ذكريات مرّة ..!!

حسين أحمد
Hisen65@gmail.com

يبدو للنزيل الجديد وللوهلة الأولى إنه عالم آخر مغاير عن الحياة الطبيعية العامة التي كان يعيشها المرء بتفاعلاتها المليئة بالتأملات والأفكار التي من شأنها أن تفضي بك إلى صلب الحقيقة .
في لحظة من اللحظات قد توصف بآدمي فقد لتوه لذة الإحساس كأنك بمثابة ” آلة ”  روبوت  .
في المشهد نفسه. تنسى ذاتك.. وتنسى ذاكرتك ..وحتى روحك الطيبة, وإذ بك تتأمل الأحداث التي تتغير من حولك إلى أن تقودك إلى السؤال التالي :

أين أنا ..؟!
حينئذ تتكثف الذاكرة المخزونة لديك بطريقة مثيرة, كالسرعة في الحركة البدنية ,والسرعة في البوح ,تلك الذاكرة التي تستفيض بمخزونها وتختزل في التعبير دون دراية منك . تحس بان الصورة تلي الأخرى كشريط سينمائي يقدم لك بانوراما تسرد حياة رجل مات قبل دقائق . في هذا المسلسل السريع تكتشف بأن الآخر لا يستسيغ أهمية جدالك, فالكل يطرح حكايته , يسعى قدر المستطاع لإقناع الآخر بجدوى حكايته.والآخر يحاول إخفاء قسم من حكايته لتبقى طي الكتمان .. إلى أجل غير مسمى . في حين تكف عن السير في شكله الظاهري كما لو انك تهرول في مكانك. هل انتهى الوقت ..؟!  
أجل….ولكن لم تنته القصة بعد .. النهار كان قصيراً جداً – صار سريعًا إلى الأفول-  فالموضوع ظل معلقاً ليعاود نفسه في يوم الغد ,لكن هيهات أن تتذكر شيئاً من حديثك المتبقي .
ثلاث ضربات متتالية بالمفتاح على الباب الرئيسي للفسحة أو ربما أكثر.
–  الكل إلى المهاجع.؟! 
– الجميع إلى المهاجع   ؟!
تبدأ ما تبقى من نهارك القصير, فالترتيبات القادمة مختلفة كلياً عن النصف الأول من النهار .لأنك ستلتقي مرة أخرى بالزملاء عنوة أو غير ذلك) : مصطفى ,آلان , خالد , ريدر( .أما في زاوية أخرى فثمة فئة من البشر,ربما يخشون التفوه عبر الأثير أو لا يريدون أن تنقل أخبارهم إلى الصحافة الممنوعة. في الحقيقة إنهم أسماء , ومواليد, وعناوين وأجساد مختلفة , إلا أنني أحسست بأن أرواحهم قد غادرت موطنها الأصلي أو ربما أحلامهم أيضا إلى برازخ السموات , لأن القدر حشرهم في بوتقة واحدة هي بالأساس خارجة عن الزمان, ليكونوا عائلة متماسكة ، فالبعض منهم لا يعرف مصيره أو مستقبله على الأقل في الوقت الراهن   .
حديث ” مصطفى “.. الذي أدهش ذاكرتي المتعبة وأنا أتأمل نبرات صوته الهادئ في الوقت الذي بدأ فيه يتكلم عن تجارته وعن إعماله وعن أسماء إخوته جميعاً وعن قريته ” آلوجة ” القريبة من ” ماردين ” بلغة مختلفة إلى حد كبير عن اللغة التي أدركتها في حياتي اليومية ,مما أدهشني أكثر هو صغر سنه ، إلا أن روحه البريئة تمرغت في تراب هذه الحياة وعذاباتها – وهل يمكن للمرء إحصاء المرات التي وضعت في معصمه الأغلال.- لا أظن ذلك – جعلت منه رجلاً صلباً ,قوي البنيان قبل أوانه  .
أراد أن  يشرح لي وظيفة ” الكشافة ” وكيف كانوا يجتازون الجغرافيه الوعرة , وحدثني بإسهاب عن خلطة حبوب ” فياغرا ” وأجهزة كومبيوتر متطورة, حيث انتقل بشرحه الرتيب إلى التراث والفلكلور وحبه لهذا الإرث الثري, أراد أن يختم حديثه بأغنية ” درويشي عبدي ” كما أوضح فيما بعد الطريقة التي تمت فيها مصيدته: 
” آلان “.. كثير الضحك ً….وكثير الشغب في ذات الوقت  من بين الكل كان صريحاً .وواضحاً كوضوح الشمس تحدث عن مغامراته المثيرة بطريقة ساخرة : منها كيف كان يلاحق الفتيات الحسناوات إلى جانب تردده اليومي إلى الملاهي الليلية .
 – سألته أين أنت من مدلول أسمك.أجاب : سريعاً – ” آلان ” هو نفسه ” آلان”  سوى إن كنت هنا أو طليقاً , سأظل ” آلان ” الذي حمل راية التمرد على كاهله, سأظل ” آلان ” أبن حارة ” قدوربك ” لكن ما باليد حيلة كانت غلطة شاطر دخلتها بغباء ..الم تسمع بنتيجة التحليل ” الجنائي ” التي ظهرت بان نسبة الدقة كانت 12 %  – بربك – ألا يثبت ذلك بأنني غبي بامتياز . مع ذلك قدم لي تعريفاً ببعض المصطلحات المتداولة في المهجع آنذاك مثل : ( ضب – عوايني – فسفوس – طق براغي . الخ ) أما طعام المهجع فكانوا يسمونه ” قروانه ” حقاً إن معظم هذه المصطلحات لم أكن اعرف عنها شيئاً في السابق . سألته عن معنى كلمة ” ضب ” أجاب سريعاً : انظر إلى مصطفى..!! ألم تر كيف ادخلوه … .. هذا يعني أنهم قاموا بضبه إلى الداخل .
 – أصوات خطوات سريعة تتقدم صوب جهة الجنوب   …
المهجع رقم (3 (
التأمين …
حينها تتأكد بان عقارب الساعة تجاوزت الثامنة مساء, و الكل في صمت مريب بل في تأهب تام استعدادا للإحصاء.
إنه مراد علمدار….  
–    اخفضوا صوت التلفاز … 
 –   ضعوا التلفاز في مكانه المخصص  .
 نظرات باتجاه القادمين بوجل وخوف وأخرى إلى  جهة ” زليخة ” المتمردة ,وصوت المطربة ” اينور” ” خراب زمان ”  لئلا يفقد احدهم  مشهداً من مشاهد ” غربة إمرأة ” إنها الدهشة ما بعدها الدهشة – .والآخر من تلقاء نفسه يحاول سحب المأخذ الكهربائي بإرباكٍ شديد والكل في ترادف يشبه المسننات أو على شكل رطلين متساويين .
– تم الإحصاء…….
انتهى المشهد المربك الذي تعودنا عليه يومياً ,عاد الكل إلى مكانه
المعتاد ,إلا أن رائحة شواء ” الباذنجان ” تركت أثرها في فضاء المهجع رغم التحذيرات , في النهاية استوعب الكل بان القضاء عليها كان غير ممكن  .
” خالد ” صاحب ” النظرية : إن النظافة هي عنوان الحضارة . عرفته واضحاًً كان مثالا للإنسان الهادئ والخلوق وكان يحسن التصرف مع من حوله وخاصة في أوقات المحن والشدائد ,يتكلم بمسؤولية عن كل موقف يصادفه .تأسف كثيراً لما جرى له وكيف دار الزمن عليه وهو خبير في حفر الآبار .فضولية الإنسان قادتني أن أسأله : ألا ترى نفسك في تناقض لما أنت الآن فيه  .
– سكت برهة …بعدها …هز رأسه يميناً وشمالا .  
عدت أسأله ثانية وأعرف أنني دخلت في بؤرة الخطر ولكن لا بأس : ألست معي بأن الإنسان هو نفسه عنوان ” الحضارة ” قلت له علينا أولا أن نرمم ذواتنا من الداخل ومن ثم نبني هذه ” الحضارة ” التي تتحدث عنها. لان الحضارة والتقدم والرقي لا تبنى بالتمنيات وغسل الصحون يا صاحبي..أما ” ريدر ” فكان رجل المهمات الخطرة ,والإرادة الصلبة , طباخ بارع قدم لنا مأكولات شهية ونحن في أوج محنتنا , رأيته حرفياً ذكياً في صنع ميداليات للزينة حتى انه صنع لي ميدالية نقش عليها حرفين إلى جانب درايته بفتح الخزائن المحكمة التي كانت عصية حتى على أصحابها . 
حفظ على ظهر قلب مواد القانون بدقة متناهية فمنها المتعلقة بأحكام الجنائيات كما استوعب مداخل ومخارج المحاكم كما يدخل ويخرج من بيته فالرجل لم يبخل معي – مشكوراً-  أطلق عليّ حكماً مخفضاً ,ربما لأنني لم أقدم له البيانات الكافية .لقد ذاق الرجل الويلات من جراء تجاوزه الأسلاك الشائكة ولم يتفوه بكلمة واحدة عن أسرار الخزائن – معروف عنه قليل الكلام وعدم المصادقة مع الآخرين .

فاجأني بالسؤال : ما الذي أبقاك هنا كل هذه المدة .. أجبته ربما ذلك الحلم المرعب الذي رايته ليلة البارحة ..
–  اي حلم  ….
لا شعورياً لفت نظري إلى حركة غير مألوفة أمام مدخل بناية ضخمة تقع في أطراف المدينة لأرى ثلة من الرجال ملثمين يجرون فتى معصوب العينين بطريقة بشعة نحو الداخل ,حفيظتي دفعتني إلى متابعة وضع هذا الفتى لأعرف ما الذي اقترفه من جرم حتى يجرونه من كل أطرافه بهذه القسوة ، وعبر درفتي الباب الرئيسي رأيتهم يأخذونه إلى منصة الإعدام .
– بعد تنفيذ الحكم فيه, استفسرت من احد المارة الفضوليين ما جرم هذا الفتى حتى أعدموه ……؟؟؟   
 -قال…. بسبب المشاجرة.؟! قلت وهل  أصبح حكم المشاجرة إعداما  
–  قال : نعم  …ألم تسمع به ..؟؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
•   الأسماء الواردة في النص :لا تمت الى الحقيقة بصلة

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…