معيداً الاعتبار إلى شجرة الشعر.. محمود درويش: أنا أتعلم من قصيدة النثر

إبراهيم اليوسف
 
يعد الشاعر محمود درويش إلى جانب مكانته كأحد أهم أصوات الشعرية العربية المعاصرة، واحداً  من أهم كتاب النثر المعاصر على الإطلاق، وذلك بعيداً عن تحديد موقعه في العد الترتيبي الذي قد يثير إشكالات لا نهاية لها، على اعتبار أنه نفسه كان يطلق مثل تلك الصفة على سواه* بروح الشاعر أو الناقد، وهو كلام آخر.

ولقد لفت الناقد د. صبحي حديدي الانتباه إلى كتابة محمود درويش لقصيدة النثر، وليس النثر الفني وحده، فحسب، كما أشار إلى ذلك الشاعر حسان عزت في تحقيق أجريناه في “الملحق الثقافي لجريدة الخليج” 
حيث أشار إلى أن الافتتاحيات التي كتبها درويش  لمجلتي” شؤون فلسطينية” والكرمل” لتعد ذات أهمية كبرى، لما تمتلكه من سحر العبارة، وفرادة توظيف المفردة في خدمة ظل المعنى الذي يركز عليه الشاعر، بل يتاخم الشعر، فتحلق عالياً، ما كان يدفع بكثيرين ممن يستغلق عليهم فكّ شفرة غامض الشعر، أن يقبلوا على قراءته، لأن النثر أكثر قابلية للفهم، مادامت السهولة تكاد تكون أحد شروط النثر.
 
هناك من لا يزال يناقش واقع قصيدة النثر من داخل مفاهيمية نقدية تقليدية، واعتماداً على عناصر غيرها،  وهذا ما يشكل تجنياً كبيراً عليها، لأنه ينبغي  تقويمها انطلاقاً من داخلها، لا كما يتم الحكم عليه من الخارج.
لقد طور محمود درويش اكتشافاته المتفردة في الاشتغال على القصيدة، وتمكن اعتماداً على خبراته الواسعة، ورؤيته الثاقبة، وضع اصبعه على بؤر جديدة في المفردة، من الممكن أن تفتح لها آفاقاً   جديدة، مذهلة، وهو ما اشتغل عليه منذ السبعينيات من القرن الماضي وحتى نصوصه الأخيرة، التي تخلص خلالها من سطوة  الأنساق القديمة التي كان الفكاك منها جد صعب، ويحتاج إلى جرأة المواجهة. وإن كان في إمكانها أن تعطي النسق الجديد الذي يشتغل عليه أبعاداً أخرى، وهو يزاوج بين ما يلتقطه من مكونات وعناصر مهمة في قصيدة التفعيلة،  وما توصلت إليه حفرياته، وتنقيباته غير المستنفدة التي كانت في متناول أبي حيان التوحيدي والمتصوفة وبعض رموز أبولو  وبعض الدادائيين العرب، وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وغيرهم كثيرون، كتجربة سابقة، اتكأ عليها  ضمن مشروعه في عالم قصيدة النثر، والمغاير، الذي يطفح برائحة أصابعه، ما يسجل له علامة فارقة، وما يشير إلى ضرورة أن يكون في كل تناول جديد لفضاء قصيدة النثر تسجيل إضافة في الكشف، لا الاكتفاء بالتكرار الببغاوي الذي يجعل من الكتابة  في مستوى نثري دوني، لا أهمية له، ولا طائل منه،  وهو ما يقع في شراكه-للأسف- كثيرون من الموهومين، بل إن مثل هذا الوهم ليستمر عند بعضهم منذ عقود وحتى الآن.
طبيعي، أن شاعراً كبيراً بمقام درويش، وصاحب مشروعات ثقافية كبرى،  من ضمن برنامجه-كما قيل-  قبل أن يختطفه الرحيل المباغت، كان منذ قصيدته الأولى مشغولاً بتجاوز الذات، ما دعاه للتنكر لمجموعته الأولى التي طبعها، وإن  راح يثبتها ضمن أعماله الكاملة، وهو ما لم يتخل عنه خلال ما يقارب نصف القرن من  علاقته العبقرية مع القصيدة، فكانت كل قصيدة لا تذكر بالسابقة عليها، بل تشكل فتحاً جديداً في تجربته، ليعد بذلك واحداً من أهم شعراء العربية ، وقد كان قارىء هذه اللغة في انتظار جديده، غير المستنفد، مادام أنه يمتلك سر الإبداع الذي لا يصدأ، ولا يبهت بريقه، ولا يفتقد سحره، وديمومته، وألقه.
من هنا، كان توق الشاعر يدفعه- بعد كل قصيدة- إلى أن يستزيد من مثل كشوفاته الكبرى، حيث ضاقت بإبداعاته تلك القيود التي بات يخففها، كما يشاء هو، ليكتب قصيدة جديدة، يتجدد شرطها في كل مرة، وكان بذلك أن أكمل مغامرته صوب بوار النثر، ليوقد في ترابه جنائن الشعر، ما دامت هذه التربة أوسع مما يمكن لأصص معدودة من أن تحتفظ به من تراب، طالما كررته الأشجار والغراس عبر خمسة عشر قرناً من عمر القصيدة التقليدية.
أجل، بعيداً عن مثل هذا الضرب من النثر، فإن دارسي شعر درويش أشاروا إلى أنه كتب الكثير من قصائد النثر، وإن مثل هذه الكتابة التي تبلورت في مجموعاته الشعرية الأخيرة، لم تكن نقطة البداية في كتابة هذه القصيدة من قبله، بل إن د. صبحي حديدي ليشيرإلى أنه  في  مجموعته” أحبك أو لا أحبك” التي صدرت في العام 1972 إنما قد وشحها بقصائد نثرية أيضاً.
 
وإذا كان كثيرون من أنصار قصيدة التفعيلة، بل وقصيدة العمود، لطالما أدلوا باستشهادات من الشاعر محمود درويش يواجهون بها كتاب قصيدة النثر، لما فيها من ذم مقذع بحقها، يكاد يصل إلى درجة  ذلك الذم الذي بدر عن الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وهو في ذروة ردود فعله تجاه شعراء قصيدة النثر، وربما ليس تجاه القصيدة نفسها، وهو موضوع آخر، إلا أن موقف الشاعر درويش لمختلف تماماً، فهو ليس مجرد مستسيغ، أو محبذ لنماذج إبداعية راقية، لا يمكن إنكارها من قصيدة النثر، وإنما هو منتج  متحمس لها، بل إنه راح يفلسف رؤيته لهذه القصيدة، وكأنه يرى فيها- الجناح الآخر- لطائر الشعر، الذي طالما عميت عن رؤيته بعض الأبصار.
 
وإذا كان الشاعر محمود درويش قد أصدر بين مجموعتيه الشعريتين” عصافير بلا أجنحة 1960 وأنت منذ الآن غيرك2008 عشية رحيله، واعتباره مجموعته ” لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي، والتي صدرت بعد رحيله2008    بأن لها وضعاًخاصاً ، فإن الشاعر أصدر بذلك ستة وعشرين كتاباً أكثره مجموعات شعرية، فإن مجموعته” أحبك اولا أحبك” والمطبوعة بعد اثني عشر عاماً على إصدار مجموعته الأولى التي طبعها في وقت جد مبكر من عمره، إن تلك المجموعة جاءت في ذروة تألق إبداع محمود درويش عربياً، وتبلور رؤيته الشعرية، حيث ضمت” ست قصائد نثرية” بل  و إن ما جاء من كتابات رفيعة ساحرة عالية أخاذة،  في عدد مجلة الكرمل الذي خصص بمناسبة غياب الشاعر، وغيرها الكثير ليؤكد بجلاء مدى ولع محمود درويش بالنثر.
وقد  أصدر درويش مجموعته الشعرية” كزهر اللوز أو أبعد” التي في العام 2005 بعبارة لأبي حيان التوحيدي، وهي: أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم”   وهو- أي التوحيدي- كان قد أشار في مكان آخر” في النثر ظل النظم- بحسب دراسة د. حديدي( محمود درويش والتفعيلة المنثورة) ويرى أنه سعى إلى” جسر الهوة، إذا كان ثمة هوة بالفعل، بين وزن الشعر ونثر الشعر، بل إن درويش كان قد قال:” أحب من الشعر عفوية النثر” وقال أيضاً: أنا أتعلم من قصيدة النثر”
  طبعاً، إنه لحري بشاعر كبير مثل محمود درويش، وهو ليس أحد أهم الشعراء الذين كتبوا باللغة العربية من خلال مئة السنة الماضية، فحسب، أن يكون حقاً أحد الشعراء الأكثر كتابة للشعر، الخالص، في تاريخ الشعرية العربية على الإطلاق، لما كان يتمتع به من ذائقة فريدة، استثنائية، لإعادة صياغة العبارة في مختبره الروحي، ومنحها تلك الشحنة الكهربائية-التي يحدد درجاتها كما يريد،  وهو يخلق عالمه  الشعري، كي نكون أمام صور شعرية تترى في بنية نصه، ضمن هندسته البارعة التي تكاد لا تذكر بأحد، ما يؤهله نتيجة حساسيته وروحه العبقريتين أن يستشف في عالم النثر الرحب، ذلك المنجم الشعري الهائل، وهو يفجر في عمق النثر كيمياء القصيدة، بعد أن أغوته مناجم النثر الباذخة، بألقها، وسحرها، كمادة خام هائلة، لما لاقت من يؤجج في دواخلها روح الشعر الكريمة، التي راح بعض الشعراء يأنفون الدنو منها، متوهمين أن لا شعر خارج حمحمة خيول الخليل، وإيقاعات حوافرها في بوار اللغة.
وإذا كان الشاعر محمود درويش قد أسقط ذلك الجدار العازل بين رافدين مهمين للشعرية، هما: قصيدة النثر والتفعيلة، فإن سطوة اسمه الكبير لتشفع له ذلك، لأن أي إعلان  عن مثل هذا الكشف، ليستجلب على صاحبه لعنة الخيانة المجانية.
وإذا كانت قصيدة محمود درويش قد احتلت مثل هذه المنزلة التي أشرنا إليها، ما جعلها –وزارة إعلام كاملة لقضية فلسطين على حد قول بعضهم- ناهيك   عن قيمتها الجمالية والفنية، وألقها، وفذاذتها، وتفردها، فإن اللغة النثرية، بل وقصيدة النثر الدرويشتين لم تقلا منزلة عن قصيدة التفعيلة لديه، ما جعل كثيرين لا يستطيعون الإعلان عن  جهلهم بتجاور النثر والتفعيلة، في هذه القصيدة أو المجموعة الشعرية أو غيرهما، حتى وقت طويل، وقد كانت ذريعة كثيرين-كما سبقت الإشارة- من خصوم قصيدة النثر  استشهادهم بمواقف مضادة منها، منسوبة إلى هذا الشاعر الكبير، أو أن بعض هؤلاء كان يسترسل في السماجة نافياً أن يكون الشاعر قد كتب هذا الضرب المتآمر من الكتابة  على اليقينيات المطمئنة لديهم.
ولئلا يتم الغلو في التشيع لقصيدة النثر، لا بد من التذكير بأن الشاعر كان يتبع –هدهد- الشعرية، ليحفر أنى كان هناك الماء الذي يطفىء  ظمأ الروح الأبدي، أو ليشعل أتون الشعر أنى حل، وإن اللهاث وراء السراب لا طائل منه، وما أكثر  زائف الشعر الذي يقدم في هيئة قصيدة التفعيلة، أو النثر، بل والعمود، وهو ما حدا بالشاعرلأن ينحاز إلى الشعر وحده أينما كان، بعيداً  عن الشكل الذي لا شعرية جاهزة الصنع في أوصاله، مهما رافع عنه مناصرو هذا الأنموذج أو ذاك.
 
إن معرفة حقيقة أن درويش قد كتب النثر، لا بد وأن تدعو لإعادة النظر في –شعرية النص- أياً كان- مرة أخرى، وهو –في المقابل- إعادة اعتبار للأنموذج الرفيع من قصيدة النثر، كما أنه انتصار وفتح جديدان لقصيدة التفعيلة نفسها التي يعاد ضخ الدم في عروقها، و بث الحياة في روحها-مرة أخرى- ليكون ذلك دفعاً لها لتحقيق إنجازات جديدة، في عالمها، بتنا نفتقد إليها منذ وقت طويل، وجاء غياب أحد أهم أعمدتها المبدعين، ليشيع في نفوسنا الذعر، خوفاً  على مستقبل هذه القصيدة الآسرة، التي تشكل-نصف- شعرية الحداثة، وبخاصة أننا-وبحق- ما عدنا نقرأ تلك النصوص المائزة المحلقة من شعر التفعيلة، التي دونها ستكون قصيدة النثر نفسها ناقصة، عجفاء، جرداء، وإن كان من بيننا-وتحت هيمنة ردة فعل أو غير ذلك- من يعدها مستقبل الشعر، وعنوانه الأول…أبداً.
كان قد أشار إلى أن سليم بركات أفضل من كتب بالعربية خلال عشرين السنة الأخيرة

ملحق الخليج الثقافي-  العدد11402 7 أغسطس 2010

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…