يموتون وتبقى أصواتهم قصص قصيرة جدا، بمعنى ما هي قطع مكثفة تعمل على اقتصاد اللغة، وتنهل من كيميائها، لتصور قدرتها على القول أو تصنع الصورة بكل حرفية، مبينة الملامح ليس الأساسية فقط، وهنا إذا اكتفت بخطوطها العريضة توطدت علاقتها مع اللغة الخبرية والصحفية، الخطاب الظاهراتي، لا الخطاب المضمر المكنَّه،مايعني سقوطها، وإن حققت الغائية الخبرية، هي شككت في قارئها وبيتته بمستواه التحتي، وأغلقت على القرائي كفعالية أهم، فأدونيس لايعول على كتابة متوضحة، تفهم بلا جهد، يريد لتلك الفعالية أن تنشط وتحفز وتوثب، عمران عزالدين أحمد يستيطيع هذه اللغة ويفعلها، انطلاقا من وعيه الذي قدمنا له في البداية، على أني أفهمت متلقياً، أن هذا الوعي، الحامل وأحد الأدوات، أداة الحرفي،في تشعير اللحظة، وخلق الحدث، ومن ثم إيراء رأس الخيط لنا كمتلقين، للحاق بالفكرة التي هي أيضاً لاتغيب متواشجة مع التبصير الذي يمارسه الكاتب لجملته، قصته، وعنونته، العتبة النصية التي تبدأ من البداية في العنوان الرئيس يموتون وتبقى أصواتهم، الإشارة بقوتها مقولة أخرى، النظر إلى العلاقات في النص العنواني إذا صح التعبير، هنا العنوان يتناص مع عنوان للكاتب التركي الكردي يلماز غوناي (ماتوا ورؤوسهم محنية) ويموتون وتبقى أصواتهم، عند يلماز الفعل بالماضي، ورؤوسهم محنية دلالة الفشل والخسران والمهانة، في عنوان عمران الفعل بالحاضرالمستمر دلالة استمرار الاستلاب وتمتعه بقواه الخفية والظاهرة، الخفية بما أسست له من ثقافة هيمنة ونفس موشكة على القهر والويلات وهذا الخفي يتناص كمعنى مع يلماز غوناي في عنوانه، وظاهري بالأدوات السلطة الفاسدة وماينتج عنها من تذليل للآخر وتحت تسميات وذرائع مختلفة،الكردي التركي يلماز غوناي، والكردي السوري عمران عزالدين احمد، الدال البيئوي كجين مورث، تعالق شكلي السلطة،ليس بالضرورة السياسي،وإنما الاجتماعي والسيكولوجي،في فراق المعاني والرؤى والمرامي في كلي القصتين، الأولى رواية، وجود الطول والتوسع الأفقي، والراحة في الوصول إلى المعنى الساكن، والثانية القصة والقصيرة جداً والمحاولة في تبئير اللغة قبل تبئير الحدث والحبكة القصصية، أي المغامرة والمقامرة بالحدث في تنشيط العلاقات الهندسية بين الكلمات بوصفها ذوات قائمة بذاتها ويمكن أن تحيل إلى ماهو كامن ولائذ، ومن هذه المعرفة وانطلاقاً من تفتيحها لأرض ربما تكون مجهولة لقارئ غير سوي، قارئ لايؤل تذهب قصة عمران عزالدين احمد بمستويات عدة إلى قارئها، ومن ثم إلى تقعيدها للشكل الذي كتبت فيه، فالعنوان بالنهاية لايؤسس للخيبة، وإن توشحه “يموتون” ثمة إشارة إلى موت مفترض، وليس موتا فيزيولوجياً، يدل عليه استمراره الذي لابد ويشي باستمرار الحياة، هو لم يقل ماتوا كما فعل ابن جلدته، هنا تكمن الدلالة في تآزرها مع المفردتين التاليتين مقترنتين بالظمائر الدالة على الجمع مايؤكد مرة أخرى احتماء الكاتب ولوذه وتظهيره وأنسنته جملته الكتابية للوصول”النص لايكون له معنى إلا إذا قرئ”بحسب إيسر، “وتبقى أصواتهم، هنا الصوت، الصائت، وإذا وصفنا اللغة بوصفها صوتاُ أيضاً وجدنا أن الكتلة المعرفة بالنص تستند على هذا الصائت المعلن، والإعلاني، الخبري مشغولا عليه في الغيابات الكثيرة والخفاء، المضمر، المغيِّب، المسكوت عنه، فالموت الذي ذهب بالكثير أبقى شيئاً يدل على ممن استلبه بفعل قوى عجلت به الصوت، مايعني أن فعل الموت لم يتحقق بكليته، حين ينهي كتابته بشيء احتفالي تواطأ مع مفتتحه القصصي ” لكننا سنعيش ونغني، وهذا مايطمح الكاتب إلى التأسيس عليه كمقولة احتجاجية، أداته عنوانه الرئيس ومن ثم العناوين في المتن، المجموعة بكليتها، والقصص الكثيرة بعناوينها الفرعية ومتونها، ويكفي أن أذكر العناوين على سبيل المثال كترسيخ لمنهجه القراءة التي بدأتها عن قوة الإشارة وتوضحها (شبع موتاً_هستيريا_عدالة_حملة شعواء- الديمقراطية الأمريكية_تعديل وزاري_خلود موظف_مقتطفات ثقافية من صحف المعارضة ” الممعن في العناوين الأمثلة،سيجد أن أغلبها التي تم ذكرها وما يظهر في المجموعة ال98 عنواناً، جاءت هكذا غير مركبة وبلا متضايف يعززها أو يبينها، ذلك لنهوضها بالتبيين بنفسها لقوتها المنجزة كمفردة متداولة ومطروقة، على أن ننصف الكاتب ولانأخذ باستهلاكية المنطوق الممكن في المتن على انه جاء كصورة (فوتو كوبي) عن العنونة، بل أن عناوين أخرى مركبة كجمل فعلية أوشبه جمل جاءت غامضة ولم تهب قارئها من جهة العنونة تلك الراحة التي وجدها مع تلك القائمة على مفردة واحدة (كبش فداء وذبابة- فصول الريح وأرصفة الانتظار_لماذ انفجر القطار_لماذا يسير النمل بخط مستقيم_كيف أصبح المختلس مرتشياً- وردة لحارس الغابةـ السيرة الذاتية للقمة فارة ) فالعنوانات جميعها تتعاضد للمقولة الرئيسية، الاحتجاجية الموحدة للعمل على أنه نص واحد قسم دراميا بهذا الشكل لتمكين اللغة من فعلها التكثيفي وبالتالي إكساب النص المتعة الكافية لتسويقه بين منتج واع ومتلق هو أيضا يتقاسم مع المنتج الدلالة والتأويل وضوابط التأويل الذي لاتذهب بالقارئ إلى الضياع، هذا مايحققه نص يموتون وتبقى أصواتهم من ضبط للإشارة، وإلمام بالعلاقات والعلامات من حيث هي التشفير أو (الكود) الممنوح لطرف العلاقة وقراءة احتمالية مفهوميته للمقروء المنجز،تنوس العنوانات بإشاراتها بين الشعري المفتّح، وبين الواضح الواضح، غير أنها تجتمع كلها تحت خيمة فكرتها ، أس اشتغالها، مايمنحها صفة الصوت الواحد، من حيث مفتتحاتها ومن حيث قفلها، ومن حيث تبصيرها لا عمائها في تحميل الدال أكثر من منطوقه.
تأتي الفكرة الإشارة مرتفعة في خطها البياني في (يموتون وتبقى أصواتهم) تصعيداً وتبئيراً في المتن/المعنى وليس في المتن الحكائي المكثِّف، والمقروء في نفس الوقت بظاهره وباطنه يمكن النظر في (عهد شجرة) تحميل الشجرة دلالة مؤنسنة ولها عهد” كانت في حارتنا شجرة تحمل ثمارا شهية رميناها بالحجارة، فلم تنبت في حارتنا منذ ذلك اليوم، أشجارا لها ثمار شهية” هذا المقدس وعدم احترامه يعني إشاحته بوجهه عنا في حال عدم احترامه، الواضح أن الشجرة بالتعدي عليها، تتعطل قيمتها، الظاهر، أما المبطن النموذج غياب الحميمي في تعدينا عليه وتحوله من الطرف الواهب إلى الطرف (العدو)على عكس مايراد به وله، ويشتغل القاص على المضادات بين العتبة النصية وبين المتن كما في قصة عدالة “في الوقت الذي تقيأ مافي أحشائه للمرة السابعة في اليوم، لأنه دسم سبع مرات، أصيب جاره بتشنج في أمعائه، لأنه لم يأكل منذ سبعة أيام.”العدالة تقتضي ألا تتم القسمة بهذا الشكل المرضي، وثم متناً بحراك التضاد داخلياً وربما هذا ماينطبق على الكثير من القصيرة جداً، فالتضاد يمارس زهوه، بين ذلك المتخم والمتقيء والجائع المتقيء أحشاءه.
لاتفلت قصص عمران عزالدين أحمد من مثالب القصة التقليدية، وذلك من ملاحقة فكر ومواضيع مستلكهة وبعضها شفوي عمل عليها القاص تدويراً لتناسب الفعل الذي يرجوه إلا أنها جاءت باهتة، وخفيضة الإشارة من تداولها الشفوي كحكايات أستهلكت، كما في قصتي تأبط هماً وعندما تحلم الفقراء، وبعضها لخلل في التوصيل مايجعل اللغة عاجزة في اقتصادها المطمح به أن تقول الحكاية بذلك القدر من الكلام والإبلاغ كما في قصة الأحياء الراقية، على أنني سأتوافق تماما مع ماذهبت إليه الكلمة المحتلة للغلاف الأخير بالتدليل على قصة حروب الخطابات والتي استطاعت تقديم نموذجها كنموذج يمكن للكاتب الإتكاء عليه كمبين وخصوصية تلف المجموعة كاملة، لو أنه تنبه للتماثل الظاهر في أكثر من مكان تعالقاً مع الفكرة واللغة،وفي الأسلوبية التي تبدأ بالفعل كان أوالأفعال التي تتناغم والأفعال الماضية الناقصة، أو النهايات التي ترتكز على شحن الجملة المتضادة لسير القص،المرجو منها الإدهاش، إلا أن الإكثار قلل من جرعة الدهشة،لصالح التبييت الذي يمارسه القارئ حيال الكثير من القصص
عمران عزالدين أحمد كقاص موهوب في مجموعته (يموتون وتبقى أصواتهم) يقدم صوتاً نموذجياً للقصة القصيرة جداً والمشغولة بتعب،تعب اصطياد الفكرة،وتعب اصطياد اللغة التي تنهض بالفكرة دون استلابها وتعميتها
المؤلف: عمران عزالدين أحمد
المؤلَف: يموتون وتبقى أصواتهم
الناشر: دار التكوين دمشق 2010
* شاعر وناقد سوري
مقيم في دولة الكويت