مَنْ يطفئ البحر في جسدي؟

  شعر: جميل داري

لم أكنْ أعرفُ الرملَ . . ها هو يقضمُ ظلي
لم أكنْ أعرفُ النخلَ . . ها هو يصعدُ أفقَ القصيدةِ مثْلي
لم يكنْ لي هنا أحدُ
من إذا وأدَ القلبَ . . علقهُ كالحرائقِ
فوقَ مدارِ الحنينِ الذي صارَ يغلي؟
السرابُ المعتق يعشقني
والمسافَةُ تصرخُ في أذني:
أنتَ طفلي .
أنتَ أغنيةٌ من صدىً وطلولْ
تغلفُ روحَكَ بالريحِ . . بالغيمِ . .
بالزمنِ المضمحل
أنا يا غيمُ مثلُكَ أعشقُ أرضاً بعيدهْ
أنا ياريحُ مثلُكِ أبحثُ عنْ شاطِئٍ
لأضفر فيهِ القصيدَهْ
أنا يازمناً ضائعاً ضائعٌ
فكلانا سراج يتوقُ إلى ظلماتٍ جديدهْ
***
ليس لي موجةٌ أو زبَدْ
ليسَ لي غيرُ حلمي الكسيحِ الذي لا يُحدْ
ليسَ لي غيرُ أطيافِ روحٍ
وفزاعةٌ في طلولِ الجسَدْ
***
في يدي سرابٌ جميلٌ
ورماد أفتّشُ في غوره الميْتِ عن جذوةِ المستحيل
ولهذا ستبكي القصيدةُ حتى الدموعِ الأخيرةِ . .
حتى الهزيعِ الثقيلْ
***
كل بحرٍ توابيتُ ليِ
(خففي الوطْءَ) أيتها الموجَةُ النزقَهْ
كل أرضٍ عناقيدُ من ظمأ وسنابلَ محترقَهْ
ومدايَ مراقٍ كحلْمٍ تحجر في حدقَهْ
والعصافيرُ فوقَ غصونِ دمي مَيْتةٌ
إن هذا الصدى حشرجاتُ العصافيرِ لازقزقَهْ
كل بحرٍ توابيتُ لي
سأموتُ كثيراً لعلي
أغيظُ الحياةَ لعلي
***
قلتُ للأغنياتِ تعالي لأذبحَ أغنيتي
وأدنسَ يأسكِ بالأملِ
ليسَ عندي جوابٌ على أي نَزْفٍ
فإياكِ . . إياكِ أنْ تسألي
لهفتي انتحرَتْ في أصيص الهوى الأولِ
ليسَ لي غيمةُ أو هواء
فكيف أقولُ لصفصافةِ الحزْنِ: إنّكِ لي؟
***
كانَ لي زمنٌ من حبَقْ
وقصائدُ يانعةٌ ورؤىً مثلها ربنا ما خلَقْ
ها أنا واقفٌ تحتِ ظل الرّمادِ
أتجرعُ وحدي حِدادي
وكؤوسَ القلَقْ
كانَ لي زمَنٌ واسعٌ
عندما أغلقوهُ اختنقْ
***
في مكانٍ لدودٍ ووقتٍ ألدْ
في مساءٍ يباركُ هذا الخَرابَ
وفجرٍ يضمدُ بالريحِ نار الجسَدْ
كل ما أشتهي غائبٌ
وجهُ أمي وصوتُ حبيبي الذي ماتَ منذُ أمدْ
مَنْ إذاً يدخلُ الآن صومعةَ الصمتِ
حتى يؤذنَ هذا النخيلُ
ويرمي على جثتي زهرةَ الشوقِ
أو أفعوانَ الحسَدْ؟
***
كم أحب الرحيلَ إلى أجلٍ لا يسمى
كم أحب البقاءَ وحيداً
أراقبُ هذا الفضاء المدمى
كم أشذّبُ صوتي كي يتسلقَ هذه المسافَةَ
بيني وبينَ السهادْ
فمتى ستمر القصيدةُ . . تأخذني من هنا
وتكومني كرَمادْ؟
مل مني المكانُ ومل الزمانُ ومل الحِدادْ
ومتى . . آه ما أتفَهَ الأسئلَةْ
ما أمر الصلاةَ لآلهةِ المقصلَهْ
***
مطرٌ في الخليجْ
وسواهُ يبللُ شوقي
ويجعلني كتلةً من نشيجْ
***
لم أزلْ ذلك الطفلَ أحصي خيوطَ المطَرْ
وأخيطُ لنفسيَ سجّادةً من بكاء القمرْ
حينَ أبصرني عاشقٌ ذابلٌ في مرايا الابدْ
لفني بقماط الزبدْ
***
أسمعُ الآن صوتَ المسافةِ من بقْعةٍ في دمي
يتدحرجُ كالغيمِ في طُرقاتِ الفضاءْ
وأنا أنتشي بهبوب الخرافةِ
خلفَ حدودِ الهواءْ
ليسَ للوشمِ فوق يدي قبلةٌ . . قبلتانْ
ليسَ فيهِ سوى ألمٍ
طافَ في جوهِ ذكرياتُ المكانْ
ليسَ للريحِ أغنيةُ
فالصباحُ الذي أتذكرهُ الآنَ جد مُدانْ
والمساءُ الذي أتذكرهُ الآن ذابَ كخيطِ دخانْ
ليسَ للريحِ أُغنيةٌ
صَمتَ البحرُ فَالرملُ أصبحَ سيدَ هذا الزمانْ
***
ألهثُ الآنَ من شدةِ الموتِ . . أصعدُ داليةَ الضوءِ
لاشيء في الأفْقِ يبدو
خَلفَ ذاكرةَ الليلِ شاهدتُ نفسيَ تعدو
النخيل الذي يتمَرْأى على القلبِ
يُسدلُ أفياءهُ دونما رغبةٍ
فكأني بهِ ضاق بي

مثلما ضاقَ بالشوقِ لحدُ
***
اشربيني على مضضٍ يا نجومَ الظهيرَهْ
اقتفي أثري فمكاني بأقصى جزيرَهْ
اشربيني/ . . . لم أعدْ صالحاً للبقاءِ هنا . .
وهناكَ القصيدةُ مرميةُ في كهوفِ المنى
كم أود احتضارَ الصباحْ
فالرسائلُ فارغةٌ كالوريقاتِ بينْ مهب الجراحْ
والرسائلُ جارحة كالأماني المضاعَهْ
كالصدى وجعي . . يقتفي أثري ساعةً بعدَ ساعَهْ
***
هربَتْ من يدي الحقولْ
هَرَبَ الحَجلُ
معي الآنَ شمسٌ معتقةٌ وصدىً وذهولْ
معيَ الأجلُ
***
تدخلُ الشمس في موجةٍ حائَرهْ
وأنا تتجمعُ في المنافي شموساً مكشرةً جائَرهْ
المغني الذي تركَ الصوتَ بينَ يديّ
ماتَ . . لم ينتظرْ أنْ يعودَ إليّ
لم أجدْ أحداً خلفَ نعشيَ يبكي عليّ
وعلى شاطئ الجرحِ أوقدتُ غيمَهْ
لم أدججٌ سمائي بنجمَهْ
كنتُ أركضُ خلفَ هوايَ . . تعثرتُ بالأضرحهْ
وشممتُ روائحَ حزني القديمِ
إلى أنْ تهاويت في المذبَحةْ
***
آهِ . . . يا موجَتي المزمنَهْ
كيفَ لي أنْ أهشم قارورة الأزمنَهْ
آهِ . . قد هرمَ القلبُ مثلَ خيولِ الخرافةْ
كيفَ لي أنْ ألوكَ رمالَ المسافَةْ
ها هو الفجرُ أقبلَ متشحاً برمادي
والمساءُ المهدمُ وسْطَ الحريقِ ينادي
شَجرُ الوقتِ يصفر في روضَةِ الجمجمَةْ
والتي خلقتني من العَدمِ امْرأةٌ مجرمَهْ
هكذا يتصاعدُ مثلَ الدخانِ المللْ
وبحيرةُ حلمي تعكر فيها خريرُ الأملْ
وسمائي التي تتهاوى تسائل : كيف وأينَ وهلْ؟
***
أمسِ شاهدْتُ في الماء صورةَ موتي
كانَ بي صَدأ مزمنٌ
قلتُ للحزنِ: حولْ صلاتَكَ أثفيةً
ضَعْ على النارِ صوتي
***
ليسَ لي امرأةٌ
وجهُها من نخيلٍ ورملٍ ومنفى وفنْ
ليسَ لي غير طيفِ وطنْ
ليسَ لي موعدٌ مع موجٍ
تآكلَ مثلَ صخورِ الزمنْ
ليسَ لي المستحيلُ ولا الممكنُ
وحدهُ يتأبط روحي المدى الكافرُ . . . المؤمنُ
كل شيءٍ يغادرني : الماءُ والنارُ والوطَنُ
***
كل فجرٍ أداعبُ وجهَ النخيلِ
وأشربُ أغنيةً ثملَهْ
أتوجه . . لا شيءَ غيرُ السرابِ
فها تستبد بيَ الجهةُ المقفلهْ
***
البيوتُ القريبةُ نائبةٌ لا أراها
والبيوتُ البعيدةُ تسحقني برحاها
والصبّاحُ القريبُ يمرغني بالغرابهَ
والمساءُ البعيدُ يبللُ روحي بماءِ الكآبَهْ
لكِ أنْ تسكني في ( أعالي القصيدةِ)
لكنْ حذارِ الوقوعْ
فهناكَ أذانٌ حزينٌ ومئذَنةٌ من دمُوعْ
لكِ أنْ تجعلي القلبَ مائدةً منِ شموعْ
إذْ علي الرحيلُ إلى الموتِ حتى أقاصي الرمقْ
لم تعدْ في أجنحةٌ
لأزينَ بالريشِ جسمَ الأفقْ
يخرجُ القلبُ عن نارهِ
ويعلقُ في مشجبِ البحرِ ثوبَ القلقْ
وأنا والقصيدةُ نرفو خطانا بخيِط الشفقْ
كم أنا عاشقٌ في جحيمِ الرّؤى
ليسَ تطفئني كلّ هذي الرؤى الباردةَ
***
أنا والريحُ مختلفان . . . هيَ الآنَ حرةْ
وانا قيدُ سورينِ: منفى وحسرَهْ
كيفَ أنقذُ ما سلبَ الموجُ مني . .؟
وأنا ريشةٌ في المهب
كيفَ أوقدُ في القلب بحراً وما عاد قلبيَ قلبي
ليسَ لي غيرُ أنْ أتقرى المقابرَ . .
أقضيَ نحبي
***
لا أحن إلى أحدٍ . . . . . مسني هاجسٌ من بلادَهْ
ماتَتِ القبراتُ قبيلَ الولادَهْ
كل أبنيةِ الحلْمِ في الرملِ قد سقطتْ
أهْيَ أسطورةٌ أمْ إبادةْ
***
أيّ بحرٍ يحررني من رمالِ المدى ؟
ذاب صوتي كملحِ الصدّى
وتمادى بيَ الشّوقُ مئذنةً
من هديلِ الحكاياتِ أو موعدا
***
كم رأيتُ لوجهيِ وجوها
كأني أنا مرةً ثم . . لا أحداً؟
هوذا الموتُ . . يكتبُ في دفتر الريحِ ميعادَهُ
يتوعّدني أبدا
هوذا الموتُ . . يُرسلُ أنفاسَهُ في فضاءِ القصيدةِ
يطفئُ فيها حنيني الذي اتّقدا
كم رأيتُ لوجهي وجوها
ما لروحي العصية قد دجنوها
***
آه..أيتها الريحُ هاكِ لهيبي ازرعيه هناكْ
واقطفي غيمةً
واجرفي قحطَ روحي بسيل الهلاَكْ
آه..أيتها الرّيحُ . . ياظمئي . . هاكِ . . هاكْ
***
ما الذي قذفَ القلبَ في مهرجانِ القنوطْ؟
كلمّا ارتفعَ الحلمُ بي شحبتْ لغتي
وتهّرأ فيها جميعُ الخيوطْ
كلما ارتفعَ الحلمُ شاهدت أجنحتي في مرايا الهبوُطْ
***
لن أبللَ يأسي بماءِ الأملْ
كلّ ما حوليَ الآنَ حلمٌ ضريرٌ
وحزنٌ ترهلَ مثلَ بقايا طللْ
لن أبلل صوتي بماءِ الصدى
ليسَ لي غابرُ
ليسَ لي حاضرُ
فعلي إذاً أنْ أموتَ غدا
***
لنْ أرددَ خلفَ القصيدةِ كالببغاءْ
انشققتُ لأبتلع الأرض . . أحسو السماءْ
انتهيتُ فكيفَ سأبدأ ثانيةً
والبداية حُبلى بكل نهايَةْ؟
آهِ . . . فليجرفِ الموتُ أغنيتي
بعدَ موتِ الأغاني تطيبُ الحكايَةْ
***
آه . . . مَنْ يطفئُ البحرَ في جسدي؟
مَنْ يكومُ رملَ القصيدةِ
يبني سماءً بلا عمدِ
مَن يعيدُ إلي الزمانَ الذي ماتَ فوقَ يدي؟
كانَ ثمة طيفٌ يلاحقني
صاحَ: خذْ . . ورمى لي بأضمومةِ الزبدِ

“مقاطع من قصيدة طويلة
الملحق الثقافي لجريدة الخليج الإماراتية
السبت 27/11/2012

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…