صلة وصلنا صحف وأخبار متفرقة

فتح الله حسيني*

هذا الصباح، هو صباح جميل، قهوتي أمامي، وصحيفتي، وأستمتع بأصوات أغاني منوعة، هادئ بعضها مثل أعصابي، وبعضها الآخر صاخب مثل سهري بالأمس، وهو، بالتالي، صباح يعديني الى أيام المرحلة الأعدادية، بينما كنا طلبة ضاجون، صاخبون، بليدون، كسالى على مقاعد الدراسة، حيث كنا ثلة من المخنوقين في بدلات “الفتوة”، نقضم أظافرنا، مللاً من الصباح الى أوج الظهيرة، ننام في بعض الحصص ونحلم بفخذ الأميرات في بعضها الآخر، ونلعن الوقت الذي لا ينتهي، الى أن يفاجئنا المدير بدق الجرس في الحصة الأخيرة، كأننا ننجو من حروب طاحنة، قلقة كانت تؤلم عقولنا، ونحن نمتحن ذواتنا أمام مرايا ذواتنا
 وما أن تحتفل، مدارسنا، وطلبتها غير البليدين، بأي عيد أو مناسبة حكومية، وما أكثرها، كان علينا، عنوة، أن نحمل مشاعلنا الى العراء، في أوج الظلام، لنضئ قتامة أعمارنا المفقوصة، وفي الشوارع العريضة نهتف بأسماء مهيبة، رهيبة، كأننا في عرس بهيج، تتخللها مواكبنا الفوضوية والهندسية معاً، لتتمرغ بدلاتنا في “كاز” المشاعل، بعد تعب مفرط، لنعود أدراجنا الى بيوتنا، ممرغين بكل وساخة الشوارع، وجوهنا أقرب الى وجوه الأشباح منها الى براءة طلبة في مقتبل العمر.

هذا الصباح، أتأمل، الشتات، الذي أخذنا أسراباً أسراباً من على مقاعد الدراسة الى تخوم المنافي غير المستقرة مثل أرواحنا، بعد أن جربنا وخربنا صنوف الأدب، وخاصة الشعر، وبعد أن تعالت صيحاتنا على مدرجات الكليات المختلفة وفي مداخل الجامعات المختلفة أيضاً، لتأخذنا الخرائط المنقوشة، وتحتضن مشاكساتنا مدن وعواصم زرناها أو لم نزرها، حالمين، بأن نكون يوماً من المتربعين على العروش، أي عرش كان، ولكن نظل متهافتين على الحياة التي نبذتنا بقوة، وما زالت تنبذنا بقوة قاتلة.
هذا الصباح، أخذني تأملي الى مدن بعيدة، كأنها سراب، مدن أحتضنت مآسي جيل مبدع كامل، لتتفرق جمهراتنا، ونصبح فرادى، هكذا، صلة وصلنا صحف، وأخبار قصيرة متفرقة، حنين يشدّ شعر حنين، في خصام ووئام تامين، مرضى هناك، وموتى في مكان آخر، وبائسون في جمهوريات بعيدة، وتعساء في مدن بليدة، وكسالى في برازخ صاخبة، وحزانى في أركان قريبة، وغرقى في شواطئ الحياة في مطارح غير محفوظة الأسماء، حيث لا يسمع أحد نبض قلبه، فترتعد ذائقتنا كأننا نحمل سيوفنا بين أفئدتنا لنقتل الوقت الذي لا يمت، بل يموتنا، هذا الوقت الكئيب، اللئيم، ولا ينتهي فـ”عمره” طيول كالسراب.
هذا الصباح، فقدت شهيتي على القراءة، وعلى الكتابة، تماماً كما فقدت شهيتي على رؤية وجه صديقة عابرة، فكان عليّ أن أكون من المستعيدين لذاكرتي الى عقود تركتنا، بل مرت من أمامي الآن ولم أنتبه اليها، عقود قضيناها كتابة، وألماً ووجعاً وفشلاً ونجاحاً وصخباً، متأبطين كل ما نملكه في حقيبة سفر صغيرة وحيدة، وأعيننا على المجهول، يقلقنا المكان، أنما كان، ذاك المكان، يقلقنا السعادة، كما يقلقنا الألم، مدرجون في قوائم نجهلها، منتمون الى أوطان تدير ظهرها لنا، نحب أناساً لا يحبذون أصواتنا، ونكره أصواتاً تموت وتغرق في حبنا، ونرحب بأناس يصفقون لغيابنا، ونعبس في وجوه مَنْ يردن لنا أن نكون من الظفار.
هذا الصباح، صباح نزق، يتحرش بحلمي، وحلمي أزل، فأكون من الشامتين بهذه الحياة، أكون على النقيض حتى من نفسي، قهوتي تبردّ، وتأملي في طيشه، وأنتبه الى نفسي، فإذ بيّ وهم، وماذا يعني أن أتأمل الله من شرفتي، وأن أعيد الى ذهني حفنة أصدقاء تبعثروا كريش حمام تلقفته طلقة صياد، أو ماذا يعني أن أكون في بلاد تائهة، وأنا بألأساس تائه في بلادتي المثيرة للسجال، أو ماذا يعني أن أطفئ سيجارتي في الهواء فأعرف أني بحاجة أكثر من ماسة الى سيجارة أخرى، وطاولتي مكان، وسقفي منزلي زمن مرّ يمد لسانه لي.
هذا الصباح، أتذكر المتنافسين على جائزة البوكر، وأقص على نفسي حكايا زوربا، وبساطته وسعادته، وأتذكر “منى” في الزمن الموحش”، فتربطني علاقات كثيرة ومتشعبة مع اللااستقرار، لأني أحب أزيز الرصاص كما يحب رياضيٌ فسحة المكان.
بعد تأملي في هذا الصباح: دعوتُ صديقتي على الغداء.. فإعتذرت بهدوء.

·       نائب رئيس تحرير صحيفة “الأمل” الأسبوعية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…