هي كبيرة مأساتنا، مأساتنا نحن الكرد الذين نضطر بصورة شبه مستمرة إلى التعبير عن مشاعرنا ورغباتنا، عن مخاوفنا وأمانينا، عن حزننا وسعادتنا وحبنا، بلغة أخرى مفروضة علينا من دون إرادتنا؛ إلا أن رَزو وصحبه الكرام، وغيرهم من رواد النهضة الثانية قد آلوا على أنفسهم الكتابة باللغة التي يتعلمها الأطفال الكرد في الأرحام؛ ومن هنا تأتي أهمية مثل هذه اللقاءات ، لتكون رسالة إلى الجيل الجديد من شبابنا وشاباتنا، رسالة تدعو إلى التمسك العنيد باللغة الكردية، والعمل الجاد من أجل تطويرها والارتقاء بها؛ وهذا لن يتحقق من دون القراءات المستفيضة للنتاج المكتوب الذي كتبه لنا رواد النهضة الأولى، ويقدمه على الدوام عشاق النهضة الثانية.. وليكن في البال دائما بأن أحدنا لن يكتب أبدا نصاً جميلاً ما لم يكن قارئاً ممتازاً.

جرت عدة اتصالات هاتفية بيني وبين الأخ رَزو – وحبذا لو اتصلنا أكثر لكن المرء لا يعرف متى يحل موعد القدر- تناولنا خلالها أمورا عديدة، خاصة وعامة؛ توقفنا عند وضع الكرمانجية في كردستان العراق. كان الاحترام المتبادل هو الإطار الحاضن لاتصالاتنا المباشرة وغير المباشرة؛ كنت وما زلت أتحدث مع الأخ الدكتور محمد عبدو عنه عبر اتصالاتنا الهاتفية. وما زلت أتحسر لعدم تمكني من اللقاء برَزو حين قدومه إلى السويد بقصد العلاج، فقد كنت خارج السويد، ومع وصولي وجدت أنه قد غادر إلى ألمانيا.

قبل أيام انتهيت من قراءة كتاب هام للأديب اللبناني-الفرنسي المعروف أمين معلوف، عنوانه: الهويات القاتلة؛ يتناول فيه مسألة تعددية الانتماءات التي تتسم بها مجتمعات العصر الراهن، وهو يؤكد أن اللغة بالمعنى الواسع تظل العامل الأكثر أهمية وخطورة من بين العوامل الأخرى التي تحدد هوية المرء؛ ومرة أخرى لا أخفي عنكم أنني استعدت في الذاكرة رَزو وما كان يذهب إليه دائما بخصوص أهمية الكتابة باللغة الكردية.

نعم لقد رحل رَزو بكبريائه النبيل؛ نعم نحن نقر بذلك فلا راد لمشيئة الله، لكن العزاء هو بما تركه من أثر، وغرسه من عزيمة؛ كما أن جهود الإخوة الأفاضل – رواد النهضة الثانية كما أسلفت-  المشكورة مستمرة وستستمر، لتتواصل عبر جهود شبابنا وشابتنا هؤلاء الذين من أجلهم نعمل وعليهم نعقد الأمل. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…