اشار غولايف بهذا الخصوص:
“لا بد من التنويه بأنه لا يجوز النظر الى التمدن في العملية التاريخية العامة كمجرد نتيجة لأهم العوامل الاقتصادية والاجتماعية, فلقد اكتسبت المدينة بحد ذاتها قوة كافية لتمارس بدورها, تأثيرا جوهرياً في تطور المجتمع الذي أوجدها”.
فمتى بدات هذه القوة المدينية وكيف مارست دورها؟ الاجابة عن هذا السؤال قد يستغرق وقتا طويلا ومساحة كبيرة من البحث والاشتغال المعرفي التاريخي والهندسي، ما حفز الكثير من مؤرخي الحضارة والتمدن في معالجته والتنقيب فيه. لكن السؤال الأكثر جوهرية ودقة: هل بدأت المدينة أولا في بلاد ما بين النهرين؟ أو في مصر وفلسطين، في الشرق الأقصى أم في أمريكا اللاتينة؟ هل حقيقة المدينة وجوهرها بدأت مع حضارة اليونان، أم انها الحلقة الأكثر تطورا في صيرورة التمدن؟
اختلفت المناهج الدراسية في تشخيص ذلك، فغولايف يبدأ تحليله لتاريخ بلاد ما بين النهرين الاجتماعي – المدني. من العصر الحجري وثورتها الحضارية, حيث انعكست فيها التحولات المجتمعية الجذرية بعناصرها الثلاث : الزراعة – تربية الماشية – المستوطنات الدائمة. ومن هذه الأخيرة وبتطورها نتجت أول المدن في تاريخ البشرية, والتي اتسمت بتمركز أبسط أشكال السلطة السياسية – الادارية فيها، وكذلك أدت المدينة الوظائف الطقسية الدينية. فرغم اكتشاف معابد قديمة في سنجار (يارم تبه) عائدة للثقافة الحلفية “نسبة الى تل حلف – قرب رأس العين في سورية ” في الألف الخامس قبل الميلاد. وكذلك رغم تطور الثقافة العبيدية فيما بعد في العراق. والأنماط الانتاجية فيها (حرفة, زراعة), الى جانب وجود تجمعات سكنية متمايزة عن غيرها بمراكزها الدينية “زقورات”. إلا أنه ليس من الدقة اطلاق مصطلح المدينة على هذه المستوطنات المتطورة. وانما ينتظر ثورة المدن من ( 3000- 2900 ) ق.م في العهد السومري والتي تبلورت فيها المدينة شكلا ووظيفة. و كان هذا التفسير آخر ما أنتجه الفكر ـ المدرسة المادية التاريخية لقرأة تاريخ التحضر بمنظار اقتصادي اجتماعي، وحصره ولادة ونشأة مكتملة في جنوب العراق.
لكن المعطيات الأثرية الجديدة تشجع على الاعتقاد بوجود مدن لها وظيفة دينية وادارية واقتصادية في شمال سورية على نهر الفرات (حبوبة في الألف الرابع ق.م على سبيل المثال لا الحصر)، وقبل ذلك بآلاف السنين تواجدت مدن جنينة على الفرات الأعلى وفي جنوب الأناضول، وربما في قلب بادية بلاد الشام في “الكوم” شمال تدمر، اذ أثبتت حفريات ودراسات جاك كوفان لعهود ما قبل التاريخ والعصر الحجري الوسيط بأن النشاط العمراني الاقتصادي الاجتماعي وانتظام المجتمعات الأولى في بادية بلاد الشام وأعالي الفرات على شكل تجمعات سكنية ذات نواة طقسية وظيفية وادارية تعود الى آلاف السنين قبل التاريخ المفترض لولادة مدن جنوب العراق.
وتظل معرفة تشكل المدن الأولى الناضجة وكاملة الوظيفة الحضرية والسياسية موضوعا للاجتهاد والدراسة، فربما نشأت المدينة من إتحاد المستوطنات الصغيرة، ولعل المدينة ظهرت في ما بين النهرين قديماً على أساس الاتحاد والاندماج الطوعي أو القسري, لعدة طوائف ريفية. أونتجت المدينة من تحول المشاعات الزراعية الى مشاعيات المدن. فثمة عشرات الآراء حول تشخيص العوامل الأساسية التي ساهمت في تشكل المدينة الجنينة الأولى, وهي تغطي في الواقع كافة الاحتمالات التاريخية على اعتبار أنها جميعاً فاعلة ومحتملة في دفع المستوطنات الصغيرة نحو التمايز والسيطرة على محيطها. رغم تباين وتدرج أهمية هذه العوامل والمحفزات بدءا: بتطور الزراعة والري، المعتقدات، المعابد، القوى المنتجة، الكتابة والتعليم، السلطة الادارية، زيادة السكان، السوق المركزية وتبادل السلع.
المدرسة التقليدية في دراسة التمدن ترجح على ان المدن السومرية هي أول المدن في التاريخ من حيث بنيتها الاجتماعية – السلطوية. وكذلك وظائفها الاقتصادية والدينية. وطابع مخططاتها الهندسية وعمارتها المميزة. ويعتقد أن مدينة “أور” كانت أعظم تلك المدن، مع أنها شيدت دون أي مخطط, بشوارع متعرجة وأبنية متراصة.
لكن وعلى الرغم من كل المعلومات والمعطيات حول دور المدينة في التاريخ، إلا أن المدينة تظل مقولة تاريخية، وهي ظاهرة اجتماعية بامتياز. ودقة معرفتها تتطلب بالضرورة معرفة معمقة بالمجتمعات التي أنتجتها وهذه المعرفة ما زالت غير كافية, أو قاصرة لاشباع هذه المسألة الاشكالية التي تكمن في تحديد سمات المدينة ما قبل الرأسمالية، والاتفاق على منشأها الأول.
وفي سياق هذه الآراء يمكن الافتراض بأن المدينة تشكلت تدريجيا وبانسجام مع الادوات والعوامل التي انتجتها. لقد كانت المدينة ذروة المنجز الحضاري وموطن جمالها وقمة تطور مجتمعاتها، لقد كانت هادئة متوافقة ومتوازنة مع محيطها العمراني ومواكبة لثقل ومساحة ريفها ومزارعها.
كانت المدن الأوائل في التاريخ تمثل بهجة الحياة الاجتماعية وذروة تطورها المنسجم، لقد كانت المكان المقدس بعينه. كانت حلم جموع البشر للعيش في رغد، كانت ظاهرة جذب وسحر, يحلم الجميع بزياتها والتبرك بمعابدها والاستماع الى كهنتها والتطلع الى منشآتها، والاستمتاع بمشاهدة قصورها والسير في حدائقها….
أما المدينة في العالم المعاصر فهي ذروة الاجتماع البشري، ومظهر من مظاهر التفاقم السكاني والتوسع المطرد للصناعات والانتاج والاستهلاك. المدينة المعاصرة هي غالبا ما تكون نتاج التناسل السريع لظواهر العشوائيات والاستغلال والفقر والازدحام والاضطراب والاستقطاب والتمركز والصراع السياسي والبيروقراطية الادارية.. وصولا لانسحاق الانسان الساكن في أجوائها…
ان المدينة المعاصرة مشكلة بذاتها تتفاقم بمعزل عن مصحلة الانسان وسعادته. انها ظاهرة تمركز واكتظاظ وتلوث، وهي جه من أوجه جنون السرعة والتراكم والنمو غير المتوافق.
ان المدينة في العالم المعاصر في أحد أوجهه تعبير ملموس وتجسيد فيزيائي للسلطة وللفوضى والانانية. وفي نهاية المطاف شكل من أشكال غياب التخطيط.
لقد باتت المدينة بتشكلها السريع للبيئة الاصطناعية تعديا على الحقول والبراري، تآكل وازاحة صارخة للبيئة الطبيعية، ومسعى خطيرا لانضغاط الاجتماع البشري وزيادة تمركزه وازداحمه وتراكمه شاقوليا في مكان محدد وضيق. حتى باتت المدينة المصدر الأول للتوتر والصراعات والتلوث والتشبث بالمكان غير المقدس دون مبرر مقنع.
ـــــــــــ