ماهر شفيق فريد وصف الترجمة بأنها: “جواهر صغيرة محكمة الصنع، ساطعة اللألاء، مصقولة الحواف، تجمع بين براعة الحِرفيّ الماهر وجيشان الروح العميق.”
أنطولوجيا: أبناء الشمس الخامسة
المقدمة
بقلم: فاطمة ناعوت
هل تخيّلتَ نفسَك مرّةً ثمرةَ طماطم، أو عنزةً، أو فقّاعةَ صابون، أو صورةً تحت لوحٍ بلوريّ فوق سطح مكتبِ كاهنٍ، أو حتى قارورةً تحوي عنصرًا كيميائيًّا فوق رفّ مُختبر؟ الشاعرُ يفعلُ ذلك وأكثر. وربما لهذا السبب قال جورج برنارد شو: “أنتَ ترى الأشياءَ وتسألُ: لِمَ؟، بينما أنا أحلمُ بأشياءَ لم تكن أبدًا وأقولُ: ولمَ لا؟” ولأن الشعرَ أداتُه الخيالُ، فإن الشعراءَ هم محركو العالم، لا الساسة. الشعراءُ يحلمون بعالمٍ أجملَ من صِنعة خيالهم، والساسةُ إما يحققون هذا الحُلم، وإما يجهضونه لصالح مزيد من القبح، وهو ما يحدث عادة.
في هذه الأنطولوجيا أقدُّمُ لكم أربعةً وعشرين شاعرةً وشاعرًا من أوروبا وأميركا عبر قصائدهم التي اخترتُها بعناية لتفرّدها بين المُنجز الشعريّ العالميّ الراهن. جميعهم معاصرون، باستثناء إيميلي ديكنسون، ابنةِ القرن التاسع عشر، التي لم أستطع أن أطَّرِحَها من هنا، انتصارًا لوحدة هذه المختارات؛ ليس وحسب لافتتاني الشخصيّ بها، بل كذلك لأن السبعَ قصائدَ التي اخترتُها لها تمسُّ بامتياز واقعَنا الراهنَ وتناوئه؛ كأنما كتبتْها إيميلي الآن. قصائدُ عن الحبِّ والوجعِ والموتِ والفقد، وهي تيماتٌ عابرةٌ الزمنَ، والجغرافيا أيضًا. والأهمُّ أنها كُتبت بقلمٍ عصريّ لا ينتمي للقرن التاسع عشر، بقدر انتمائه للحظتنا الراهنة.
أصدقاؤنا الشعراء، الذين جمعتْهم الصفحاتُ القادمة، التقيتُ بعضَهم في أرض الله الواسعة؛ عبر مهرجاناتٍ شعرية في دول العالم، والبعضُ الآخرُ أصدقاءُ افتراضيون أحببتُ قصائدَهم ووددتُ أن تشاركوني متعتي بها.
ممن التقيتهم شاعرةٌ من جورجيا اسمها مايا ساريجفيلي. كان ذلك قبل عامين في روتردام/هولندا. تَشَارَكْنا معًا، رفقةَ عديد من شعراء العالم، في مهرجان روتردام الدوليّ للشعر في دورته ال 38. فتاةٌ شاحبةُ البياضِ نحيلةٌ من مواليد 1968. قالوا في تقديمها: “شيئان لا تشبع منهما مايا، الأطفالُ والقصائد.” تلقّتْ تعليمَها حول أصول التربية والتعليم وتعملُ بالتدريس في مدرسة ابتدائية. لها أربعةُ أطفال تتفانى في أمومتها لهم. ولم يمنعها انشغالُها في واجبيها: في البيت كأمٍّ وزوجة وربّة منزل، وكذا في حقلها العمليّ كأمٍّ بديلة كلَّ صباحٍ لعشراتِ الأطفال في مدرستها، من كتابة الشعر. الشاعرُ الرابضُ في عمقها السحيق عليه أن يسرقَ ساعاتٍ قليلةً من منتصف كلِّ ليلة لكي يتنفس ويحيا. متعُها وهمومُها التي مرّ بها يومُها، كبيرُها وصغيرُها، لابد تجدُ وسيلةً ما للتعبير الشعري في قصيدتها. لذلك يخرج شِعرها مفعمًا بالطاقة والحياة، زاخرًا بالجنون والاحتفاء باليوميّ، ومشحونًا بأحاسيسَ متناقضةٍ يصنعُها شغبُ صغارها الكثيرين، هنا، وهناك.
تنهلُ قصائدُ مايا من موضوعات الحياة اليومية بموجوداتها ومواجيدها وأفعالها المعنوية والملموسة. قصيدتُها تبحث عن اللمسة الواقعية والمادية في روحها في محاولة منها للبحث عن منابع الطبيعة والقوة في عمق المرأة. كتابتها زاخرةٌ بالصور الشعرية التي هي، لفرط مباشرتها وجسدانيتها وروحانياتها في آن، تقدم صوتًا جديدًا ومائزًا في مدوّنة الشعر الجورجاني المعاصر. قصائدُها القصيرة صارخةٌ تقولُ كلَّ شيء في طلقةٍ واحدة. شاعراتُ جورجيا، من أسف، لا يحظين بالقدر الإعلاميّ الكافي ليُعرَفن عالميًّا. رغم أن الصوتَ الأنثويَّ هناك صنع مدونةً بديعةً حول طبيعة حياة المرأة في تلك البقعة الباردة من العالم، كزوجة، وكابنة، وكأم. تلك النزعة الوجودية في أعمالهن تذكِّرُنا بأعمال سلفيا بلاث التي تمثل النموذجَ الشعريَّ الأعلى لكثير من شاعرات جورجيا. لمايا ساريجفيلي ديوان شعري صدر عام 2001 بعنوان “تغطيةُ الواقع”، إضافةً إلى ثلاثِ مسرحياتٍ مسموعة بالراديو تحت عنوان: “ثلاثةُ دلاءٍ من الجليد- رجلٌ سيءٌ جدًّا- عائلةُ ليدي بيرد”. أقدم لكم هنا بعضًا من قصائدها التي ترجمتُها عن الإنجليزية، لكي تتعرفوا معي على هذا الصوت الشماليّ الدافئ، رغم صقيع المنشأ.
أما الأمريكيُّ سام هاميل، فقد التقيتُه في زيوريخ. وكنتُ التقيتُ به من قبل خلال قصائده المناهضة لكلِّ عنف فوق الأرض. فتنني عنوانُ ديوانِه “الفردوسُ تقريبًا”. قبل ديوانه حملتْ هذا العنوانَ الساحرَ كتبٌ كثيرة وأغان كثيرة. رغم ذلك يظلُّ يفتتني كلما طالعته. في سويسرا هالتني بساطتُه وطفولته وإقباله على الحياة. وهالني، للمفارقة، استغناؤه عن الحياة وترفُّعه. هكذا الشعراء. حبُّ الحياة، وعدمُ التهافت عليها في آن، الطفولةُ البِكْرُ، والنضجُ والتطوّرُ الروحيّ والوجوديّ في آن، والأهمُّ، الاستغناء والاستعلاء فوق المصالح. ليس شاعرًا من لا يمتلك تلك المتناقضاتِ الوجوديةَ التي، ربما، هي التي تمنحُه رؤيةً مغايرةً للعالم، وأسلوبًا مختلفًا في الإنصات لوقعِه وإيقاعِه. ومن ثم يغدو الشاعرُ شاعرًا. والفنانُ فنانًا. ارتقى المنصةَ، في أكبر مسارح زيوريخ، وأمام عُمْدَتها وسط حضور كثيف من الشخصيات البارزة وعدسات الشاشات، في قميص قطنيّ وبنطلون جينز، وقرأ قصائده بهدوء وبساطة كأنما يتكلم. لم أره إلا بهذه الملابس البسيطة طوال الرحلة التي استغرقت أربع مدن عطفًا على زيوريخ: بازِل، بِرْن، جنيف، لوجانو. نخرجُ مجموعةً من الشعراء لمشاهدة المعالم الطبيعية مشيًا على الأقدام، حينما يتعب، بكلِّ بساطةٍ يستلقي على العشب، وينام! لن تجد شاعرًا عربيًّا يفعل ذلك. نحن شكلانيون جدًّا، متأنقون جدًّا، نخافُ نظرات الآخر جدًّا، ونُفرطُ في البُعد عن الطبيعة جدًّا. نرتقي المنصّاتِ برابطاتِ العنق والأحذيةِ اللامعة، وتجأرُ حناجرُنا بقصائدنا العموديةُ الفخمة، ولا نجلس على الأرض، لأننا عظماءُ مُهمّون.
سام هاميل واحدٌ من أكبر شعراء أميركا المعاصرين. له ثلاثُ عشرة مجموعة شعرية. يتقن لغاتٍ عدة وله ترجماتٌ شعرية للإنجليزية عن اليونانية القديمة واللاتينية واليابانية والصينية. وأحد أبرز اليساريين الأمريكان المنددين بسياسة البيت الأبيض الاستعمارية في الشرق الأوسط. وناهض بوش علانيةً إبان غزو العراق. ورفض دعوة لورا بوش له لإلقاء قصائده في يوم الشعر الذي يقيمه البيت الأبيض سنويًّا. دشّن موقعًا الكترونيًّا مناهضًا للحرب عام 2003 عنوانه “شعراءُ ضدَّ الحرب” انضم إليه مئات الشعراء الأمريكان الرافضين غزو العراق والحروب بوجه عام. ترجمتُ لكم إحدى قصائده التي كتبها ضد بوش عام سقوط بغداد ويقفُ عنوانها توثيقًا لهذا العام الحزين، وكذا قصيدةً لرافضٍ أمريكيٍّ آخر اسمه كوري ووكر.
التقيتُ كذلك في فنزويلا كلاًّ من ليوبولدو كاستيلا من الأرجنتين، وميجِل آنخيل ساباتا، من بيرو. وساباتا من مواليد 1959. يُدرِّسُ الأدبَ الأسبانيَّ بجامعة Hofstra بنيويورك. ترجمتُ له هنا أربع قصائد. يحكي في إحداها كيف أنه فقدَ ملاكَه الحارس. تاه منه في السهول. القصيدةُ مكتوبة بلُغة الشاعرِ الأمّ أي الأسبانية. وفي الأسبانية، مثلما في العربية، الملاكُ ذَكَرٌ! على أن القصيدةَ في ترجمتها الإنجليزية جعلتِ الملاك أنثى، رغم أن الإنجليزيةَ ليس بها تذكير وتأنيث، عكس بعض اللغات مثل الألمانية والأسبانية والعربية طبعًا. ولا شكَّ أن المترجمَ للإنجليزية أراد أن يخلقَ بهذا التأنيث نوعًا من المجاز والتورية. فقد يكون هذا الملاكُ محبوبةَ الشاعر، وقد تكون أية قيمة عُليا معنوية مثل الخير والنقاء والجمال والعدالة والفضيلة. شأنَّ كلِّ قصيدة جميلة عميقة لا معنًى محددًا أو نهائيًّا يغلقُ القصيدةَ في تأويل واحد وحيد. المعنى دائمًا في قلب القارئ. أقدّم لكم هنا ترجمتي العربية لها، وهي من ديوانه الأخير “عصفورٌ في بيت بسبعة أفنية”. على أنني بطبيعة الحال اعتمدتُ “ذكورية” الملاك، للأسف، وفق لغتنا! وهذا بعضُ لصوصية الترجمة وخيانتها. فليسامحني القارئ، والشاعرُ، ولتسامحني الملاك(ـة) الإنجليزية. ذكرتني هذه القصيدة بالجملة الأخيرة من رواية “البؤساء” للفرنسي العظيم فيكتور إيجو: “ها هو يرقدُ الآن. وبالرغم من غرابة أقداره، فقد عاشَ. لكنه ماتَ عندما فقدَ ملاكَه. يحدثُ الأمرُ، من تلقاء ذاته، هكذا ببساطة، مثلما يأتي الليلُ حينما يولّي النهار.”. هل لكلٍّ منّا ملاكٌ يحرسنا، فإن ولّى عنّا ضِعنا؟ هل هذا الملاكُ ماديٌّ؟ أم هو قيمةٌ فلسفية ربما نسميها الرغبة في الحياة مثلا؟ فإن تخلّى عنّا، أو تخلينا عنه، لم تعد الحياةُ راغبةً فينا، أو ربما فَتُرَتْ رغبتُنا نحن في الحياة فسعينا نحو الموت سعيًّا حتى دون أن نفطن إلى ذلك؟ يقول الفلاسفةُ إن الشخصَ حين تضربه سيارةٌ ويموت، فهذا ليس قضاءً وقدرًا، بل إنه انتحر. شيءٌ ما جعله لم يرَ السيارةَ، أو سِلكَ الكهرباء العاري، أو القطار، فلقي حتفَه، أو بالأحرى ذهب إلى حتفِه راغبًا مُختارًا. ولا يجوز أن نذكر مفردة “ملاك” دون أن نتذكر مسرحية السويسريّ فريديريش دورنمات Dürrenmatt Friedrich التي كتبها عام 1953، وعنوانها Ein Engel Kommt nach Babylon أو “الملاكُ يهبط في بابل”. حينما هبط ملاكٌ من السماء ومعه هديةٌ أرسلها الربُّ لأفقر رجلٍ في بابل، ولم يكن هناك من هو أفقر من الشحاذ عاقي. هذا الرجل العجيب الذي يأبى إلا أن يتسوّل لكي يعولَ الشعراء والفنانين والفقراء، ثم يلقي بما يفيض من مال في النهر، كي يظلَّ فقيرًا أبدًا، ولا يكف عن التسول! أما الهديةُ السماوية فلم تكن إلا ملاكًا أنثى (مَلاكةً؟) من أجمل ما يكون. أما في الديانة المسيحية فيُقال إن ملاكًا حارسًا يرافقُ الطفلَ بعد تعميده مدى الحياة ليحميه ويؤازره. فما الذي يحدث إن تخلى الملاكُ عنّا؟ أما في قصيدة “النافذة” فيشاكس الشاعرُ الأمريكيُّ اللاتينيُّ ساباتا، الشاعرَ الفرنسيَّ شارل بودلير. لبودلير نظريةٌ فلسفية، وبصرية، فيما يخصُّ النظرَ من النافذة أو إليها. طرح نظريته تلك في إحدى أجمل قصائده عنوانها “النوافذ”. هو يرى أن الناظرَ من النافذة إلى الخارج، أي إلى الطريق، لا يرى إلا أشياءَ عاديةً مبذولةً لكلِّ من له عينان. أما الناظرُ من الخارج، أي من الطريق، صوب نافذةٍ مغلقة معتمة، يتراقصُ خلف زجاجِها لهبُ شمعة فهو راءٍ مَشاهِدَ ثريةً مفعمةً بالحياة والدهشة وإشعال العقل بالخيال. معك حق يا عمُّ بودلير، نظريتك شديدةُ العمق، وصحيحةٌ. لأن الغموضَ والإعتام من شأنهما رفعُ سقف التوقُّع إلى المدى الأقصى، وفتحُ مخروط الخيال على منتهَى الأفق، الذي لا منتهًى له. حين تشاهد شيئًا غامضًا مُخايلاً مُخاتلاً غيرَ واضح القسمات، فإن عليكَ أن تُكملَ الصورةَ الناقصة المراوغة من لَدُن خيالك. عليكَ إذًا، لحظتئذ، أن تكونَ شاعرًا ورسامًا ونحّاتًا ومُخرجًا سينمائيًا وسيناريست حتى ترسمَ المشهدَ، الذي لا تراه. هذا هو بودلير العظيم. لكن شاعرنا ساباتا القادمَ من أمريكا اللاتينية، بلاد السحر والشراسة والأساطير، سوف تشتبك “نافذته” مع “نوافذ” بودلير. هو لن يحدثنا عن النظر من النافذة أو إليها. بل سيخرقُ منطقَ الأشياء ويبني نافذةً في الطريق! كيف؟! عجبًا! الجدارُ كتلةٌ صماءُ، والنافذةُ فراغٌ في هذه الكتلة. طبيعيٌّ أن نحفرَ كوّةً في جدارٍ مصمتٍ فتصيرُ نافذةً. لكن كيف بالله نقدر أن نبني “فراغًا” في “فراغ”. أي نُشيّد نافذةً في الهواء الطلق، في الشارع؟ الشعرُ وحده يقدر. يعرف الشعرُ الماكرُ كيف يهدمُ قوانينَ الفيزياء والكيمياء والعمارة والرياضيات، ثم يجلس فوق أطلال ركامها جميعًا ويُخرج لسانه للجميع. وسوف نصفق له، رغمًا عن كلِّ ما فعل من تدمير في أجرومية المنطق والطبيعة والعلم. لأنه يضمنُ لنا فنًّا ومتعة، تجعلنا نضحي بسلامة السيد العلم. خيالُ الشاعرِ لا تعنيه قوانينُ العلماء. لأن الخيالَ سابقٌ العِلمَ وأهمُّ منه، كما قال آينشتين.
التقيتُ كذلك بكلٍّ من: الألمانية سيلفيا جايست، والإستونيّ يان كابلنيسكي، والكاتلونية مارتا بيسارودونا، حينما استضافهم معهد جوتا في مصر قبل عام، بدعوة من رابطة “الأدب عبر الحدود”LAF، Literature Across Frontiers، فكان أن ترجمتُ قصائدَهم وقرأتُها بالعربية.
كذلك التقيتُ بكلٍّ من: التركيّ سيهان إيروزتشيليك، والإسكتلندية فاليري جيليس، وشاعرٍ من ويلز هو روبرت مينهينيك، قي ورشة للترجمة في قرية كرير بإدنبره. أما كرير فربما أصغر قرية في العالم، لا تظهر على الخريطة إلا بالكاد. ستجدون هنا قصائد كتبتها فاليري جيليس في عشق هذه البلدة الجميلة. كان البيت الذي أمضينا به أسبوعًا هو الوحيد بالقرية، لا يحيط بنا إلا قطعانُ الخراف وكلابُ الرعاة والأرانبُ البريّة التي تتلصّصُ علينا من زجاج النوافذ. في ورشة الترجمة تلك كان واحدُنا يترجمُ قصائد الآخرين إلى لغته الأم، استعدادًا لقراءتها بعد أيامٍ في معرض إدنبره الدوليّ للكتاب عام 2007.
من الشاعرات الجميلات في هذه الأنطولوجيا، الإنجليزيةُ جو شابكوت. لم يسعدني الحظُّ بلقائها، لكنه أسعدني بتقديمها من قبل في أنطولوجيا “مشجوجٌ بفأس”، الصادرة قبل سنوات عن هذه السلسلة الجميلة ذاتها “آفاق عالمية”. شاعرةٌ تحتفي بالموجودات غير العاقلة وغير الحيّة إلى درجة أن تبثَّها من روحها. تتقمّصُ مرةً كيانَ ثمرةٍ تقبع في ركن الثلاجة تعاني الصقيعَ وتنتظر بلهفة أن يفتحَ حبيبُها الدُّرْجَ السُّفليَّ حيث ترتعدُ بردًا، لكي يختارَها هي، دون كلِّ الثمرات الأُخر، ويقضمها فتتدفأ بلعابه وتذوب داخل عصاراته الهاضمة. تتحلّل داخل جسده، لكنها، فيما تموت كثمرة، تتعلم صيغةً جديدة للحياة. “أُحسُّ بأوراقي الخارجيةِ تفقدُ مقاومتَها/ يتسرَّبُ الأكسجينُ القاتلُ إلى عٌمقي/ فيما يتسلَّلُ الماءُ بعيدًا/ والخَدَرْ./ الخَدَرُ يزحفُ شيئًا فشيئًا/ نحو قلبي/ هنا، بقاعِ الثلاجةِ/ حيثُ الصمتْ./ فقط أنا/ مع خَسَّةٍ مُتَعَرِّجةٍ ونِصْفِ بَصَلةٍ/ ينفتحُ بابُ الثلاجةِ مراتٍ عديدةً خلال اليوم/ لكنَّه/ أبدًا لا يَفتحُ دُرْجَ الخُضَرِ/ هنا/ حيث أقبعُ في ركني/ مُنكمشةً على عزلتي/……/ لكنْ/ سرعان ما أشعرُ بالدِّفءِ مجددًا/ حينَ أفكرُّ فيه/ أذوبُ مع لُعابِه/ أمرُّ على حلقِه/ ثمَّ تهضِمُي خلاياه/ حينئذٍ/ أتعلَّمُ خلالَ ذوباني/ صيغةً جديدةً للحياة/ أتغضَّنُ/ أذبلُ وأموتُ/ ثمَّ/ أتفتحُ من جديدٍ على الحُّبِّ”. ومرّةً هي عنزةٌ ترعى في مرج وتلتهم كل ما يقابلها من مبانٍ وجسور وعشب وبشر. “الغسقُ/ وطريقٌ صحراويٌّ/ وفجأةً/ غدوتُ عَنزةً./ للأمانةِ/ استغرقَ الأمرُ دقيقتين/ حتى ينبثقَ القرنانِ من جُمْجُمَتي،/ حتى يتمرَّدَ عموديَّ الِفقَريُّ/ ثم يستقرَّ على نحوٍ أفقي/ حتى تلتصقَ أصابعي هكذا/ وتتخذَ أظافري طريقَها نحوَ التطَّورِ/ فتغدو حوافرَ.” ومرةً تتخيل نفسها قطرةَ ماء تسقط فوق صفحة بحيرة فتجتهدُ أن تحافظَ على توترّها السطحيّ[1] المحيط بجسدها المائي كيلا تذوب وسط الماء من حولها. ومرةً هي راعيةُ أغنامٍ ترعى قطيعَها الذي سوف يتسللُ إلى بيت حبيبها ثم يدخلُ عليه الحمّام فيما هو مستلقٍ في البانيو، فيشرعُ القطيعُ في قرْض أظفار قدميه. ومرة تهبُ قواريرَ متراصةً فوق رفِّ أحد المختبرات روحًا، فتجعلها تتأملُ مشهدَ حبٍّ بين رجلٍ وامرأة يعملان في المختبر كتقنييْ كيمياء. يفتنُها المشهدُ فتغمز لهما، القواريرُ، متواطئةً مع قصة الحب الوليدة. “عند الفجر/ غمزتْ صفوفُ القوارير/ للزوجين المُنهكيْن/ الواقفيْن جوار صوان الدخان”.
وفضلاً عن التيمةِ الفنيّة التي تنهجها شابكوت من خلال “أنسنة” الموجودات والجماد والحيوانات ما يجعلُ عالمَها ثريًّا واسعًا غيرَ منغلقٍ على البشر وحسب، إلا أن وراء هذه التيمة دلالاتٍ فلسفيةً، وربما سياسية، أعمقَ من أن نمرّ عليها مستمتعين، وحسب، بِطاقةِ الشعر الخبيئة داخل هذا اللون من الشعرية. تذهبُ النظرياتُ الفلسفية، بل والفيزيقيةُ أيضًا، إلى أن كلَّ شيء في هذا العالم يحملُ طاقةً كامنة Potential Energy. وهي طاقةٌ خبيئةٌ داخل جزيئات المادة بالقوة وليس بالفعل، حسب التعبير الفلسفيّ. وذهبتْ بعضُ شطحات الخيال الإبداعيّ والفلسفيّ إلى أن هذه الطاقة بوسعها أن تجعلَ الجمادَ يشعرُ ويتألمُ ويحبُّ بل ويغار. ولعلّنا نذكرُ المسلسلَ الأمريكيّ الشهير “العربة الطائشة” حيث السيارةُ الصغيرةُ العتيقة “هيربي”، ماركة فولكس فاجن، تغارُ على مالِكِها حين فكّر أن يستبدل بها سيارةً جديدة حمراء. فراحت هيربي تنتقم من الغريمة الفاتنة حتى حطّمتها. وفضلاً عن الخيال الشعري الجامح في قصائد شابكوت، بوسعنا أن نضع أيدينا على دلالاتٍ سوسيو-سياسية حين نتساءلُ هل قطرةُ الماء التي تقاومُ الذوبانَ في الماء لها علاقةٌ ما بالعولمة، لو اعتمدنا الرمزية في التأويل؟ وما هي طبيعةُ هذه العنزة التي تلتهم الكونَ والبشر؟ هل هي القوة الأولى المهيمنة على العالم؟ أم غولُ الصناعة الذي طغَى على روح الوجود؟ أم هي مجردُ عنزةٍ مشاغبة ترعى في براءة وتلهو بما يصادفها؟
أما سُهراب سِبهري. فيُعدُّ أحدَ أهمِّ شعراء إيران المعاصرين. ورغم موته قبل تسعة وعشرين عاما (1928-1980)، إلا أن شهرته لا تزال مُشعّةً وراسخةً حتى اليوم. وفضلاً عن تعميده شاعرًا، إلا أنه فنانٌ تشكيليٌّ فائقُ الجمال، ليس وحسب لأنه تخرج في كلية “الفنون الجميلة” جامعة طهران، لكن ببساطة لأنه فنان. عمل بعد تخرجه في وظائفَ حكوميةٍ عدّة، ثم استقال منها جميعًا عام 1964 ليهِبَ حياتَه بعد ذلك لجناحيْ الإبداع الخفّاقين: الشعر والرسم. طار إلى أميركا ليعيش فيها عامًا، ثم باريس عامين، ليرسم خلال تلك السنوات ما لا يحصى من لوحاتٍ تقطرُ العذوبةَ نفسَها التي قطرتْ من قصائده. لكن الموتَ انتقائيٌّ نخبويٌّ أرستقراطيٌّ، كما هو عبثيّ. لذلك ضربه السرطانُ عام 1979، فمشى إلى إنجلترا في محاولة لهزم ذلك الذي لا يُهزَم. ثم، في عام 1980 من طهران آن أنْ يطير إلى هناك، إلى حيث لا يعودون، ليتوقفَ عن الطيران، وتتوقف ريشتُه عن ضخِّ اللون، وقلمُه عن مشاكسة الورق. ليرقدَ في نفس البقعة التي شهدت مسقط رأسه، في مدينة كاشان بإيران.
من بين العديد من قصائده العذبة التي تذيب القلبَ رقةً، ترجمتُ لكم، عن الإنجليزية، بعضَ ما يجعل نفوسَنا تسمو وتعلو على صغارات الدنيا. يقدم في قصيدته “أنا مسلم” مفهومًا راقيًّا عن العقيدة، كما يريدُها اللهُ لنا، نحن أطفالَه وعباده الصغار. تأملوا معي القصيدة وانتشوا.
أما أندريا يونج، فشاعرة أمريكية شابة، تضامنت مع قضايا العرب. فترجمت لها العديد من القصائد التي تصِفُ افتتانَها بالشرق وجغرافيته وعراقة حضاراته، من المغرب إلى العراق مرورًا بالسودان ومصر والشام، وطبعا فلسطين، الجرحِ العربيِّ الذي لا يبرأ. من دون أن تنسى أن تشير إلى حقولِ القمح الذي تأخذه بلادُها من بلادِنا. إحدى قصائدها كتبتْها ليلةَ قصْفِ إسرائيل لبنان عام 2006، وفي أخرى تخاطب زوجَها العربي البعيد، أثناء القصف خلال متابعتها ما يجري من أحداث دموية فاشية، تليق بإسرائيلَ ولا تليق بالإنسانية. كذلك من ضمن القصائد واحدة كتبتها الشاعرةُ في صبيحة اليوم الذي أطبقتْ فيه إسرائيلُ أنيابَها على عنق بيروت الناصع. فآثرتُ أن أترجمُها، ربما لكي نعيد حساباتنا في محاولة الفصل الموضوعيّ بين النظام الأمريكي العنصريّ الجائر، وبين الشعب الأمريكيّ الواسع، الذي بعضُه، بالطبع، نَقْلِيٌّ مُضلَّلٌ ومأخوذٌ بما يبثّه له البيتُ الأبيض في إعلامه من تصريحات مضادّة للعرب، فيما بعضُه الآخرُ من اليساريين العقليين الذين يفكرون ويحللون ويعرفون جيدٍّا أين يكمن الظلمُ والجَوْرُ والفاشية، وأين تختبئ العدالةُ الموءودة في هذا العالم أُحاديّ السيادة. آنـدي يونج شاعرةٌ أمريكية شابة، تزوجت شابًّا مصريًّا ويعيشان معا في في نيو أورليانز، إحدى الولايات الأمريكية. أصدرت عدة دواوين شعرية وتقوم بتدريس الأدب والكتابة الإبداعية في جامعة نيو أورليانز منذ عام 2000. كيف انشغلت هذه الأمريكية بأجواء الشرق، العرب خصوصا؟ وكيف لم تستنم لسياساتِ البيت الأبيض وترويجه الإعلاميّ الضدّ-عربيّ؟ وهل للزوج دورٌ في هذا؟ أم أن نظرتَها المُحبّةَ للعرب هي التي دعتها للزواج من مصري؟ هي أسئلة قد ترِدُ على ذهن القارئ بعدما يطالع هذه القصائد التي ترجمتُها افتتانًا واحترامًا.
شاعرٌ أمريكيٌّ آخرُ فتنه الشرقُ، هو روجر هامز الذي تنهلُ قصائدُه من الموروث العربيّ، سواء الحضاريّ أم الدينيّ الإسلاميّ. سوف نقرأ رؤيته قصةَ النبيّ إسماعيل، عليه السلام، الذي توقفتِ السكينُ إكرامًا له، وأبَتْ إلا أن تفتديه بأُضحيةٍ سماوية. تلك السكينُ التي لا تعرفُ رُقيَّها ونُبلَها قنابلُ وصواريخُ إسرائيل التي تحصدُ رقابَ أطفالِنا ونسائنا كلَّ يوم، على مرأى ومسمع العالمين!
وفي الأخير، أرجو أن تكون مختاراتي هذه مساهمةً بسيطة في إيصال الصوت الآخر، الصادح من بعيد، من وراء خطِّ الأفق.
القاهرة- أبريل 2009