الشيخ توفيق الحسيني
الزمن هو عام ستين وألف 1960م والفصل هو الخريف واليوم يوم الأحد 13/11/1960م والوقت أصيل والشمس تجنح للمغيب والبراعم الغضة تحتشد أمام بوّابة جهنم تستعجل الدخول للاستمتاع بمشاهدة العرض السينمائي، ورويداً رويداً كان المكان يزدحم بالداخلين حتى لم يبق متسع لجالس أو موطئ قدم لقائم.
الزمن هو عام ستين وألف 1960م والفصل هو الخريف واليوم يوم الأحد 13/11/1960م والوقت أصيل والشمس تجنح للمغيب والبراعم الغضة تحتشد أمام بوّابة جهنم تستعجل الدخول للاستمتاع بمشاهدة العرض السينمائي، ورويداً رويداً كان المكان يزدحم بالداخلين حتى لم يبق متسع لجالس أو موطئ قدم لقائم.
في هذا اليوم خرج الأطفال لمؤازرة الشعب الجزائري ونصرته إذ كانت الجزائر لا تزال ترزح تحت النير الفرنسي حتى ذلك العام… خرج الأطفال وفي أيديهم بضعة قروش وفي جيوبهم بعض الحلوى والأفاويه. نفوسهم تطفح بالفرح والبهجة وتسطع وجوههم بالبشر والمسرة وتتألق على ثغورهم وشفاههم الابتسامة، فلو كانت لهم أجنحة في ذلك اليوم لحلقوا بها إلى أجواز الفضاء ونقلوا عرسهم إلى عنان السماء وأقطار الأفلاك. خرجوا حاملين نبض قلوب أمهاتهم وآبائهم…
ذهبوا إلى المحرقة ببراءتهم وطهرهم ونقاء طفولتهم لا يدرون أنهم عما قليل سوف يجلبون لأهلهم وذويهم فاجعة لا سابقة لها وأنهم سيصطلون بنار معتوهة عاتية ليتلوع قلب “عامودا” وتتشظى كبدها. وأن المناحة ستضرب أطنابها في كل بيت من بيوتها وسوف تتلظى الأفئدة والمهج أسىً والتياعاً وتجف العبرات في المآقي وتغص الحناجر بالصراخ والعويل ألماً.
ابتدأ العرض فزغرد الصغار واشرأبوا بأعناقهم فرحاً كما تزغرد وتشرئب أفراخ اليمام بأعناقها إذا جاءتها أُماتها بطعام. ولم تمر من الزمن إلا هنيهة حتى أحسوا بلفح حرارة لاذعة تسفع وجوههم وتشتد سورتها لحظة بعد لحظة فهلعوا وصرخوا وتدافعوا.. لأن الشريط السينمائي كان قد احترق تحت وطأة القوس الكهربائية وتفجّر ناراً هائجة لا تمس شيئاً إلا أحالته رماداً.. تدافعوا وتزاحموا وتراكمت الأجساد. وخرجت الشياطين من أوكارها وجحورها لترفرف بأجنحتها على النيران المتأججة كي تزداد سعاراً وضراماً. لقد مست النيران شعور رؤوسهم أول وهلة ثم انتشرت إلى ملابسهم والتصقت بأجسادهم الطرية.. كان الألم صاعقاً لا تصمد له الحجارة الصماء… فاستغاثوا واستنجدوا… ولكن أصوات الاستغاثة والاستنجاد كانت هي أيضاً تحترق وتخبو وتتلاشى… كان كل شيء يحترق احتراقاً جنونياً. النسيج الذي يغطي الجدران والأغصان والقش والعوارض الخشبية في السقف والمقاعد الخشبية… والكمية الهائلة من الشريط السينمائي المخزون في الحجرة المتخذة من الخشب.
كانت دار “إسماعيل مهاجر” ملاصقة لدار السينما فلا غرو إذا كان ولديه “محمد” و “أحمد” قد سبقا الكثيرين في الدخول، ولا غرو أن تكون “فريدة علي” أم “محمد و “أحمد” قد سمعت بالخبر المشؤوم الذي صك سمعها وزعزع كيانها، فخرجت مذعورة لا تلوى على شيء… لم يكن السقف قد انهار بعد ولكن ألسنة النيران كانت تتأوه وتخرج من الكوى في أعالي الجدران وكأنها تحذر الملأ من الاقتراب منها. ولكنها لم تبالِ أو تعبأ بوعيد النيران وتحذيرها فاقتحمتها تطلب فلذتي كبدها “محمد” و”أحمد” . كان “محمد” قد فرّ مع بعض الناجين بعد أن وسمته النار بآثار جسدية ونفسية ظل يقاسي منها طيلة حياته. أما “أحمد” فكان قد رحل إلى الملكوت الأعلى حيث تحلق أرواح الشهداء الأبرار.
فريدة علي تلك الأم الرؤوم، المرأة الصالحة، النقية الورعة التي اتسع قلبها للناس جميعاً، كانت تشعر أن هؤلاء الصغار الذين تكتنفهم النيران هم جميعاً أولادها فخاضت أمواجها المتلاطمة وأنقذت عشرة أطفال صاروا فيما بعد أبناءها –ولكنها واأسفاه… لم تفلح في إنقاذ فلذة كبدها “احمد”- فقد كانوا يذهبون إليها ويزورونها حيناً بعد حين يقدمون لها آيات الشكر والإمتنان واذا خاطبوها أو نادوها قالوا لها: أماه. وهم يشعرون أن هذه المرأة الفاضلة المضحية التي غدت لهم أماً روحية أحق بالإجلال والتعظيم من أمهاتهم اللائي ولدنهم وأرضعنهم.
ولما زال قرص الشمس عن الأفق البعيد كان أكثر من ثلاثمائة طفل قد زالوا عن الوجود. فقد فتكت بهم النار فتكاً ذريعاً… جعلت بعضهم هياكل عظمية محترقة وأحالت بعضاً منهم محض رماد.
كانت رائحة الشواء تفوح بعبق غريب لا مثيل له، يصفع المشاعر ويدمر الاحاسيس. ولما وصل فوج الإطفاء من “القامشلي” بعد ان استغرق سيره قرابة نصف ساعة كانت النيران قد صهرت العوارض الحديدية وانهار السقف فكان في ذلك القضاء المبرم على آخر خيط للأمل في العثور على أحياء. ولما أُخمدت النيران بدأ رفع الانقاض عن الجثث والهياكل العظمية المتفحمة ونقلها إلى الجامع القديم الكبير “جامع الشوافع” واستمر ذلك ليلةً ونهار اليوم التالي. وكان أهلوهم وذووهم يهرعون إلى حيث توضع الجثث والهياكل العظمية وبقاياها من الرماد. فمن عرف جثة أخذها ومن لم يعرف أخذ واحدة رجماً بالظن ومن لم يظفر بطائل اكتفى ببقية عظام محترقة ثم واراها الثرى وكتب على شاهدة الرمس إسم طفله الشهيد.
ابتدأ العرض فزغرد الصغار واشرأبوا بأعناقهم فرحاً كما تزغرد وتشرئب أفراخ اليمام بأعناقها إذا جاءتها أُماتها بطعام. ولم تمر من الزمن إلا هنيهة حتى أحسوا بلفح حرارة لاذعة تسفع وجوههم وتشتد سورتها لحظة بعد لحظة فهلعوا وصرخوا وتدافعوا.. لأن الشريط السينمائي كان قد احترق تحت وطأة القوس الكهربائية وتفجّر ناراً هائجة لا تمس شيئاً إلا أحالته رماداً.. تدافعوا وتزاحموا وتراكمت الأجساد. وخرجت الشياطين من أوكارها وجحورها لترفرف بأجنحتها على النيران المتأججة كي تزداد سعاراً وضراماً. لقد مست النيران شعور رؤوسهم أول وهلة ثم انتشرت إلى ملابسهم والتصقت بأجسادهم الطرية.. كان الألم صاعقاً لا تصمد له الحجارة الصماء… فاستغاثوا واستنجدوا… ولكن أصوات الاستغاثة والاستنجاد كانت هي أيضاً تحترق وتخبو وتتلاشى… كان كل شيء يحترق احتراقاً جنونياً. النسيج الذي يغطي الجدران والأغصان والقش والعوارض الخشبية في السقف والمقاعد الخشبية… والكمية الهائلة من الشريط السينمائي المخزون في الحجرة المتخذة من الخشب.
كانت دار “إسماعيل مهاجر” ملاصقة لدار السينما فلا غرو إذا كان ولديه “محمد” و “أحمد” قد سبقا الكثيرين في الدخول، ولا غرو أن تكون “فريدة علي” أم “محمد و “أحمد” قد سمعت بالخبر المشؤوم الذي صك سمعها وزعزع كيانها، فخرجت مذعورة لا تلوى على شيء… لم يكن السقف قد انهار بعد ولكن ألسنة النيران كانت تتأوه وتخرج من الكوى في أعالي الجدران وكأنها تحذر الملأ من الاقتراب منها. ولكنها لم تبالِ أو تعبأ بوعيد النيران وتحذيرها فاقتحمتها تطلب فلذتي كبدها “محمد” و”أحمد” . كان “محمد” قد فرّ مع بعض الناجين بعد أن وسمته النار بآثار جسدية ونفسية ظل يقاسي منها طيلة حياته. أما “أحمد” فكان قد رحل إلى الملكوت الأعلى حيث تحلق أرواح الشهداء الأبرار.
فريدة علي تلك الأم الرؤوم، المرأة الصالحة، النقية الورعة التي اتسع قلبها للناس جميعاً، كانت تشعر أن هؤلاء الصغار الذين تكتنفهم النيران هم جميعاً أولادها فخاضت أمواجها المتلاطمة وأنقذت عشرة أطفال صاروا فيما بعد أبناءها –ولكنها واأسفاه… لم تفلح في إنقاذ فلذة كبدها “احمد”- فقد كانوا يذهبون إليها ويزورونها حيناً بعد حين يقدمون لها آيات الشكر والإمتنان واذا خاطبوها أو نادوها قالوا لها: أماه. وهم يشعرون أن هذه المرأة الفاضلة المضحية التي غدت لهم أماً روحية أحق بالإجلال والتعظيم من أمهاتهم اللائي ولدنهم وأرضعنهم.
ولما زال قرص الشمس عن الأفق البعيد كان أكثر من ثلاثمائة طفل قد زالوا عن الوجود. فقد فتكت بهم النار فتكاً ذريعاً… جعلت بعضهم هياكل عظمية محترقة وأحالت بعضاً منهم محض رماد.
كانت رائحة الشواء تفوح بعبق غريب لا مثيل له، يصفع المشاعر ويدمر الاحاسيس. ولما وصل فوج الإطفاء من “القامشلي” بعد ان استغرق سيره قرابة نصف ساعة كانت النيران قد صهرت العوارض الحديدية وانهار السقف فكان في ذلك القضاء المبرم على آخر خيط للأمل في العثور على أحياء. ولما أُخمدت النيران بدأ رفع الانقاض عن الجثث والهياكل العظمية المتفحمة ونقلها إلى الجامع القديم الكبير “جامع الشوافع” واستمر ذلك ليلةً ونهار اليوم التالي. وكان أهلوهم وذووهم يهرعون إلى حيث توضع الجثث والهياكل العظمية وبقاياها من الرماد. فمن عرف جثة أخذها ومن لم يعرف أخذ واحدة رجماً بالظن ومن لم يظفر بطائل اكتفى ببقية عظام محترقة ثم واراها الثرى وكتب على شاهدة الرمس إسم طفله الشهيد.