رواية «رهائن الخطيئة».. تنبّأ أيّها الأعمى

عباس علي موسى

إن كانت الرواية هي أغنى ما تكون في المدينة بتشابك الخيوط مع بعضها البعض وكثرة المحاور فيها، وأكثر ميلاً للرومانسية والطبيعة في الريف، فإن جغرافية الحدود هي هذان الخطان وقد أدمجا سويةً محاطةً بالألغام والأسلاك الشائكة والأضواء الكاشفة
تحاول الرواية إيجاد فسحات أكبر لأبطالها خارج المدينة/الزجاجة، حيث إدانة المدينة التي تكسرُ خُطى الحركة وتحدّ من حركتها، فالمدينة عنده هي ذاك الباص الذي يَصفه مزدحماً حد الاختناق، صاخباً ذات ضجيجٍ يكسر الصوت، والمدينة حيث يضيعُ كل شيءٍ وربما ليس آخرها الكرامة، بينما تبحثُ الرواية عن مساحات أوسع لأبطالها، وحيث الصوت والصدى ينتشران عبر السهول الجبال، حيثُ تستطيع عناصر أخرى استيعابك  كالجبال والريف الفسيح، فالأبطال حين يصطدمون بواقعهم يلجئون للرحيل لتكون الرحلة هي ما يحرك الرواية فيكون المكان متحركاً تكون حركته من أبرز مواصفاته.

– انصب فخاخك للعابرين جوار الكلمة
ترتكز الرواية منذ البداية على خطين أساسين هما الشباك المنصوبتان للإيقاع بالقارئ، فيقف القارئ في البداية أمام جدار الرواية لمعرفة دلالات العنوان (رهائن الخطيئة) والتي تبدو مُلتبسة فمن هم رهائن الخطيئة، فهل الرهائن هم أبناء “خاتونة جيايي” التي نقع عليها منذ البداية كما سيكون أول تفسير قريب يمكننا الارتكان إليه؟
أم هل تكون الرهائن قطاعاً كبيراً من الجماهير، شعباً مثلاً بمعنى سياسي كما يمكن أن تحيلنا إليه قراءتنا للفصل الأول الذي يحدثنا عن السياسة وضياع الجماهير في التعبير عن طموحاتها في الموالاة أو المعارضة، وقد……
أما مفردة الخطيئة المرتبطة كما يبد منذ ابتداء الرواية بـ” خاتونة جيايي” فهل تُحيلنا هذه العلامة إلى الخطيئة الأخلاقية والتي تبدو وكأنها مصطلح ديني، أم أنها خطيئة أخرى سياسية مثلاً كما يمكن أن تحيلنا عليه بداية الرواية وانخراطها بالفعل السياسي، هذا هو الفخ الأول الذي يوقع بالقارئ ويقوده منذ انطلاقة الرواية.
فلا يحصل القارئ على شيء يقيني، بل تخمينات تقوده حتى الصفحة الأخيرة.
أما الخط الثاني فهو فخ الواقعية التي فتحت التساؤل عن مداها في متن الرواية، فقد كُتب على الصفحة السابقة على الأحداث هذه العبارة:
“يُخطئ من يظن أن في هذه الرواية شيئاً من الخيال”
ماذا يعني هذا الكلام وما مدلولاته، فهو يفترض بالقارئ وهو منهمك في متن الرواية التي ستدخل في سياقات غير واقعية/ فانتاستيكية، لكن فليعلم أنّه الواقع بعينه، تُسهم هذه العبارة بإرباك القارئ الذي تعود على قراءة الرواية التي تكون إما واقعية مفرطة في واقعيتها تحاكي ظل القارئ أو ظل جاره في مجتمع قريب منه وأحداث قريبة منه، أو أن تكون فانتازية معتمدة على اللاواقعية والسحرية.
لكن أن تُنبهك الرواية منذ البداية إلى فخٍ سيقع فيه القارئ حتماً فيرشده إلى الفخ قبل الوقوع فيه، فيكون التنبيه بذاته فخاً آخر كما سيحصل لو أنك تنبأ أعمى على حفرة في الطريق لا بُدّ أنه سيقع فيه فـ”تنبأ أيها الأعمى”.
هُنا تكمن نقطة ذات أهمية، فالأسماء “خاتونة، علو، أحمي، هوار”، أو الألقاب”خاتونة جيايي،صوفي بيفازو،صوفي يوريا،..،أو الأماكن:”عامودا،داري،قراشيكي،…”أو حتى المكان الجغرافي الذي يبدو داخلا وخارجاً في جغرافية الآخر/جغرافية الجوار، لكن هنا يبدو المكان غير مألوف حيث تدور الأحداث على خط النار على الحدود حيث الألغام والأسلاك والثوار والمهربون والتاريخ.
ربما يكون هذا هو شطراً من “سحرية الواقع≠الواقعية السحرية ” وهذا ما يؤدي إلى دهشة قارئ المدينة، حيث تبدو له الأشياء جديدة وغريبة، إلى حد الفانتازية حيث الحديث عن الهامش والابتعاد عن المركزية التي تمثلت في سيادة رواية المدينة ومركزيتها، والحديث عن عامودا ورأسمالييها الذين ليسو سوى تجار البصل والخضرة والقصابون والعتالون.
حيثُ “علو” يحلم بثروة طائلة جرّاء احتكار البصل فيقوده حلمه إلى الانكسار والاصطدام وبالتالي استيقاظه من نومه وأحلامه، فتذرى في الهواء لأنه لا يعلم حتى قوانين الاحتكار وطرائق التخزين، وتكون الصدمة حين يقومون بحرق البصل برمته دون أن يعرف أين يوجه إصبع الاتهام، فتزداد دهشته، وتزداد حيرته وتصدعه فلا يرأب هذا الصدع سوى الموت الذي يناله المتدينون عادةً بطريقة الدعاء”إن كانت خيراً فأدمها وإلاّ فالشوق إلى جوارك يدفعنا بأن نرنو إليك” وهذا هو الحل المعاكس للانتحار “الغير متدين” فيكون الموت قراراً للخلاص.

– استقبلي حزمةً أكبرً من الضوء
تبدو شخصية “خاتونة جيايي” في بداية الرواية أنها محورية وعليها المدار والنسج، إلا أنها تبدو شخصية هادئة وغير فاعلة في الفصل الثاني، فتسير الأحداث جوارها أو حتى من خلالها دون أن تحاول تغيير دفتها، فنراها مستقرةً لا تألو على شيء، وتجري الرواية ليكونَ من يقود ديناميتها هو ابناها علو وأحمي، وتبقى كذلك حتى يقودها موت ابنها علو ومن قبلُ أيضاً رحيل ابنها أحمي إلى الحركة فنراها تتحرك أثناء السفر وكأن الصفة التي ألحقها
الروائي باسمها “جيايي=الجبلية” هي ذاتها التي تقودها لتكون محركةً للأحداث وتستقبل حزمة اكبر من الضوء.
وهي لن تكون ذات أثر في الاستقرار، وإنما في الترحال والسفر والحركة، فهي غنية بغنى الحركة ولتبدو من أكثر أحداث الرواية مدعاةً للوقوف، وتدك على القارئ سكونه، هو مشهد العبور الأخير للحدود لخاتونة التي تمر عابرة وكأنه حقل من السنابل وتأخذ الأمور ببساطة إذ أنها ستخبرُ الخفير بـ”أنها كانت قد جاءت لترى ابنها ولا شيء آخر وهي عائدة الآن من عنده” وهي ساهية عن التاريخ والزمن والسياسة حيث عبور الحدود هو عبورٌ للموت، وبالفعل تموت خاتونة برصاص الخفير الذي أنذرها، لكنها أحجمت:
“في تلك الأثناء، انتبه الخفير إلى الصوت القادم نحوه، ارتاب من قدوم تلك العجوز التي تحمل يقجة، جهل المخفيّ فيها، فأوله أسوأ تأويل،…،لقم بارودته الأمريكية، صوّبها نحوها، كي يخيفها،…وقبل أن يصل هوار سمع دويّ رصاصة”.
وهنا قد يكون استسهال الموت هو بمقدار الفقد والفراغ فهي لم تفلح بالمجيء بابنها إلى عامودا ولا شيء هناك يشدّها للبقاء فتعبر وكأنها اختارت موتها، لتعطي السر لهوار الذي هو الافتراض الذي سيقود أحداث الواقع فيحمل السر الدفين ويمضي بعدها لإكمال الأحداث أو لصياغتها.
– الصنوان
وفيما يتعلق “بصوفي علو وصوفي أحمي” اللذين يبدوان كشخص واحد يمثل أحدهما طريق التصوف والتدين وتزل بأحدهما حمى المال وتدفعه للخروج عن الخروج عن جادة التصوف والتدين الحق ولذلك نلحظ أن “صوفي أحمي” بعد أن يعبر الحدود ويبقى الصنو الآخر”صوفي علو” نرى أنّه يموت بفجائة ودون أية جلبة حيث أحداث موته تسرد كالتالي:
“قضى الصوفي علي السرختي شهيداً إثر سقوطه من فوق أكياس القمح التي كانت مكدسة في شاحنة، عندما كان ساهياً في التفكير منشغلا عن الحذر أثناء سير الشاحنة، التي وقعت في حفرة لم ينتبه لها السائق، وأوقعت الصوفي علي على الأرض، لتدهسه الدواليب الخلفية، وتهرس لحمه هرساً ..كان موته خاتمة مآسيه، وفاتحة مآسيه، وفاتحة مآسي هوار” ص 65
هنا يبدو لنا موت “صوفي علو” غير مبرر تبريراً مقنعاً وهذا ما دفع الروائي إلى سرد تبريراته المتعلقة بسهو السائق وسهو “صوفي علو” وكأنه بمثابة تخلص من الروائي من شخصية كانت محورية في الفصول الأولى، إلاّ أنّه على المستوى الفني  بمثابة تشظٍ لذلك الصنو، فهو انكسار للجانب الآخر فلنقل السلبي لصنوه الآخر فيكون “صوفي أحمي، وهوار ”
هما المكملان والمقتسمان لهذه الشخصية.

خاص طيف

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…