كانت خطبة جمعة في يوم صيفي؛ المرة الأولى التي أدخل فيها جامع قاسمو لحضور خطبة وصلاة الجمعة، مقتدياً بالشيخ الشهيد محمد معشوق الخزنوي. كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي، منذ قرابة واحد وعشرين عاماً، المرة الأولى التي أرى فيها الشيخ الخزنوي، إماماً وخطيباً لأهم جوامع مدينتنا الصغيرة قامشلو.
موضوع الخطبة لا أتذكره، قد مر عليه زمن طويل، ولكن ما يشدني لأتذكر تلك الجمعة، هو الجامع نفسه، حيث بات يمسي أهم مكان لبدء الحراك السياسي والنشاط الشعبي الكردي في المدينة، سرعان ما يجتمع المئات أو ربما الآلاف أمامه، إذا أطلق نداء أو أعلن عن مظاهرة أو اعتصام. الجميع يعرفون العنوان، انه في الحي الغربي من المدينة، على الدرب الواصل بين قامشلو وعامودا.
جامع قاسمو، أو جامع الوحدة كما هو مكتوب على واجهته، بني في عام 1958 وسمي باسم الوحدة كمباركة للوحدة بين سوريا ومصر، ولا يذكر أي من رواده بأن أحداً من أنصار الوحدة قد صلي فيه! انه جامع قديم، على سطحه منارة حديدية بارتفاع بضعة أمتار، المنارة عليها ميكروفون صغير فقط للنداء للصلاة.
في مدينتنا الصغيرة، وأقول صغيرة لأنها بالفعل كذلك، حيث أن مساحتها لا تتجاوز بضعة كيلومترات مربعة، قرابة ستين جامعاً، وبضع كنائس مسيحية، وكنيس يهودي واحد.
أشهر تلك الجوامع، الجامع الكبير والمكتوب عليه باللغة التركية (BÜYÜK CAMI) وبالانكليزية (THEBIG MOSQUE) هو أقدم جوامع المدينة، بني وطبقاً لخادمه محمد علي محمود موسى في عام 1936، وتم تجديده في عام 1960. بني الجامع علي يدي المهندس ديكران مانوك خجادوريان، صاحب أشهر مطحنة في قامشلو، مطحنة مانوك والتي أممت فيما بعد، كان ديكران خجادوريان، معمارياً أرمنياً شهيراً.
الجامع الكبير يقع على طريق (قابي) أو البوابة باللغة التركية. القابي يفصل بين قامشلو ونصيبين التركية. المدينتان متشابهتان تقريباً، نصيبين مهتمة بها أكثر من قامشلو، طبعاً من قبل الحكومة التركية.
أما الجامع الآخر، فيقع على الدرب بين قامشلو وديريك، واسمه جامع الشلاح، مسمى على اسم أحد المتبرعين ببنائه، أحد أفراد عائلة الشلاح الغنية جداً في سوريا، بني في عام 1950 وبجواره شعبة أوقاف قامشلو، وبالقرب منه حلويات الملك، أشهر من يصنع الطيب والنيب في المدينة، وكذلك اللقم، والشعيبيات.
هناك أيضاً جامع زين العابدين، الذي يقع في ساحة السبع بحرات، بالقرب من هوائي الهاتف والتلفزيون، لطالما حلمت بأن اصعد إلى أعلى ذلك الهوائي، لكني لم أحاول قط.
أما جامع ملا حلبجة، فيقع في قناة السويس، السورية طبعاً وليست المصرية؛ إن قناة السويس حي كردي كبير، تمت تسميته كذلك تيمناً بقناة السويس الشهيرة، وشتان بين القناتين، فلا بحر عندنا وحتى نهر جقجق البائس الذي يقسم قامشلو إلى غربية وأشيتية، بعيد عن قناتنا.
ملا حلبجة كان إمام الجامع، وذات مرة دعا الناس إلى الوقوف حداداً علي أرواح ضحايا مجزرة مدينة حلبجة الشهيدة، وسمي بعد ذلك بملا حلبجة. الكنائس عديدة، وأظن بأن قامشلو، تحتضن كنائس كل الطوائف المسيحية في المدينة، السريانية، والأرمنية والكلدانية، الشرقية منها والغربية. هناك نصب تذكاري جميل يرمز للإبادة الجماعية التي تعرض لها الأرمن في عشرينيات القرن الماضي، إن النصب في كنيسة أرمنية.
الكنيس اليهودي الوحيد، هو في شارع الحمام القديم، وقد بني في عام 1938 لكنه موضوع تحت سيطرة مؤسسة أملاك اليهود المهاجرين. في مقابلة مع دافيد بلحاس أو المعروف بالمدينة بأبو ألبير اليهودي، قال لي “إن مدينتي، أهلي، أصدقائي، مجتمعي، تجارتي، كل تلك الأشياء منعتني من الهجرة عن سوريا، بل أنصح كل يهودي سوري هاجر بالعودة إلى الوطن، هنا الوطن وليس مكان آخر” بعد نشري لهذه المقابلة سمعت أن أبو ألبير هاجر إلى أمريكا، “لاه يا أبو ألبير لسا ما نشف الحبر علي الورقة”. قامشلو كان فيها بضعة آلاف من اليهود حتى تسعينيات القرن الماضي، لكنهم رحلوا جميعاً، فقط موسى الابن الأصغر لأبو ألبير مازال هنا، وأظنه سيسافر بعد أن ينهي معاملاته التجارية.
قاسمو، أي جامع حزين أنت، تجتمع أمامك كل المسيرات والاحتجاجات، وتخرج من ساحتك الكثير من الجنازات، وأنت صامد كما أنت، انك شاهد حي على كل أحداث المدينة. شاهد لن يموت أبداً.