خالص مسور:
هذه القصيدة الكلاسيكية الغنائية بامتياز، والتي سوف نورد مقاطع منها للنقد والدرس، لابد أنها تذكر المتلقي بالسياقية الروتينية للنغمة الغنائية للشعر العربي القديم، فالشعر العربي – وحسب النقاد – كان بالأساس شعراً غنائياً من ممشاه إلى ملفاه، ولم يدخل هذا الشعر في ملكوت التحديث والتغيير إلا مع الظاهرة الإستعارية في قصائد الشاعر العباسي أبي تمام الذي أنقذه من الغنائية نوعاً ما، رغم عدم استساغة الكثير من النقاد القدامى لهذه الظاهرة التي تحفل بها شعر أبي تمام، نظراً لما رافق التغيير من الغموض غير المألوف والغريب عن الفهم العر بي للقصيدة، وقد تجلى عدم الإستساغة والقبول في قصة الإعرابي الذي سأل أبي تمام، لماذا تقول مالايفهم؟ فأجابه أبو تمام على الفور، ولماذا لاتفهم مايقال؟.
نرى في هذه القصيدة ومن خلال استخدام المراد اللهجة الخطابية مع الضمير المخاطب- غنيت- عصرت- صنعت- أهديت- طغيان نوع من الإسلوب الخطابي غير المستساغ نوعاً ما على أبيات القصيدة، ولكن رغم الإهتمام المتزايد بالشكل الخارجي والحالة الغنائية واللهجة الخطابية الطاغية على قصيدة الشاعر السوري الدكتور محمد نجيب المراد الذي فاز بلقب شاعر العرب في المسابقة التي أجرتها قناة المستقلة منذ مدة، رغم هذا فسوف ندرك على الفور وبقليل من التأمل نوعاً من التوازن الجميل بين الشكل الخارجي للقصيدة وبين مضمونها ككل في وحدة عضوية متماسكة الأركان، بالإضافة إلى سلاسة الرنين الموسيقي الجميل والإيقاع الرهيف الصادر من أبيات القصيدة الكلاسيكية الممزوجة بالحداثة وهو ما أدى مرة أخرى إلى حالة من التوهج الشاعري المثير، ولنستمع إليه يقول بغنائية جميلة رائعة:
َغنَّـيتَــــهمْ فتــمــايـلوا إطــــراءَ ومنـحتَـهم بشـقائِك النَّعمــاءَ
وعَصرتَ روحكَ بينهم وسكبتَها شِعراً وكنتَ الكأسَ والنُّدََماءَ
وصنعتَ من ريشِ الحروفِ مراوحاً ووسـائـداً وَأَسِــِرَّةً وغِطـــاءَ
أهديتَــهمْ دمعَ الهزارَ ولثغةَ الـ آهــاتِ فيــِهِ، وزهرةً هَدْبــاءً
هكذا تبدو أبيات القصيدة تتنوع في وحدة وتتوحد في تنوع، حيث يترى التنوع في محمولات الأبيات وفي وحدتها العضوية المتناسقة، وفي حالات التوتر والزفرات النفسية التي تنطلق في فضاءات القصيدة المفعمة بالأحاسيس والتوتر، ففيها الغناء، والإنتشاء، والطرب، والكأس، والندماء، إلى جانب دمع الهزار، ولثغة الآهات فيه.
ولكن تتحد جميع هذه المكونات لتبين علاقة الأنا بالآخر، أوعلاقة الذات الشاعرة بالمتلقي في إسلوب شاعري إبداعي جميل، حيث استطاع المراد ارتشافه من قريحته الشعرية بدون تكلف أو تصنع. إذ ليس هناك ما هو أجمل من الصور الحداثية الجميلة من قبيل- عصرت روحك- دمع الهزار- ريش الحروف – لثغة الآهات فيه- وأجملها الصورة الأخيرة – لثغة الآهات فيه- فهي بالفعل صورة شاعرية مبتكرة جاءت في غاية الإتقان والجمال.
ورغم أن من يقرأ أبيات القصيدة يراها وقد جاءت في بعضها على شكل معادلة رياضية طرفاها السبب والنتيجة – غنيتهم فتمايلوا- لكنها معادلات تتوفر على مشاهد درامية راقصة بإيقاعات غنائية جميلة امتزجت فيها نسائم التقليدية بنفحات الحداثة الزهرة، رغم أن الإسلوب الوصفي والضمير المخاطب أديا إلى شيء من المباشرة في بعض عبارات القصيدة فقط أقول بعض العبارات. لكن من حيث العام فقد أثبت الشاعر أنه ليس شاعراً فياضاً بالأحاسيس والمشاعر الجياشة والخيال المجنح والشاعرية الفذة فحسب، بل أثبت أنه يتدفق شاعرية موسيقية متميز وملحن بارع استطاع تلحين قصيدته بعبارات موزونة متناسقة الرموز والأبعاد، بالإضافة إلى أن الإيقاع الرهيف ورنين السيمفونية الموسيقية الصادحة المنبعثة من القافية الهمزية، أدى إلى تلاشي رتابة القافية الكلاسيكية التي تبعث على الملل لدى المتلقي في الكثير من القصائد الكلاسيكية القديمة.
وإذا اللالئُ في الكـرومِ تناولتْ إفطـارَها فَغــَدتَْ أشــدَّ نقــاءً
وأتيتَ بالغـاباتِ ضَفَّرَ شَعْــرَها قمـرٌ وأرخـى خُصـلةً شقـراءَ
غـارَ البنفسـجُ إذا رآكَ مداعـباً خَدَّ النسيمِ… فدمعُهُ يتـراءى
مرة أخرى تحفل هذه الأبيات بقافية ذات غنائية عالية- نقاء- شقراء- يترائى- وبصور شاعرية مبتكرة موحية، وإيقاعية متجددة وموسيقى عذبة ساحرة مثل- اللآليء في الكروم تناولت إفطارها- أتيت بالغابات ضفر شعرها- غار البنفسج – مداعباً خد النسيم- هذه الإنزياحات اللغوية المثيرة في معمارية القصيدة المرادية جمعت هنا بذكاء بين صور وتراكيب متباعدة، فجعلها تتآلف وتتناغم في عبارات شاعرية مشوقة وصور شاعرية متلاحقة كشريط سينمائي حافل بالإثارة والدهشة، يحبس الأنفاس ويثير المشاعر والأحاسيس لدى المتلقي ليتابع قراءة الأبيات كقصة مشوقة تتوفر على ما هو غرائبي وجمالي مثير.
وَشَكَتْ ظِباءُ الحيِّ تندبُ حظَّها لمّا ابتكرتَ من الحروفِ ظباءَ
وتركتَها ترعى بصدرِكَ حِنطَـةً وعلى شفاهـِكَ تستِعبُّ المـاءَ
أبدعتَ أشـرعةً وَسِرْبَ مراكبٍ وَوَهبتَـها من زَفرتَيـْكَ هــواءَ
بالإضافة إلى سلاسة الإيقاعية المنسابة هنا في تراكيب العبارات والصور الطافحة بالثراءات الدلالية والرموز الموحية والشاعرية والإثارة، نلمس حالة من التكرار الذي زايد من إنسيابية عبارات القصيدة ورنين إيقاعها الآسر، كما في تكرار كلمة ظباء في البيت الأول:
وشكت ظباء الحي تندب حظها لما ابتكرت من الحروف ظباء
وهو ما يعبر عن الكثير من جمالية الصور اللغوية المنزاحة الرامزة الواردة في الأبيات مثل – شكت ظباء الحي- ترعى بصدرك حنطة- على شفاهك تستعب الماء- من زفرتك هواء-
إن تدجين النص بهذا الشكل المثير للدهشة والاستغراب، مما يخلق توتراً بين القصيدة والمتلقي الذي تنهال عليه الصور الغريبة كغرائبية شخوص وأحداث الأساطير والملاحم اليونانية، الأمر الذي يصدم أفق القاريء ويدخله في محراب التأويل والتفكير والمتاهات الصوفية المثيرة للحساسية والشعور والعواطف المتدفقة.
ويتابع الدكتور محمد نجيب المراد ليقول:
يا شــاعرَ العـربِ النبيـلَ وإنَّـهُ دأبُ الخَنــَا أنْ يُبغِـضَ النبــلاءَ
قَـدَرٌ هو الشِّعـرُ الأبـيُّ وطالمـا بإبـائـهِ … قـــد أَرَّقَ الشُّـــعراءَ
إصدَحْ…فقد كتبوا خلودَكَ عندما (رَكزوا حروفَكَ في الرمالِ لواءَ)
وهو هنا يستخدم آداة النداء للتنبيه، ويصف شاعر العرب بالتعفف والنبل والإباء، وما الإباء والشمم إلا هما قدر الشاعر وديدنه في هذه الحياة فشاعر العرب هنا أبي يكره الوضاعة والخنا. وقد نعثر في الشطر الأخير من البيت الثالث والموضوع بين هلالين على حالة من التناص والتوازي مع الشاعر احمد شوقي في قصيدة (رثاء عمر المختار).
ركزوا رفاتك في الرمال لواء يستنهض الوادي صباح مساء
يا ويحهم نصبوا منازل من دم يوحي إلى جيل الغد البغضاء
هكذا رأينا الشاعر السوري محمد نجيب المراد صياد اللقطة الموحية، والعبارة الرامزة، والصورالحداثية المتسربلة بالغموض الشفاف، بعيداً عن التعقيدات الحداثية كما يلجأ إليها بعض الشعراء الحداثيون اليوم، ناهلاً الدرر واللاليء من منجمه اللغوي المثير، وموزعاً شعره بين الكلاسيكية والحداثة وقد أجادهما بجدارة واستحقاق.
َغنَّـيتَــــهمْ فتــمــايـلوا إطــــراءَ ومنـحتَـهم بشـقائِك النَّعمــاءَ
وعَصرتَ روحكَ بينهم وسكبتَها شِعراً وكنتَ الكأسَ والنُّدََماءَ
وصنعتَ من ريشِ الحروفِ مراوحاً ووسـائـداً وَأَسِــِرَّةً وغِطـــاءَ
أهديتَــهمْ دمعَ الهزارَ ولثغةَ الـ آهــاتِ فيــِهِ، وزهرةً هَدْبــاءً
هكذا تبدو أبيات القصيدة تتنوع في وحدة وتتوحد في تنوع، حيث يترى التنوع في محمولات الأبيات وفي وحدتها العضوية المتناسقة، وفي حالات التوتر والزفرات النفسية التي تنطلق في فضاءات القصيدة المفعمة بالأحاسيس والتوتر، ففيها الغناء، والإنتشاء، والطرب، والكأس، والندماء، إلى جانب دمع الهزار، ولثغة الآهات فيه.
ولكن تتحد جميع هذه المكونات لتبين علاقة الأنا بالآخر، أوعلاقة الذات الشاعرة بالمتلقي في إسلوب شاعري إبداعي جميل، حيث استطاع المراد ارتشافه من قريحته الشعرية بدون تكلف أو تصنع. إذ ليس هناك ما هو أجمل من الصور الحداثية الجميلة من قبيل- عصرت روحك- دمع الهزار- ريش الحروف – لثغة الآهات فيه- وأجملها الصورة الأخيرة – لثغة الآهات فيه- فهي بالفعل صورة شاعرية مبتكرة جاءت في غاية الإتقان والجمال.
ورغم أن من يقرأ أبيات القصيدة يراها وقد جاءت في بعضها على شكل معادلة رياضية طرفاها السبب والنتيجة – غنيتهم فتمايلوا- لكنها معادلات تتوفر على مشاهد درامية راقصة بإيقاعات غنائية جميلة امتزجت فيها نسائم التقليدية بنفحات الحداثة الزهرة، رغم أن الإسلوب الوصفي والضمير المخاطب أديا إلى شيء من المباشرة في بعض عبارات القصيدة فقط أقول بعض العبارات. لكن من حيث العام فقد أثبت الشاعر أنه ليس شاعراً فياضاً بالأحاسيس والمشاعر الجياشة والخيال المجنح والشاعرية الفذة فحسب، بل أثبت أنه يتدفق شاعرية موسيقية متميز وملحن بارع استطاع تلحين قصيدته بعبارات موزونة متناسقة الرموز والأبعاد، بالإضافة إلى أن الإيقاع الرهيف ورنين السيمفونية الموسيقية الصادحة المنبعثة من القافية الهمزية، أدى إلى تلاشي رتابة القافية الكلاسيكية التي تبعث على الملل لدى المتلقي في الكثير من القصائد الكلاسيكية القديمة.
وإذا اللالئُ في الكـرومِ تناولتْ إفطـارَها فَغــَدتَْ أشــدَّ نقــاءً
وأتيتَ بالغـاباتِ ضَفَّرَ شَعْــرَها قمـرٌ وأرخـى خُصـلةً شقـراءَ
غـارَ البنفسـجُ إذا رآكَ مداعـباً خَدَّ النسيمِ… فدمعُهُ يتـراءى
مرة أخرى تحفل هذه الأبيات بقافية ذات غنائية عالية- نقاء- شقراء- يترائى- وبصور شاعرية مبتكرة موحية، وإيقاعية متجددة وموسيقى عذبة ساحرة مثل- اللآليء في الكروم تناولت إفطارها- أتيت بالغابات ضفر شعرها- غار البنفسج – مداعباً خد النسيم- هذه الإنزياحات اللغوية المثيرة في معمارية القصيدة المرادية جمعت هنا بذكاء بين صور وتراكيب متباعدة، فجعلها تتآلف وتتناغم في عبارات شاعرية مشوقة وصور شاعرية متلاحقة كشريط سينمائي حافل بالإثارة والدهشة، يحبس الأنفاس ويثير المشاعر والأحاسيس لدى المتلقي ليتابع قراءة الأبيات كقصة مشوقة تتوفر على ما هو غرائبي وجمالي مثير.
وَشَكَتْ ظِباءُ الحيِّ تندبُ حظَّها لمّا ابتكرتَ من الحروفِ ظباءَ
وتركتَها ترعى بصدرِكَ حِنطَـةً وعلى شفاهـِكَ تستِعبُّ المـاءَ
أبدعتَ أشـرعةً وَسِرْبَ مراكبٍ وَوَهبتَـها من زَفرتَيـْكَ هــواءَ
بالإضافة إلى سلاسة الإيقاعية المنسابة هنا في تراكيب العبارات والصور الطافحة بالثراءات الدلالية والرموز الموحية والشاعرية والإثارة، نلمس حالة من التكرار الذي زايد من إنسيابية عبارات القصيدة ورنين إيقاعها الآسر، كما في تكرار كلمة ظباء في البيت الأول:
وشكت ظباء الحي تندب حظها لما ابتكرت من الحروف ظباء
وهو ما يعبر عن الكثير من جمالية الصور اللغوية المنزاحة الرامزة الواردة في الأبيات مثل – شكت ظباء الحي- ترعى بصدرك حنطة- على شفاهك تستعب الماء- من زفرتك هواء-
إن تدجين النص بهذا الشكل المثير للدهشة والاستغراب، مما يخلق توتراً بين القصيدة والمتلقي الذي تنهال عليه الصور الغريبة كغرائبية شخوص وأحداث الأساطير والملاحم اليونانية، الأمر الذي يصدم أفق القاريء ويدخله في محراب التأويل والتفكير والمتاهات الصوفية المثيرة للحساسية والشعور والعواطف المتدفقة.
ويتابع الدكتور محمد نجيب المراد ليقول:
يا شــاعرَ العـربِ النبيـلَ وإنَّـهُ دأبُ الخَنــَا أنْ يُبغِـضَ النبــلاءَ
قَـدَرٌ هو الشِّعـرُ الأبـيُّ وطالمـا بإبـائـهِ … قـــد أَرَّقَ الشُّـــعراءَ
إصدَحْ…فقد كتبوا خلودَكَ عندما (رَكزوا حروفَكَ في الرمالِ لواءَ)
وهو هنا يستخدم آداة النداء للتنبيه، ويصف شاعر العرب بالتعفف والنبل والإباء، وما الإباء والشمم إلا هما قدر الشاعر وديدنه في هذه الحياة فشاعر العرب هنا أبي يكره الوضاعة والخنا. وقد نعثر في الشطر الأخير من البيت الثالث والموضوع بين هلالين على حالة من التناص والتوازي مع الشاعر احمد شوقي في قصيدة (رثاء عمر المختار).
ركزوا رفاتك في الرمال لواء يستنهض الوادي صباح مساء
يا ويحهم نصبوا منازل من دم يوحي إلى جيل الغد البغضاء
هكذا رأينا الشاعر السوري محمد نجيب المراد صياد اللقطة الموحية، والعبارة الرامزة، والصورالحداثية المتسربلة بالغموض الشفاف، بعيداً عن التعقيدات الحداثية كما يلجأ إليها بعض الشعراء الحداثيون اليوم، ناهلاً الدرر واللاليء من منجمه اللغوي المثير، وموزعاً شعره بين الكلاسيكية والحداثة وقد أجادهما بجدارة واستحقاق.
……………………………………………………………………………….