في سفارة عربية

صلاح علمداري

رغم ان السفارة… تعود لدولة عربية فقيرة تعيش على مساعدات دول النفط والاخرين الا ان سعادة السفير اراد لمعقله هذا ان يضاهي في ارستقراطيته وفخامته سفارات دول النفط نفسها و دول اوربا . اما ضيوفه هذه المرة فلم يكونوا دبلوماسيين ولا مسؤولين كبار او رجال اعمال . بل لفيف من المغتربين من دول عربية عدة جاؤو لمعايدة السفير او ربما لاعلان تضامنهم معه في الظروف الصعبة التي تمر بها حكومته وشعبه .. هؤلاء المغتربين قلما اجتمعوا بهذا العدد من قبل لكن ها هي الصدفة او ربما الغيرة او النخوة قد جمعتهم على كل حال. اما الرغبة في التحدث والثرثرات فهي التي ابقتهم جالسين رغم غياب السفير .
 الاعياد والمناسبات هي هكذا تجمع الناس من مختلف الشرائح والمستويات والاعمار.. كما هو الحال هنا في سفارة عربية فالخلاف والاختلاف بين المجتمعين – ضيوف السفير الغائب – بدا واضحا منذ اللحظة الاولى ابتداء من اختلاف الشكل والملبس الى اختلاف السلوك واداب الحديث والاراء والتفكير …
كانت البداية باحاديث وهمسات جانبية تدور بين كل اثنين او ثلاثة واستمر الحال رغم محاولات / يايا / (كما يناديه ابناء البلد بلغتهم واسمه يحيى) المتكررة في ادارة الجلسة وتقديم نفسه احرص على الهدوء وعلى مسافة واحدة من الجميع والتمهيد للدخول في مواضيع عامة و حديث مركزي يشارك فيه الجميع بدلا من الاحاديث الجانبية لكن ادارة /يايا/ للجلسة انتهت حين دخل احدهم مبشرا ام محذرا – لست ادري بالضبط – بانهم قادمون .. ليضع حدا للارتباك الواضح في سلوك وتصرفات موظفي السفارة الذين لم يتعودوا – على ما يبدو –على التعامل مع هذا العدد من الناس لا كضيوف ولا كمراجعين وكذلك للحركة الفوضوية وللاحاديث المبتذلة والعابرة التي استمرت طويلا…
خيم الصمت والسكون كما في اللحظات الاولى من تشغيل الفلم في صالات السينما ..دخل السفير ومرافقاه صافحوا الجميع ثم اخذوا امكنتهم في صدارة المجلس .
في الوقت الذي التفت البعض الى السفير ودخل معه في مجاملات وسلامات كان صديقي الذي الازمه يحدثني عن ثروة ومشاريع السفير ويخبرني ان المبنى الذي يضمنا هنا بطوابقه الثلاث تعود ملكيته للسفير وهو مسجل باسم صديقته الاجنبية و يتقاضى على ذلك من حكومة بلاده اجرا شهريا مقداره ….الاف دولار امريكي !
توقفت الحناجر للحظة مفسحة المجال للرجل ذو القدر والوجاهة وصاحب المكان….
– اهلا بكم في السفارة فهي بيتكم وبيت كل عربي ..وابوابنا مفتوحة ونحن سعداء … وفخورين انها جمعة عربية.. في الغربة تزول الحدود ونتوحد نحن العرب …. اعيادكم سعيدة…………..
– ومن لنا غيركم كبير نعايده ؟ ( قال احد الحاضرين ) السفراء العرب الاخرون لا وقت لديهم لاستقبال المغتربين العرب من الدول الاخرى حتى في الاعياد والمناسبات رغم ان في هذا البلد لا وجود لرعايا دولهم …ان اكثرية العرب هنا سوريون وسوريا لم تفتح سفارة هنا بعد…
–العيد في الغربة لا طعم له (اردف ثان ) لكن جمعة كهذه تضفي على العيد بعض الالق.
– هكذا لقاءات ضرورية بين فترة واخرى فهي على الاقل تخفف من الشعور بالعزلة والضعف والغربة .. ( قال اخر ) .
وبدا الجميع يشارك في الحديث ويتجاذب اطرافه …
– بعد ان نخرج من هنا سيلتهي كل واحد بنفسه ومصالحه وينشغل عن الاخرين الى ان تحل مناسبة اخرى او يحل عيد اخر – ليس هناك ما يجمعنا .
– وماذا يمكن ان يربطنا اكثر من كوننا عرب ومسلمون ؟ .
– القصد هو التنسيق والتنظيم ففي بلاد الغربة لا شيء يجمعنا و مقر رابطة المغتربين اصبح مكتبا تجاريا ! – الامر بحاجة الى ادارة وتنظيم و… ونحن لا نحب العمل المنظم . – يبدو ان الامر – قال السفير مشاركا في الحديث – ليس بهذه البساطة فنحن اكثر من عشرة سفراء في هذا البلد لا نلتقي الا نادرا ! علما ان اللقاءات والتنسيق من صلب مهامنا كدبلوماسيين وكعرب وكلنا مجتمعين لا نقوم بنصف ما تقوم به سفارة اسرائيل بمفردها في هذا البلد من نشاطات ونسج علاقات ….
– طبعا لان كل سفارة تمثل بلدها وحكومتها
– – لا بل تمثل الحاكم ومزاجه ومصالحه …
– العلة الاساسية في القادة والحكام فاذا اتحدوا اتحد العرب واذا تفرقوا تفرق العرب اليس كذلك ! .
–ثلاثمائة مليون عربي يتحكم بمصيرهم وارادتهم بضعة اشخاص ( حكام ) !. نهض السفير اثر مكالمة هاتفية الى الغرفة المجاورة … لكن المجتمعون تابعوا حديثهم الحزين
– الموضوع اشبه بالرعاة والقطعان اذا .. اين ارادة الملايين من الناس ؟
– ومتى كانت لنا ارادة ؟ من منا يستطيع ان يعبر عن ارادته ؟
– الحاكم هو الذي يعبر عن ارادتنا .
– دعونا من حديث السياسة بالله عليكم ( اراد احدهم ان يغير مجرى الحديث )
– عما سنتحدث اذا الرياضة ؟! الموسيقا ؟ حتى هذه اصبحت ملوثة بالسياسة لا بل حتى لقمة العيش . – لماذا نهرب من الواقع .. ندفن رؤوسنا في الرمل …. نحلم اننا امنون .
– ارى ان نحولها الى سوق عكاظ ( قال احدهم بلهجة مازحة ) يتحدث كل واحد عن مغامراته مع النساء ! ونتبارز في الوصف و في الشعر ….
– وبماذا سيفيدنا الشعر هذه الايام ؟ جاء الرد صارما من حنجرة يابسة
– على الاقل نجد في الشعر وفي التاريخ ما نفتخر به
– سحقا لاولئك ايضا فلم يرثونا الا دواوين شعر وعشرات المرادفات لكل كلمة ..
– انحارب اسرائيل بشعرهم في عيون هند ومؤخرة بثينة !
– على الاقل هم ابدعوا في الشعر فنحن ماذا فعلنا ؟ ضاجعنا الفتيات الاجنبيات ؟ ركضنا وراء شهواتنا وغرائزنا ؟
– لو ان اسرائيل كانت موجودة في ذلك الزمان ربما اخترع العرب الصواريخ بدلا من دواوين الشعر . فعندما خاضوا الحروب كانوا اهلا لها فقد وصل العرب الى مشارق الارض حتى الصين ومغاربها حتى الاندلس
– هنا مربط الفرس ..كان العرب …فعل العرب … قال العرب ….الماضي ايضا ….بالله عليكم اين العرب من كل ما يجري لهم الان ؟ امريكا ترسل الجيش و الاساطيل من وراء المحيطات للحرب علينا وتحتل بلدا عربيا بالكامل والعالم الاخر لا يكتفي بالتفرج علينا بل يتهمنا بالارهاب ويتشفى بنا واصبحت صورتنا تقترن بالقتل والارهاب ونحن لا حول ولا قوة ولا وحدة كلمة ! ؟
اين الشعوب العربية من كل ما يجري لها ولاوطانها ؟ لعمري اننا في اردا زمن عربي …
– الناس هنا في هذا البلد كانت حتى قبل بضع سنوات تحترم العرب اما لاسلامهم او لنفطهم ومالهم اليوم اصبحنا مهزلة واصبح العربي وكانه لا يناسب مقاسات العصر
– مقاطع البلوتوث عن بطولاتنا في القتل والنحر اصبحت مالوفة لدى الجميع
– العربي صار رمزا للارهاب في السابق كان سكان البلاد هذه يسالوننا عن عاداتنا وخيرات بلادنا وعن ديننا والكعبة والاسلام … اليوم صاروا يسالوننا بذعر فيما اذا كان ثمة فرق بين طريقة ذبح البشر وذبح الشاة حسب شريعتنا !

واستمرالحديث ..ودلا كل بدلوه مبديا عدم رضاه من الوضع القائم والسفير لم يخرج من الغرفة و لم يعد ثانية الى مجلسه و ضيوفه ومرافقاه ايضا انسحبوا من المجلس بطريقة غير ملفتة …و عبر النافذة الزجاجية شوهدت سيارة السفير تغادر…
تدخل /يايا/ بهدوء اعصاب محاولا التنفيث عن الاحتقان السائد بطريقته الخاصة فطلب من الحضور الصمت بلهجة حزينة ملفتة حسب الجميع للوهلة الاولى ان مكروها ما قد حدث او ان المكالمة التي انشغل بها السفير طوال الفترة الماضية في الغرفة المجاورة قد حملت اخبارا سيئة … سوى القلة ممن كانوا على علم بان السفير قد غادر منذ فترة طويلة!
– ما رايكم ان احكي لكم قصة ( قال يايا ) ….نكتة ولكن غير مضحكة اسمعوها … وقد لفت باسلوبه اهتمام وانتباه الجميع اضافة الى ان تدخله جاء – ربما – في عين المكان والزمان لانهاء هذا الحديث الذي لا بداية له ولا نهاية لا راس ولا مؤخرة كحبة العدس ..
– ان الاسرة ( بدا يايا بطريقة اكاديمية واسلوب جاد) هي النموذج المصغر للوطن…… امضى افراد الاسرة مجتمعين الاب والام والاطفال ….امسيتهم في المنزل بمشاهدة التلفزيون .. لم يفهم ابن الاسرة اليافع بعض المفردات التي سمعها من تلفزيون حكومة بلاده اثناء سرد نشرة الاخبار فسال اباه عنها
– ماذا تعني الدولة يا ابي؟ والامة العربية؟ والجماهير الشعبية؟ والطبقة الكادحة ؟
اضطر الاب لان يشرح ويفصل االعبارات ولكي يقربها من ذهن الولد شبه نفسه بالدولة. دولة = بابا …يعطي الاوامر و يؤمن الخبز ويدافع عن الاسرة والبيت … والامة العربية شبهها بالام . الامة العربية = امك التي تنتمون اليها انت واختك و.. , و الجماهير الشعبية شبهها بالاولاد = انت واخوك واختك اما الطبقة الكادحة فشبهها بالخادمة السيريلانكية…. وهكذا رسم الاب لابنه صورة مصغرة مفهومة لحزمة من الكلمات اقتنع بها الولد لاول مرة رغم انها تتردد عشرات المرات في اليوم الواحد في التلفزيون وفي المدرسة وفي الشارع وعلى اثرها اوى الى الفراش قرير العين .
استيقظ الولد هذا في وقت متاخر من الليل على لكمات اخته وقد استسلمت للذعر والخوف تخبره ان لصوصا –ربما – تسللوا الى ارض الدار … قفز الولد من سريره وتوجه مباشرة نحو غرفة نوم والديه للاستنجاد بالاب ( الدولة )الذي اخذ عاى عاتقه قبل قليل مهمة الدفاع عن الارض والدار فوجد الام ( الامة العربية ) نائمة لوحدها ! و الاب ( الدولة ) غير موجود! لمح وهج الضوء من غرفة الخادمة ( الطبقة الكادحة ) ! ركض في الاتجاه فشاهد والده فوق !..
تراجع الى الخلف وتلاشت على الاثر فورته وثورته … يضرب الاخماس بالاسداس مستغربا وهو يردد( اللصوص يسرقون الدار والامة العربية نائمة والجماهير خائفة مذعورة والدولة تركب الطبقة الكادحة فماذا افعل ؟؟؟ )
– ماذا ترانا نفعل ؟ قال /يايا / …….. ضحك الجميع … سكت الجميع !…… انصرف الجميع !.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…