قراءات نقدية: في ديوان الشاعرة آخين ولات (الموسلين الأزرق)

   خالص مسور:

الموسلين نوع من القماش الرقيق الجميل كان ولايزال يستورد من الموصل ولذلك سمي /موسلين/ أو موصلين، نسبة الى مدينة الموصل هذه، واللون الأزرق بدوره يدل على الرقة والهدوء والاسترخاء، أي ان العنوان جاء منسجما مع موضوع القصائد الطافحة بالحب الموسليني الأزرق الرقيق وبكثير من التمنع والغنج والدلال الذي تطفح به السطور الشعرية في معناها ومبناها معاً.

في مستهل الديوان تقول آخين:
يُغويك تمنُّعي،
ويغويني أكثرُ،
أنّك أسير.
إنها أنا.
حيثما التفتّ،
وكلّ المساراتِ،
توصلك إليّ
يمكننا القول بأن الشاعرة تمارس هنا اللعب على الضمائر ودون تشكيل أواخر الكلمات كما في – يغويك- أنك – وذلك لإرباك المتلقي ودفعه نحو التأويل وصرف طاقة تأملية وهو يغوص في بحر عشقها الجنوني، والتي دللت على أنها صاحبة تجربة مثيرة في فضاءات العشق والهيام، والقدرة على إثارة حالة من الإيروتيكية الصارخة المتمثلة في الدلالات الكامنة في كلمتي/ تمنعي- وأسير/ نظراً لما تمثله الكلمة الاولى من إغراء أنثوي لاهب رغم ابتذال وتكرار ما تعبر عنه كلمة/تمنع/ في مسيرة الشعر العربي، بينما جاءت عبارة – يغويك تمنعي –  هنا بقدرمن العذوبة والجمال، بالإضافة إلى وجود حالة من الايقاع الجميل نشأ بفعل تكرار الفعل المضارع – يغويك – يغويني- بالإضافة إلى التمركز الجنوني حول الذات – إنها أنا – حتى يصعد الرجل المحب نحو منابعها في عملية تناص معنوي مع المثل العربي- كل الطرق تؤدي الى روما-  أو مع المثل الكردي(Hemû rê dirin aş) كل هذا أكسب النص طاقة فنية وحركية متجددة في حركة دائرية شديدة التماسك والتكثيف.
 ومن جانبها فقد أدت الصورة الشعرية الأخرى المتمثلة في كلمة /أسير/ أي كون المحب أسير تمنعها وحبها، مع ورود الفعل – يغويني- في بداية الجملة الشعرية، وبالتضافر مع انسيابية الصورة السمعية والتنغيمية الماثلة في تكرار حرف الغين السقف حلقية، ثم مركزية كلمة /أكثر/ كل ذلك أدى إلى خلق حالة من الوجد والإغراء في التعابير العشقية للسطور الشعرية، مع دفقة من الشعور والأحاسيس وتوهج اللقطة الشاعرية الموحية.    
وفي قول الشاعرة:
تنشّقتكَ هذا المساء،
حتى امتلأتْ رئتايَ بك.
محمومةُ،
ولاشيءَ يثنيني عنك.
عارياً من الأمس
تلفحك رياحي.
من الواضح هنا أن الشاعرة تشبه محبوبها  بنبتة فواحة معبرة عن  انتشائها بنفحات عطرها الرقيق لتمتليء منه رئتيها، مظهرة الكثير من الحذاقة في انتقاء الجملة المعبرة والمنتشية بسكرة الغموض الشفاف دون المعقد في صور حداثية جميلة مثل – امتلأت رئتاي بك – تلفحك رياحي- وهي عبارات رومانسية خارجة عن المألوف اللغوي توحي بموجدات عشقها الصوفي الحامل لعبق أنفاسها وأحاسيسها الوامضة. فالمحبوب هواء تمتليء به رئتاها، بينما تلفحه هي برياحها، والرياح هنا تمثل شموخ الحب وسموه، وسطوة تمنع الأنثى وإغوائها الإيروسي، ووميض إنفعالاتها الغرامية البارق العذب.   
 إلى أن تقول أيضاً:
وماءٍ يتسربُ
إلى هذه الحمحمةّ.
ترمي بدلوك في نعاسي.
تسوح الشاعرة خلات هنا مع طيف محبوبها في فضاءات عشقها الرومانسي مع حالة من شعرية الإنكسار، وعبارات حالمة تجنح أحياناً نحو السوريالية المليئة بالتفاؤل واللقاءات الحميمة المترفة بالشاعرية والجمال، وإيجاد ابتكارات شاعرية بطريقة الانسنة والتشخيص والمباعدة بين المشبه والمشبه به مثل – ماء يتسرب الى الحمحمة- ترمي بدلوك في نعاسي-  فالصورة الشاعرية الأخيرة جاءت في منتهى الحسن والجمال، ومثلها عبارة شاعر العرب محمد نجيب المراد/ وبكاء برتقالي التجاعيد/. فالجمال يزهو هنا مرتين، الأولى مع تنغيمية المفردة القاموسية/ نعاسي/ ذات الطبيعة الرومانسية أصلاً، والمرة الثانية جاء الحسن والجمال من إنزياحها الدلالي عن القوانين اللغوية العادية، حيث النعاس هنا يرمز إلى بئر الحب يرمي فيه المحبوب دلوه يغرف من الحب ما شاء وأحب.
ورغم مانراه من انقطاع بين السطرين الثاني والثالث، إلا أن الشاعرة ربطت بينهما بالكلمتين – ماء- بدلوك- حيث هناك العلاقة التقليدية المألوفة بين الدلو والماء، ولكن أعتقد أن الربط الموضوعي بينهما لم يكن موفقاً بما فيه الكفاية.     
 ومرة أخرى تتماهى المحبان في متاهة الحب الأبدي فتقول:
ثمة كرسيٌّ، ظلّ معتماً،
طيلةَ الرقص.
ثمة ألوانٌ تتفجر من يدٍ بيضاء.
ثمة ظلٌّ واحدٌ فقط
لامرأةٍ ورجل،
في الشرفةِ العالية
تحبس الجمل الظرفية اللاهثة هنا أنفاس القاريء الذي يعجز عن استعادة أنفاسه المتلاحقة إلا في السطر الخامس من الجملة الشعرية، وهنا تسمح الجملة للقاريء بالإسترخاء الموسليني وأخذ قسط من الراحة والهدوء، كما نلحظ هنا عبارات تحمل معاني الوحدة الإندماجية بين شريكي الحب أوالذاتين العاشقتين في عالم حب صوفي حافل بالإثارة والإدهاش. حيث تلمح الشاعرة إلى كرسي واحد كان شاغراً – طيلة الرقص- ثم يد واحدة بيضاء – وظل واحد- لامرأة ورجل-
كما نلمس إيقاع شجي قافز النغمات، مصدره الحالة التكرارية لظرف المكان- ثمة- بمعنى هناك، وحيث جاء تحديد المكان – في الشرفة العالية- ثم تكرار كلمة العلو في مواضيع أخرى مثل – العالية – أنفي العالي- لتعبر بوضوح عن حالة الذات الشاعرة المترعة بالشموخ وسمو الحب والإعتداد بالنفس. 
كما للشاعرة خلات جولة مع الزيزفون فتقول:
يتأهَّبُ الزَّيزفونُ لهبوبكَ.
ـ فليُبشِّرْ بصباحٍ أنتِ فيهِ الأميرةُ،
وأنتِ النَّسيمُ.
ـ ماذا بعد الزَّيزفونِ؟
ـ هو الزَّيزفونُ أيضاً.
ـ وماذا بعدَ الهبوبِ؟
ـ إنَّه أنتِ وأنا:
في الزَّيزفونِ.
جاء الفعل المضارع هنا وفي بداية الجملة الشعرية مع الصورة الحداثية الماثلة في عبارة- يتأهب الزيزفون لهبوبك- ليعطي حركية ونشاطاً مصحوبين بالتفاؤل والفرح الرومانسي الغامر، ثم استخدام اللغة الحوارية بين طرفي الحب العذري الذي يتماها مع عطر الزيزفون الفواح وجمالها الخلاب، بالإضافة إلى تكرار السؤال الوجودي بالتزامن مع تكرار كلمة الزيزفون أربع مرات في الجملة الشعرية المكونة من ثمانية أسطر، ليوفرللسطور الشعرية ألحاناً باذخة من سيمفونية زيزفونية اللون والطابع.  
 ثم تقول الشاعرة:
بينما الليل ينسدلُ على الزّغاريدِ،
 قلتَ:
ـ سأشمُ من خنصركِ النَّعناعَ
هنا  كعادة الشاعرة في هذا الديوان تنوع بين الضمائر من المتكلم إلى المخاطب ثم المتكلم مرة أخرى، لكننا هنا إزاء مشهد انسدال الليل واستقباله بالفرح والزغاريد، مما يوحي بالسرد التمثيلي عن حالة عروسين في ليلة الزواج وزهو العمر، ومع الزغاريد الكرنفالية والصورة الحداثية الماثلة في الخنصر النعناعي يبدأ اللثم والشم لرائحة النعناع من خنصر المحبوبة، وهو مايرمز إلى المزيد من التفاؤل والأمل بمشهد الزواج السعيد.
ثم يبدأ الإشتعال يقدح شرارته الحب العاصف بين المحبوبين. 
أشتعل بكَ،
وقلبي ينبضُ
في رؤوسِ أصابعكَ.
مرة أخرى تعبرالشاعرة الوالهة هنا، عن تبادل لحبها العذري مع شريكها المتيم مثلها، ضمن حالة من التوتر والإلهام وحرارة الوجد الصوفي في مناجاة مع إيقونة الإله الواجب الوجود، فالمحب ملهمها ونارها التي تشتعل بها، وهي ينبض قلبها في رؤوس أصابعه. وهما صورتان حداثيتان مبتكرتان- أشتعل بك- قلبي ينبض في رؤوس أصابعك – وهو ما ينم عن توهج وفوران الحب الأنثوي بمثل هذه الصور السحرية الوامضة ببريق الحب، وحرارة المشهد العاطفي المثير للأحاسيس والمشاعر.
وفي جملة شعرية اخرى تقول الشاعرة:
وأتذكّرُ أنّك البارحة فقط،
اعترفت بما يشبه الحب لي
وأنك تحبّ أكثرَ،
أنفيَ العالي.
هنا بدأت الشاعرة تتنفس الصعداء في قصة حب عاصف كان من جانب واحد فأصبح من جانبين، ليعترف لها حبيبها منذ زمن قصيرأو البارحة فقط بما يشبه حبه لها، وأنه يحب أنفها العالي أكثر، وهي صور شاعرية  تطفح  بالثراءات الدلالية للقصيدة الحداثية، حيث يرمز – الأنف العالي- كحالة معنوية إلى الشموخ والاعتداد بالنفس، متناصة مع شاعر الرسول حسان بن ثابت وهو يمدح الغساسنة في بلاد الشام فيقول:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم        شم الأنوف من الطراز الأول
 
وفي الجملة التالية تقول الشاعرة:
مطرٌ،
يتولّى تصحّري،
وعظاميَ
منذ أوّل الغيم
 تتألّم.
هنا نجد وفي في عبارة 
مطر،
يتولى تسحري،
تمثل السطور السابقة صور حداثية مركبة تعبر عن حالة الإنكسار المعنوي في انقلاب صحراوي حولت حياة العاشقة المتيمة إلى مأتم حقيقي. فالمطر الذي هو دلالة الخصب والنماء، يأتي ليحول حياة العاشقة إلى صحراء مقفرة! وهو هنا تعبير بليغ الدلالة الشاعرية عن حالة الإنكسار في فضاءات حب صوفي تفتقد المسار والإستقرار.
بالإضافة إلى محاولات الشاعرة الوصول بشعرها  نحو الفرادة والتميز عبر الاختزال والتكثيف وسطر الكلمة المفردة، التي تخرج من أعماقها النفسية مضاءة بتجربتها الشعرية والمعبرة هنا عن العشق المموزيني بشكل لافت ومثير، كاشفة عما يؤرقها من حال مترع بالألم والحب وعذاباته، وحافل بالقهر والإستلاب ومنغصاته.
وفي ما يعرف بتراسل الحواس تأتي الشاعرة إلى تبيان الصورة البصرية في هذا الجملة الشعرية الغريبة التصميم في كتابتها فتقول:
بكيتُ الشاعرَ،
وأنا أقرأ منفاهُ.
نهضَ فجأةً،
يشيرُ إلى أصابعه:
ا
ل
م
ب
ت
و
ر
ة.
في هذه الجملة الشعرية عبرت الشاعرة عن الأصابع المبتورة بالتركيز على الحركة التمثيلية للكتابة أو البصرية أكثر من الصوتية أوالتمركز حول الكتابة (دريدا)، وذلك ببتر الكلمة وتحويلها إلى الحروف المكونة منها، والتي تبدو كأنها تشظت بترتيب هابط نحو الأسفل لترمز إلى حالة إنكسار الشاعر المنفي وبتر أصابعه بتلك الطريقة الحرفية الرامزة إلى مأساته في منفاه الوجودي، حيث رثته الشاعرة في محنته فبكته وأبكته.
هكذا بدت لنا الشاعرة آخين ولاط في ديوانها الشعري الموسوم بـ (الموسلين الأزرق) زرقاء كنبتة ربيعية زاهية الألوان تعشق الحب والطبيعة والحياة، بعينين  تتواريان تحت جفنين ناعستين استبد بهما السهر والكرى، تتوالى معها سطورها الشعرية مفعمة بالحب والقلق، والتوتر أحياناً، في قصائد نثرية طافحة بالحب والدلال، حيث تزين نسيجها النصي بالصور الحداثية المعبرة والخارجة عن المألوف اللغوي. ولهذا بدت في ديوانها معتدة بنفسها وعشقها فخورة بأنفها العالي، تسبح في فضاءات النفس البشرية بلغة فيها الكثير من الجمال والشاعرية، متسربلة بالغموض الشفاف، تعطي للقاريء لذة القراءة والكشف والمتابعة في محراب عشق صوفي لعاشقين توحدا في الله ليفترقا عليه. 
 …………………………………………..
14/9/2010م.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…