جلجامش من الملحمة إلى المسرحة قراءة في تجربتين مسرحيتين للأطفال

 أحمد اسماعيل اسماعيل

مدخل:

قد يكون التراث ذاكرة جمعية، أو تاريخاً حقيقياً،أو وهمياً،أو الخزان الذي يحوي في داخله سير وحكايات الإنس والجان، السادة والعبيد، الأبطال والأنذال، الخالدين من الآلهة والفانين من البشر، قد يكون ذلك كله، وهو في ما قد يكونه، يعتبر ماضي الشعب، جزءاً من ذاته، هويته،حلقة من سلسلة حلقات تاريخه، التاريخ غير المدون بأقلام الرسميين وكتبة السلاطين. هذا التاريخ الذي تتطلب إعادة كتابته، العودة إلى التراث، بصفته التاريخ غير الرسمي، الجامع لما هو واقعي وخيالي، وما هو حقيقي ووهمي، ليس بقصد إحياء ما حدث، بل بقصد تصحيح ما يحدث، أو ما قد يحدث، إضافة إلى مقاصد وغايات أخرى تتجاوز ما يتعلق بما هو تاريخي صرف.
لقد كان المسرح من أكثر الفنون قدرة على تحقيق هذه المعادلة الحضارية المتقدمة، لما يتسم بها من صفات مشابهة لتلك التي يتميز بها التراث مثل الحيوية والشعبية، ولما يمتلكه من قدرات وإمكانيات على إحياء المادة التراثية، تطويعها واستثمارها. ولعل ذلك يدل على عمق العلاقة التي تربط بين المسرح والتراث، والتي بدأت مع بداية المسرح الإغريقي النموذج، أو غير الإغريقي أيضاً؛ فقد قنع أبو الدراما الإغريقية أسخيلوس (بما يتساقط عن مائدة هوميروس من فتات)، وعاد أبو الدراما العربية مارون النقاش إلى التراث في مسرحيته الثانية (أبو حسن المغفل)، ولم يعد يطرق باب (البخيل الغربي) بالرغم من غناه، وانتهج هذا الأسلوب جيل الرواد الأوائل، أمثال أبي خليل القبّاني، خليل اليازجي، فرح أنطون، إبراهيم رمزي وأحمد شوقي.. ثم الجيل الثاني من الرواد الذين قرنوا الإبداع بالتنظير، من أمثال: يوسف إدريس، توفيق الحكيم، سعد الله ونّوس، عز الدين المدني، عبد الكريم برشيد وآخرين كثيرين. فتنوعت أشكال وطرائق تعاملهم مع التراث، مادة وصيغة جمالية، وهم في كل ما أنتجوه من نصوص وعروض وتنظيرات، في مسعى جاد وحثيث لتأصيل، أو التنوير، أو التثوير، توجهوا بخطابهم إلى شريحة أو فئة من المتلقين، هم فئة الكبار أو الراشدين، فلم يحقق هذا المسعى كل أو بعض ما كان يصبو إليه من مقاصد وغايات، وذلك لأسباب تتجاوز ما هو ذاتي مسرحي، إلى ما هو سياسي، تاريخي، تربوي ومعيشي.
كان من الممكن، أن تكون النتيجة غير ما أصبحت عليه، لو عني المسرح العربي بشريحة الأطفال عنايته بالراشدين،فالطفل بصفته ثروة مستقبلية،سيشكل استثمارها، بعد الكف عن هدرها إنجازات ونتائج تفوق ما تم تحقيقه في مسرح الراشدين،ناهيك عن أن تحقيق ذلك سيكون أكثر يسراً من مسرح الكبار، على اعتبار أن إعادة التربية للكبار أصعب، بما لا يقاس، من التربية الموجهة إلى النشء، جمالية كانت هذه التربية أم غير جمالية. فبالرغم مما قد يحصده المجتمع من مسرح الطفل، فإن هذا المسرح حين يستلهم التراث بدراية ودقة، سيضاعف محصوله المادي والمعنوي، من خلال تعميقه العقل النقدي لدى الطفل، مواطن المستقبل، فيبني مع تراثه علاقة سليمة، يكون الحاضر فيها المنطلق، لا التخندق في الماضي، الأمر الذي سيسهِم في نزع الميول غير الحضارية، أو الصحية، مثل العدمية، والسلفية الشوفينية، عن وعي وروح الطفل. وكل ذلك يحتاج من المسرحي الاستلهام لا النسخ، والانتقائية في اختيار المادة لا الاعتباطية أو المزاجية، وبما تحتويه المادة المستخدمة من عناصر الحياة، وتلائم احتياجات الطفل والمجتمع ومقتضيات المرحلة المعاصرة.
في هذا السياق لم يعدم مسرح الطفل نصوصاً استخدمت المادة التراثية،فتعددت المصادر، وتنوعت الأساليب، واختلفت المعالجات، ففي سوريا مثلاً، قدم كثيرون مسرحيات استخدمت التراث لأسباب تربوية، وطنية، اجتماعية وعلمية، ومنهم عادل أبو شنب، فرحان بلبل، هيثم يحيى خواجة، سليمان العيسى، عيسى أيوب، عبد الفتاح قلعه جي وغيرهم. بعض هؤلاء أصاب الهدف في ما اختار وعالج من مادة تراثية،وبعضهم جانب الصواب في ما سعى إليه بسبب انحرافه نحو النسخ لا الاستلهام أسلوباً، والوعظ والإرشاد مقصداً، دون مراعاة جملة من الشروط، مثل: حسن اختيار المادة التراثية، مراعاة المرحلة العمرية، واستيعاب الخصائص الأساسية لمسرح الطفل، فنياً وفكرياً. وقد تعددت مصادر استخدام المادة التراثية العربية والإنسانية، الدينية، الشعبية والأسطورية، في المسرح، ويمكن تعرف تجربتين تناولتا مادة واحدة من التراث، هي ملحمة جلجامش.
جلجامش الملحمة:
تؤكد المصادر المتعلقة بهذه الملحمة إنها دونت قبل 4000 عام تقريباً، وترجع حقبة حوادثها إلى أزمان أبعد من هذا التاريخ[1]، ولعل أحدث نسخها يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد؛ ففي سنة 1853 تم العثور على اثني عشر لوحاً في المكتبة الشخصية العائدة إلى الملك الآشوري أشور بانيبل مكتوباً باللغة الأكدية.وتبدأ بعبارة هو الذي رأى كل شيء[2]،والمقصود بالضمير (هو) جلجامش، البطل الذي ثلثاه آلهة وثلثه الباقي بشر، وقد حكم مدينة أوروك السومرية 126 عاماً، ونسبت إليه أعمال بطولية ومغامرات خارقة، من بناء الجسور، قطع البحار، قتل الوحوش العملاقة، تحدي الآلهة، ممارسة البطش والاستبداد بحق أبناء شعبه، البحث عن الخلود والتقائه بالخالد  أوتوبتشيم من خلال رحلته المعروفة وعودته منها بنبتة الخلود أو تجديد الشباب، والتي سرقتها منه حية وهو غافل.
هذه الملحمة التي تحوي من القضايا الإنسانية الخالدة مثل: الموت والخلود والجنس والعلاقة مع الآلهة، وتتسم بكل ما يتصف به الأدب العظيم، أسلوباً ومعالجة فنية، أشبه بنهر الفرات الخالد،لم تمتد إليها الأيدي بالتحوير أو التحريف أو التعديل، مما جعل منها مصدر إلهام واستقاء لآداب قديمة وحديثة.
جلجامش المسرحية:
شهد مسرح الكبار العديد من الصياغات وأساليب الاستفادة من هذه الملحمة التي ركزت أكثر ما ركزت على قضايا ومواضيع تخص وتناسب متلقيه الراشد. ولم يعدم مسرح الطفل أيضاً بغيته في هذه الملحمة الإنسانية، واكتفى في عملية صياغتها بأساليب فنية وفكرية معينة لتناسب المتلقي الذي يتوجه إليه. ومن الكتاب الذين استخدموا هذه الملحمة في نص مسرحي للطفل، الكاتب السوري عبد الفتاح قلعه جي، والكاتب العراقي طلال حسن، اللذان اتفقا في جوانب، واختلفا في جوانب أخرى فنية وفكرية.
في مسرحيته ميشو ومارد الغابة[3] تناول عبد الفتاح قلعه جي بتصرف درامي وفكري القسم الأول من نص الملحمة، وهي تدور حول صراع جلجامش مع أنكيدو، ثم صداقتهما وتوجههما نحو غابة الأرز لمحاربة حارسه خمباب (خمبابا) وأسره ومحاكمته، لا قتله كما ورد في نص الملحمة الأصلي. دون متابعة ما تبقى من الجزء الثاني من الملحمة والمتمثل في رحلة جلجامش عبر البحار والغابات بحثاً عن الخلود، وما يتبع ذلك من أحداث لا تناسب وعي وروح واهتمامات الطفل، وهو الجزء الذي لم يتطرق إليه طلال حسن في مسرحيته أنكيدو[4]، بل عاد إلى جزء آخر سابق على نص الملحمة المعروف، وهو جلجامش وأكا  الذي أورده كرامر  في (نصوص الشرق الأدنى القديمة) ويتلخص في قصة صراع جلجامش ملك أوروك مع أكا ملك مملكة كيش السومرية، الطامع في مملكة أوروك، وهذا الجزء (ليس جزءاً ناطقاً بالمثيولوجيا السومرية، فلا يوجد تدخل من قبل الآلهة، وقد ورد هنا بسبب تدليله على أن شخصية جلجامش مستقاة من مصادر سومرية) [5]. وطلال حسن الذي عنون مسرحيته باسم أنكيدو لا لأنه ذو بأس شديد، أو غريم جلجامش الذي يضاهيه في قوة اللب والبأس، كما ينشد شاعر الشعب السجين، بل لأن على يديه، كما يؤكد هذا الشاعر ويأمل الشعب المظلوم، ستـنال أوروك الراحة والسلام[6]. غير أن مخلص أوروك، بدلاً من أن يخلص شعب أوروك من حاكمه الظالم، الذي لم يترك ابناً طليقاً لأبيه، ولم يترك عذراء في المملكة، قاده الكاتب باتجاه تخليص أوروك جلجامش، لا أوروك الشعب،كما أرادت له ربة الخلق أورور، استجابة لدعاء شعب أوروك المظلوم.
أنكيدو: أريد شالتي.
جلجامش: شالتي حرة. ولها أن تختار.
أنكيدو: وأريد أوروك.
جلجامش: أوروك؟!
أنكيدو: كما تريدها شالتي. حرة. سعيدة.
جلجامش: أوروك لن تكون حرة، سعيدة تحت سيطرة ملك كيش. أكا.
أنكيدو: أنت على حقّ (بعد لحظة صمت) جلجامش.
جلجامش: نعم. أنكيدو.
أنكيدو: لنتوقف.
جلجامش: حسن. لنتوقف[7].
مركزية هذه المقولة، أو المقدمة المنطقية التي عالجها الكاتب، تبناها (قلعه جي) في مسرحيته ميشو ومارد الغابة، بمعالجة مختلفة، ورؤية عصرية وديمقراطية، إذا صح التعبير هنا، ودون أن يجعل من أنكيدو البطل المخلص، أو المنتظر، وفي الموقف نفسه الذي يقفه طلال حسن في (أنكيدو)، لا يصالح كيدو (قلعه جي)  هذا الحاكم الظالم، ولا يصافحه، ولا يسير معه للدفاع عن أوروك ضد خمباب (خمبابا) دون أن يسبق ذلك توفير المقدمة الأساسية لهذا الفعل الوطني المشروط:
كيدو: أنا لا أصافح من لا يحب جميع الناس ويكون صديقاً لهم. [لعل المراد “ولا يكون صديقاً لهم”]
ميشو: سأحب جميع الناس، وأكون صديقاً لهم، لن يكون هناك مظلوم في شعبي، هل يعجبك ذلك؟
كيدو : نعم. (يتصافحان ويتعانقان)[8].
بين هذا السعي إلى بناء وعي تراثي نقدي، وشخصية مستقلة غير مستلبة، في نص ميشو ومارد الغابة، والاستلاب المعاد إنتاجه درامياً وفكرياً في نص أنكيدو، المسيء إلى الطفل ومسرحه وإلى التراث أيضاً. ثمة كثير مما تجب الإشارة إليه، والوقوف عنده، من قضايا ومعالجات وبناء درامي، وذلك في مقارنة بين النصين.
إذا كانت الشخصية المسرحية هي عماد النص المسرحي، والمركز الذي تدور حوله بقية عناصر النص، فإن البدء بها، يحقق المدخل الصحيح إلى بناء النص. فالملاحظ في نص ميشو ومارد الغابة أن الشخصيات المستمدة من التراث، قد انفصلت عن جذرها الأساس في عملية المعاصرة، وذلك بدءاً بالأسماء التي تم تحويرها مثل: (جلجامش= ميشو) (أنكيدو=كيدو) (ننسون= ميسون) (خمبابا= خمباب) وانتهاء برسمها وبنائها وبالتالي منطقها، وإضافة شخصيات جديدة غير موجودة في نص الملحمة الأصلي مثل المهرج زكزك، وقاشو بن جلجامش.
فإذا كان من المبرر درامياً وجمالياً أن تشمل المعاصرة كل عناصر المادة التراثية، وأن يتم ترجيحها في مسرح الطفل خاصة، مع ما يناسب هذا المتلقي نطقاً ومنطقاً وعوالم واحتياجات، فإن عصرنة (قلعه جي) لها قد نزع عنها الكثير مما يحدد هويتها التراثية، وقد أسهم استخدام تقنيات ومفردات معينة بقصد المعاصرة في كسر بعض زوايا إطار النص التراثي نفسه، مثل: الدراجة الهوائية، الأسلحة النارية، الزي الأمريكي، زي رجال الفضاء، ومفردات أغان لا تمت بصلة درامية أو فكرية أو جمالية إلى عالم النص المصدر،مثل الأغنية التي رددت بمناسبة عقد الصداقة بين البطلين (كيدو وميشو):
شمخة :      أنــا أحـب البندورة       لم تنقرها العصفورة
الجميع :     شـمخة تحب البندورة              لم تنقرها العصفورة
شمخة :      مـفـرومة ومعصورة              مطبوخة بالباذنجان[9]
إضافة إلى حوار ميشو والصياد الذي يتحدّى الملك المستبد، وحديث المهرج المستهتر مع هذا الملك، وموقف خمباب (الأمريكي) الذي سرق سنبلة الحياة، ويظهر في قاعة المحكمة طيـباً وجاهلاً بما كان يصنع من شرور. مقابل ذلك نجد طلال حسن في بنائه  لشخصيات مسرحيته (أنكيدو)، أكثر محافظة على منطقها وعوالمها، وبما يتناسب مع مقولة النص وعملية الإسقاط السياسي الواضح أشد الوضوح، وعلى كافة المستويات:أسماء وعلاقات ومواقف،حتى الشخصيات التي منحها جرعة من المعاصرة من خلال أقوالها،أصواتها وهمومها،مثل شخصية كل من الشاعرين، والتي هي مجرد صوتين (صوت الشاعر السجين وصوت الشاعر السلطوي) وشخصيتي الشابين (الأول والثاني) وشخصيات أخرى  متفرقة، رجحت فيها كفة عالم التراث على كفة المعاصرة، مما انعكس سلباً على الوسيط المسرحي.
هذا القرب والبعد من التراث أو مسرح الطفل بين الكاتبين، وبما يشبه العلاقة العكسية،كان له فعله المؤثر في الحوار أيضاً، فالحوار في نص قلعه جي بسيط،واضح، قصير،مستمد من القاموس اللغوي للأطفال، بيد أنه، وفي الوقت نفسه، يفتقد إلى ما يؤكد أصله التراثي، ويتسم، بقدر معين، بعدم التمايز، و التقويل؛ فلغة جميع شخصيات النص تكاد تكون واحدة، يستوي في ذلك المهرج زكزك مع العفريت خمباب، والحاكم ميشو مع الصياد الفقير أو مع خمباب،وقد أضفى هذا التشابه نوعاً من الافتعالية على الصراع في النص، والذي لم تستطع الكوميديا أن تشحنه بالحرارة المطلوبة:
زكزك: هوو. غَيَّمَتْ. ضَبْضَبتْ. جاء العفريت خمبوب.
خمبوب: (يدخل) ها. ها. أنا خمبوب، مارد غابة الأرز (يشم) أشم رائحة إنسي.
ميشو: (يبرز. يصرخ بقوة.يلوح بالكرة الحديدية) أنا ميشو.ملك أوروك.تعال واجهني يا خمبوب.
خمبوب: أنت تتحداني يا مشمش؟
ميشو: مشمش في عينيك، أنا ميشو[10].
وبخلاف ذلك جاء الحوار في نص أنكيدو معبراً بوضوح وقوة عن منطق الشخصيات وطبيعتها ذات الجذر التراثي القوي، ساهم بما اتسم به من حرارة وحيوية،في تطور الحدث،وإدارة الصراع بطرف خفي وظاهر. وبلورة مقولة النص:
القائد:مولاي, أنا وكل جند أوروك معك، تقدمنا دفاعاً عن أوروك، وشعب أوروك، ومستقبل أوروك.
جلجامش: باركتك الآلهة. والآن علينا أن ندعو مجلس الشيوخ للاجتماع هذا اليوم.
القائد: الأمر لك يا مولاي.
جلجامش: تفضل أنت.
القائد: أمر مولاي. (يخرج).
جلجامش: (في الوسط) أكا.إنني أنتظرك،تعال وسترى بأم عينيك، أوروك،وجلجامش أوروك.
            (يقف جلجامش جامداً. يخفت الضوء بالتدريج)[11].
بالرغم من لغة النص غير المستمدة من مفردات قاموس الأطفال في أي مرحلة من مراحلهم العمرية، وبالتالي غير المناسبة، بهذا القدر أو ذاك، لمسرح الطفل، فإنها لم تفتقد الانسجام مع باقي عناصر النص من شخصيات، بيئة، مقولة وزمان، وكل ذلك في حبكة متقنة، وصراع صاعد متواتر غير ساكن وغير متقطع، يتجلى في تمظهرات عدة من حركة، فعل، كلام ومونولوج.
فعالية المرأة-الحب:
في نص الملحمة تقوم البغي بترويض أنكيدو، الكائن العجيب الذي خلقته الإلهة أورور من لطخة طين، فيتبعها، بعد ستة أيام وسبع ليال من المتعة بمفاتن جسدها، إلى أوروك، وقد خسر صحبة الحيوان ووحوش البراري، وكسب الحس والفطنة والفهم، أوروك حيث (الحمى والسور، إلى البيت، المشرق، مسكن آنو وعشتار،حيث يعيش جلجامش المكتمل الحول والقوة)[12].كما ورد في نص الملحمة الأصلي.
أما في نصي قلعه جي وطلال، فقد تم استبدال الحب بالجنس، والفتاة العذراء بالبغي، ومهمة الترويض من أجل خدمة الحاكم جلجامش، إلى الترويض أو التمدين من أجل مقاومة الحاكم، أو خدم أوروك، وذلك بما يتناسب مع طبيعة المتلقي الصغير، والمقولة، أو المقدمة المنطقية لكل من النصين المسرحيين، غير أن هذا التوافق في عملية الاستبدال، يعقبه اختلاف في عملية التوظيف والمعالجة.فشالتي الفتاة المطاردة من قبل جنود جلجامش في مسرحية أنكيدو، يكاد يقتصر دورها على ترويض الرجل الوحشِ الذي صادفته في البرية وقادته إلى البيت الذي لجأت إليه هرباً من جنود جلجامش، لا تربيته أو تمدينه،ولم يفلح تعليمها إياه أصول تناول الطعام، واللبس، والكلام، وتلقينه بعض المعلومات عن حقيقة جلجامش،سوى عن تأهيله كعبد يقوم بأعمال الخدمة في البيت الذي آواه مثل:جلب الماء، الرعي وتنظيف الزريبة.. وليس كبطل أو مخلص لشعب أوروك من بطش حاكمه. ويتجسد جل تمرده على الصراخ والتهديد كرجل بدائي حين يعلم بخطف شالتي من قبل جنود جلجامش، ثم يستكين ويهدأ بطلب من العجوزين صاحبي البيت الذي آواه، وبعد المبارزة مع جلجامش يكتفي بحرية شالتي دون حرية شعب أوروك، ويهب للدفاع عن أوروك جلجامش لا أوروك الشعب، ويصاحب هذه اللافاعلية الدرامية والفكرية،لافاعلية المرأة شالتي، وذلك على الرغم من المساحة الواسعة التي شغلتها شالتي كوجود وحضور مادي في النص.
تكمن المفارقة في هذه المعالجة بخصوص المرأة ودورها في تربية وتمدين الرجل والحياة، أنها تكاد تتخلف في هذه القضية بالذات عنها في نص الملحمة الأصلي، الذي تعود سنة كتابته إلى أربعة آلاف سنة، ولعل السبب في ذلك يعود إلى منطلق وهدف هذه الصياغة أو العودة إلى هذا النص، والمتمثل في تكريس المرحلة المعاصرة بكل ما تحمله من معوقات النهوض بالإنسان المهدورة كرامته، الأمر الذي يتعارض مع مسوغات العودة إلى الماضي فنياً، لخدمة ما هو إيجابي ومتقدم في الحاضر، وتطوير شخصية الطفل تراثياً، جمالياً، أخلاقياً ومعرفياً، والذي يتحقق باختيار المادة التراثية القادرة على المساهمة في تعميق الفكر النقدي لدى الطفل، وبما يحقق أفضل علاقة مع الماضي، كحلقة في سلسلة حلقات التاريخ، تتحدد عملية بعثه في مدى صلاحيته وقدرته على دعم وتطوير احتياجات الطفل وواقعه.
وقد جهدت مسرحية ميشو ومارد الغابة في تحقيق ما يمكن تحقيقه في هذا المجال، من تفعيل دور المرأة وربط حرية الوطن بحرية المواطن، وبناء علاقة جدلية بين التراث والطفل، بعيداً عن التقديس والتبعية والعدمية، وقد خاب هذا الجهد في إصابة هدفه في أماكن، وأصاب في أماكن أخرى؛ فخمشة يتجاوز دورها مجرد الترويض أو العناية بأنكيدو، إلى التربية المستقلة الفاعلة، الأمر الذي يثير غضب الحاكم جلجامش الذي أراده عبداً لا حراً.
ميشو: لماذا لم يأت كيدو ويقدم لي الولاء والخضوع، ألم أرسلك إليه لتعليمه؟
شمخة: لقد علمته كل شيء جميل في الحياة. ولكني لم أعلمه الخضوع.كيدو إنسان حر لا يخضع لأحد. يمكن أن يكون صديقك وليس عبداً لك[13].
لا يغفل الكاتب إبراز أثر هذه التربية في سلوك ومواقف كيدو، وذلك برفضه مصافحة الطاغية والتعاون معه على محاربة العدو خمباب سارق سنبلة الحياة، دون أن يقترن ذلك بمنح الحرية والسعادة لشعب أوروك، ويمثل هذا الطرح الموقع المتقدم الذي انطلق منه الكاتب في تعامله مع التراث وحسن التقاطه لقيمة جوهرية ومفهوم حيوي مسكوت عنه في المرحلة المعاصرة، والذي تعد معالجته فنياً مساهمة في تربية الطفل تربية وطنية وحضارية سليمة، وكان لحضور المرأة الدرامي غير المقتصر على ما هو مادي، دوره في توليد حوافز أخرى، اجتماعية، تربوية، إنسانية.. إضافة إلى قيم عديدة أوردتها مسرحية أنكيدو أيضاً، بيد أنها لم تحسن استثمارها بما يخدم الطفل وواقعه، ويسهم في تحرير وعيه وقدراته من قيود الاستلاب واللافاعلية، وذلك نتيجة توظيفها في خدمة مقولةٍ،الأولويةُ فيها لأوروك جلجامش ، لا أوروك أنكيدو، أو أوروك الأصوات التي كانت تهجس باسم أنكيدو المخلص.
من الطبيعي، والحال هذه، أن تتفاوت فاعلية حضور الرعية، أو المواطن، أو ابن الطبقات الدنيا، الدرامية أو الفكرية في النصين.ففي مقابل الحضور المادي والدرامي الفاعل لأبناء هذه الشريحة في مسرحية أنكيدو، والمتمثلة في بداية النص في أصوات:صوت الشاعر، صوت امرأة،صوت فتاة، صوت شاب، ثم في شخصيات أخرى أكثر أهمية درامية مثل الفتاة شالتي، والعجوزين، و الجنديين.. إلا أن ذلك كله كان منـزوع الفاعلية،والتي منحها الكاتب،بهذا القدر أو ذاك، لشخصية جلجامش دون غيره في نص تميز ببراعة درامية واضحة،بما يفوق نص ميشو ومارد الغابة في هذا الجانب، ويتخلف عنه في جوانب أخرى، مثل الجانب الفكري والتربوي. ففي نص ميشو.. يقترن حضور هذه الشخصيات بفاعلية واضحة،و إن بتبرير درامي غير مقنع تماماً،فالطفلة فضة ابنة الصياد تترأس محاكمة خمباب دون فعل يبرر ذلك،والصياد يتحدى الملك،والفتاة شمخة تعارض رغبة الملك بتحد.
يطول الحديث في هذا النوع من المقارنة التي استدعاها تشابه الموضوعين اللذين استقيا مادتهما من مصدر واحد هو ملحمة جلجامش.وقد يكون من المفيد أن يشار أخيراً إلى عنصر المكان في النصين، العنصر الجمالي الذي لا يقتصر على الجانب الجغرافي،ويضفي على الشخصيات طابعه وصبغته، وفي هذا المجال يشهد للكاتب عبد الفتاح قلعه جي على براعته في رسم وهندسة المكان    في كل ما أبدع من نصوص للكبار والصغار،وفي نصه هذا لم يغفل عنايته بهذا العنصر،غير أنه، وفي سعي منه إلى عصرنة الحدث والشخصيات،يحدث ما يشبه الخلل في وظيفة ودلالة المكان الأسطوري،غير المعاصر، الذي بناه وحدد معالـمه،من خلال العلاقة مع الشخصيات التي تزيت بأزياء وأجهزة وأدوات معاصرة، كما ورد في تحديده المكان في بداية القسم الثاني من المسرحية:
(تتم تغييرات بسيطة في الديكور [ديكور القسم الأول، غير المعاصر] بحيث يبدو المنظر غابة من أشجار الزيتون. شجرة أرز كبيرة. بئر زيت. جانب من جدار متهدم. جذع شجرة مقطوعة على الأرض، سياج، يدخل خمبوب وهو يلبس كرجال الفضاء، أو كجندي أمريكي، مدجج بالأجهزة والخراطيم التي تبدو كأذرع أخطبوطية،وهوائي فوق خوذته، يحمل بيده فأساً)،وبالمقابل نجد أن المكان في مسرحية أنكيدو بلا علامات، أو ملامح، يستدل عليها، أو تمكن القارئ والمتفرج الصغير من فك شفرته، وهو يكاد يقترب في بعض المشاهد من اللامكان، ومثال ذلك نجده في المشهد الأول من الفصل الأول، إذ يكتفي بالوصف (ظلام، قرع طبول، يضاء جلجامش، لغط)، ويحدد الكوخ، دون أي إيضاح أو تفصيل، مكاناً للمشهد الثاني، وفي مشهد آخر يكتفي بهذا التحديد للمكان (غرفة في قصر جلجامش) هذا الخلط، والفقر في تحديد جغرافية المكان، كعنصر واقعي أو جمالي، يخل بشرط من شروط النص المسرحي الموجه إلى الطفل، تراثياً كان مصدره أو مادته، أم غير تراثي، والذي يلعب دوره في تشكيل أفق توقع المتلقي الصغير قراءة أو مشاهدة، ويوفر له الجانب المعرفي والجمالي. وهو في مجال التراث بالذات، يفقد عدم العناية الدقيقة بالمكان، الهدف الرئيس من أهداف عملية الاستلهام أو العودة إلى ما هو تراثي أو تاريخي، والمتمثل في الجانب المعرفي والتخييلي والجمالي، وفي جوانب أخرى تسهم في بناء علاقة الطفل علاقة سليمة وواعية مع التراث، وتقوي لديه جهاز المناعة النفسية والعقلية ضد كل ما هو غير أصيل وإيجابي في ماضيه، وغير حضاري في واقعه.
قد يحتاج البحث في مجال استخدام التراث، في مسرح الطفل، إلى وقفات أشمل وأعمق. حيث إن استلهام المادة التراثية: أسطورية كانت أم شعبية أم دينية، ليست مجرد رحلة استكشافية إلى الماضي، أو عودة إليه بقصد تمجيده،أو نبذه،أو الاستمتاع به،بل للاستثمار الواقعي لعناصر تراثية، تاريخية، جديرة بالحياة، قادرة على المساهمة في بناء الواقع بناء سليماً وناهضاً،من أجل الطفل.. وبالطفل أيضاً.

ورقة البحث : في الملتقى الوطني لأدب الطفل- الجزائر-من 16-19 فبراير-شباط
 

هوامش ومراجع:

1 –  باقر، طه: “ملحمة جلجامش”، دون تاريخ أو مكان نشر، ص (10).
2 – المرجع نفسه، ص (23)
3 – الخواجة، هيثم يحيى: “نصوص مسرحية للأطفال”، دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، 2005 ، ص ص (45-79).
4-  حسن، طلال: “أنكيدو”، مسرحية للأطفال، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سورية، 1999.
5- هوك، صموئيل هنري: “منعطف المخيلة البشرية- بحث في الأساطير”، ترجمة: صبحي حديدي، اللاذقية، سورية، دار الحوار، ط1، 1983، ص (30). 
6-  حسن، طلال: “أنكيدو”، ص (13).
7-  حسن، طلال: “أنكيدو”، ص (90).
8- الخواجة، هيثم يحيى: “نصوص مسرحية للأطفال”، ص (62).
9- الخواجة، هيثم يحيى: “نصوص مسرحية للأطفال”، ص (64).
10- الخواجة، هيثم يحيى: “نصوص مسرحية للأطفال”، ص (73).
 11- حسن، طلال: “أنكيدو”، ص (72).
12- باقر، طه: “ملحمة جلجامش”، ص (43).
13- الخواجة، هيثم يحيى: “نصوص مسرحية للأطفال”، ص (61).

– مجلة الحياة المسرحية العدد 72 -2010

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…