د. آلان كيكاني
زهاء ثلاثمائة رجل جمعتنا خيمة عزاء في قرية كردية تابعة لولاية أورفا في كردستان التركية وصلت إليها بعد عناء سفر مضن , وما أن انتهت مراسيم التهليل والترحيب بي كضيف غريب قادم من مسافة بعيدة حتى تكتمت الأفواه وتوجهت العيون ترقبني والآذان ترصدني وكأنها تقول :
ترى ماذا سيقول هذا الطبيب الآتي من وراء الحدود ؟
ماذا في جعبته ؟
زهاء ثلاثمائة رجل جمعتنا خيمة عزاء في قرية كردية تابعة لولاية أورفا في كردستان التركية وصلت إليها بعد عناء سفر مضن , وما أن انتهت مراسيم التهليل والترحيب بي كضيف غريب قادم من مسافة بعيدة حتى تكتمت الأفواه وتوجهت العيون ترقبني والآذان ترصدني وكأنها تقول :
ترى ماذا سيقول هذا الطبيب الآتي من وراء الحدود ؟
ماذا في جعبته ؟
لا شك أن لحديثه فائدة يجب أن نكسبها .
تنحنحت أختبر قدرة حنجرتي على الكلام ثم شرعت أتحدث لهم في موضوع جد مهم لنا كأكراد سوريين ألا وهو نضال الكرد من أجل نيل حقوقهم القومية المشروعة , معرجاً على خطة الانفتاح الكردي التي طبلت وزمرت لها الحكومة التركية حيناً , في محاولة مني لإقناع المستمعين بعدم جدية السيد أردوغان في سعيه المزعوم لحل القضية الكردية بشكل نهائي . إلا أن كلامي لم يرق للمجلس إذ أن التذمر وعدم الرضى بديا واضحين على وجوه القوم من حولي تمثل بانصرافهم عن الاستماع وفتحهم أحاديث جانبية بشكل لافت وكأن الموضوع لا يعنيهم البتة أو أن الحديث بسوء عن رأس الدولة والحكومة في تركيا يعتبر من المكروهات لدى هؤلاء الناس وهو الأرجح حسبما بدا لي لاحقاً , شعرت بنفسي في ورطة ولكن سرعان ما أنقذني منها – مشكورا – شابٌ يافع يجلس بالقرب مني , فقطع الرجل حديثي دون استئذان وتعوذ وبسمل وباشر بترتيل سورة ياسين من القرآن الكريم غيبا وبصوت جهوري وعذب مراعياً كل أحكام التجويد من غنة وقلقلة وإدغام وغيرها بصورة لن يقدر عليها أفصح الناطقين بالعربية , سكت الجميع منصتين وخاشعين , أنهى الشاب قرائته بالنداء لصلاة العصر وهبّ الجميع قياما لتأدية الفريضة , التفت إلى يميني ثم إلى يساري لأرى نفسي الوحيد المتقاعس الذي لم يبرح مكانه , متذرعا – فيما بعد – بالاستفادة من هدية الله لعباده في القصر والجمع وقت السفر !
حين انشغل القوم بالصلاة سيطر علي شعور بالاستحياء والندم وأنبني ضميري , شرعت أجادل نفسي :
– ليس أنا ككردي متعلم من يجب أن يغرد خارج سرب قومه بل من المفترض أن أكون في مقدمته . يبدو أنني الجامعي الوحيد في هذا الجمع , أما كان من الأولى أن أكون في الطليعة في كل شيء ؟
– ما العيب لو أنني صليت معهم أو حتى أممت بهم ثم حدثتهم قليلا عن أمور الدين والعقيدة لأكسب ثقتهم , وبعدها أقول ما أريد في السياسة والطب ووو…
– لا بد أنهم كانوا سيصدقونني ويغمرونني بالألفة بدل هذه العزلة . أليس الواقع يفرض هذا ؟ أليس من الأجدى أن ننطلق في كل حركة من قلب المجتمع بمساوئه ومحاسنه ثم نأخذ بيده رويدا رويدا إلى جادة الصواب بدل من الاستعلاء عليه واستيراد فلسفات غريبة عنه من الخارج محاولين تعديل اعوجاجه بها ؟
– وهل يخفى على أحد أن الساسة الحاذقون عبر التاريخ هم من عرفوا كيف يستغلوا عواطف شعوبهم واتخذوها مطية للوصول إلى مآربهم ومآرب قومهم ؟ ألا يوجد من الكرد من يجيد هذه اللعبة , ولو نفاقا , ويسعى إلى استمالة هؤلاء المؤمنين حتى الصميم , كما يعمل العثمانيون الجدد في الحكومة التركية , بدل من أن يكونوا فريسة سهلة لفخاخ أردوغان الذي ياتي عشية الانتخابات ويحصد أصواتهم بكل يسر , وبذلك يتغلب علينا في عقر دارنا ؟
– أليس هذا الشرخ بين المثقف والجاهل أحد أسباب فشلنا في تحقيق أهدافنا القومية ؟
مفارقة مزمنة :
فبالأمس كنت طالبا على مقاعد الدراسة , كنت أحتفظ في غرفتي بعشرات المجلدات للينين وماركس وكاسترو بينما كانت تفتقر مكتبتي إلى نسخة من المصحف الشريف أو كتيب يعرّف بديانتنا اليزيدية أو إلى ديوان من دواوين جيكر خوين أو أحمدي خاني , وكنت أعلق صورة كبيرة لماركس على جدار غرفتي , تأتي جدتي لزيارتي وتحملق بها وتسأل :
– أي شيخ جليل هذا يا بني !
فأقول لها مازحا :
– هذا أحد الشيوخ الكبار في الديار المقدسة.
فترد جدتي :
– لهذا السبب يقطر النور من وجهه , جدتك فداء هذا الوجه النظيف يا ولدي.
فأضحك ضحكة سخيفة لا تخلو من الاستهزاء بعقليتها.
وقتها كنت أعتقد أن العلم هو ما جاءت به الماركسية وما دونه هراء , وهذا العلم كفيل بتخليصنا وكل شعوب الأرض من الظلم والاضطهاد . فأتباهى بالثقافة الماركسية ولا يروق لي الأكل والشرب في الشارع إلا في نهارات رمضان .
نعم , حينها كنت أبحث في شوارع موسكو عن بنطال جينز أستر به عورة جدتي .
ناسياً أن جدتي ترفض ستر عورتها إلا بالشروال الكردي الفضفاض ذي المصرتين , إحداها أسفل الكاحل والأخرى فوق السرة , ليكون شرعياً.
……………………………..
آمد 25/7/2010
حين انشغل القوم بالصلاة سيطر علي شعور بالاستحياء والندم وأنبني ضميري , شرعت أجادل نفسي :
– ليس أنا ككردي متعلم من يجب أن يغرد خارج سرب قومه بل من المفترض أن أكون في مقدمته . يبدو أنني الجامعي الوحيد في هذا الجمع , أما كان من الأولى أن أكون في الطليعة في كل شيء ؟
– ما العيب لو أنني صليت معهم أو حتى أممت بهم ثم حدثتهم قليلا عن أمور الدين والعقيدة لأكسب ثقتهم , وبعدها أقول ما أريد في السياسة والطب ووو…
– لا بد أنهم كانوا سيصدقونني ويغمرونني بالألفة بدل هذه العزلة . أليس الواقع يفرض هذا ؟ أليس من الأجدى أن ننطلق في كل حركة من قلب المجتمع بمساوئه ومحاسنه ثم نأخذ بيده رويدا رويدا إلى جادة الصواب بدل من الاستعلاء عليه واستيراد فلسفات غريبة عنه من الخارج محاولين تعديل اعوجاجه بها ؟
– وهل يخفى على أحد أن الساسة الحاذقون عبر التاريخ هم من عرفوا كيف يستغلوا عواطف شعوبهم واتخذوها مطية للوصول إلى مآربهم ومآرب قومهم ؟ ألا يوجد من الكرد من يجيد هذه اللعبة , ولو نفاقا , ويسعى إلى استمالة هؤلاء المؤمنين حتى الصميم , كما يعمل العثمانيون الجدد في الحكومة التركية , بدل من أن يكونوا فريسة سهلة لفخاخ أردوغان الذي ياتي عشية الانتخابات ويحصد أصواتهم بكل يسر , وبذلك يتغلب علينا في عقر دارنا ؟
– أليس هذا الشرخ بين المثقف والجاهل أحد أسباب فشلنا في تحقيق أهدافنا القومية ؟
مفارقة مزمنة :
فبالأمس كنت طالبا على مقاعد الدراسة , كنت أحتفظ في غرفتي بعشرات المجلدات للينين وماركس وكاسترو بينما كانت تفتقر مكتبتي إلى نسخة من المصحف الشريف أو كتيب يعرّف بديانتنا اليزيدية أو إلى ديوان من دواوين جيكر خوين أو أحمدي خاني , وكنت أعلق صورة كبيرة لماركس على جدار غرفتي , تأتي جدتي لزيارتي وتحملق بها وتسأل :
– أي شيخ جليل هذا يا بني !
فأقول لها مازحا :
– هذا أحد الشيوخ الكبار في الديار المقدسة.
فترد جدتي :
– لهذا السبب يقطر النور من وجهه , جدتك فداء هذا الوجه النظيف يا ولدي.
فأضحك ضحكة سخيفة لا تخلو من الاستهزاء بعقليتها.
وقتها كنت أعتقد أن العلم هو ما جاءت به الماركسية وما دونه هراء , وهذا العلم كفيل بتخليصنا وكل شعوب الأرض من الظلم والاضطهاد . فأتباهى بالثقافة الماركسية ولا يروق لي الأكل والشرب في الشارع إلا في نهارات رمضان .
نعم , حينها كنت أبحث في شوارع موسكو عن بنطال جينز أستر به عورة جدتي .
ناسياً أن جدتي ترفض ستر عورتها إلا بالشروال الكردي الفضفاض ذي المصرتين , إحداها أسفل الكاحل والأخرى فوق السرة , ليكون شرعياً.
……………………………..
آمد 25/7/2010