هذه هي الفكرة. الكثيرون تلامسهم العتمة، ومن ثم العزلة؛ عزلة الموطن وعزلة الزمان الذي افتقد روح الديمقراطية في أكثر من بقعة من بقاع الوطن الناطق بالعربية، عزلة الانتماء وإغتراب اختيار الهوية.
الاشكاليه صعبة وعميقة المحتوى، لو نوقشت أسبابها.
بها عبروا، وصبوا صباباتهم، لامسوا غربتهم، وعزفوا على أوتارها، تأرجحوا بين حكايات الجدات الشجية، وروائح التنانير في الظهيرات، وقت إياب المصلين، وبخور الأعياد في ترانيم المعموديات.
أهوار الأرض وطحالب المياه، دلاء الماء، وشدو المنشدات في سبل السواقي.
تقافز السيقان النحيلة، تركض في غبرة حارات الطفولة، تستنجد وصايا الأجداد أن تفتح للنور فسحة من طريق في ضيق السبل. وسجلت وصايا الأجداد في أختامها المقفلة. فلترحلوا في الأرض، فبها مستقر لكم، وللسابلة منكم أمان الطريق.
فرحلوا، وترحلوا. للبحث الأول والأخير عن أمان الروح، ثم الجسد.
سليم بركات، واحد منهم.
قامة سامق، لامستني الخشية وأنا أحاول الاقتراب من عوالمه الكونية، بكمها الابداعي الخصب من رواية وشعر وفكر،
وماذا سأضيف بخبرتي المتواضعه إلى ما وجدته منه وعنه؟.
هل سأناقش اللغوي، وهو العالم اللغوي؟.
أم الفلسفي، وهو الفيلسوف الأدبي؟.
وهو الأديب الروائي، والشاعر الذي لاقياس بعد مايقيسه.
من أين أبدأ اذا؟
سليم بركات، الصنو الكردي السوري، لمحمود درويش الفلسطيني، بينهما الجليل، معاً في مجلة الكرمل.
مات نجم” الظل العالي”، بينما يعيش نجم “القامشلي”. في مدينة ستوكهولم غربي السويد، يسكن في محراب من محاريب اللغة العربيه.
كيف سيتم تعريفه إذاً؟.
نحن نجلٌك يانجم اللغة العربية الكردي، فكيف الطريق إليك؟.
وهذا ما قاله سليم بركات:
“لم أذهب في في اتجاة الترجمة إلى لغة أخرى، بل في اتجاه روح الكردي، إلى عربية تخص شريكي العربي، الذي ينبغي أن يتعرف إلىٌ بعد، اغتراب في صحوة قوميته التي الزمني بتهجئة إعرابها”.
“ذهبت إليه متسامحاً، بلغته التي هي أقداري على تدبير حريتي في بلاغتها، وتدبير هويتي في نبلها الأعمق، مستغلاً إستغلال العاشق تواطؤها على تدبير المعنى، الذي يستحقه كردي في الاشاره إلى دجاجات أمه، وتبغ أبيه”.
مجلة حجل نامه 2007، ص14.
هذا هو المسعى الذي سعى إليه سليم بركات في بحثه الدؤوب عن هوية، أو إنتماء ” اللغة”، ليقول من هو، واللغة لمخاطبة الآخر بلغة يفهمه بها، ليقوده إلى دلالة وجوده، وليريه ماهية هذا الوجود، ليتوحدا معاً في نسيج متماسك من سلالة ثابته وأبدية، تغزلها الألفاظ والمعاني.
أبي
أمي
أرضان تكسر بينهما النبذ وكسرني الماء”.
الأرض والماء خامات الخلق الكونية، التي لاتحدد بموقع، إذ هي فكرة فلسفيه أسطورية، بل وفيزيائيه مطلقة، بينهما نما إنتماؤه، لكنه الشعر اللغز الذي لاخامة محسوسه له!:
“عالمي واسع
عالمي كرة تتدحرج بين الظنون”.
الاعمال الكامله ص66
وفي هذا العالم الواسع أين سيجد الشاعر مستكناً له؟.
“المياه المياه
تنزل المياه في الصباح عن سريرها، وليس عليها من زينة الأرض، غير عقد من الأشرعة، وتصعد إلى سريرها، في المساء، مخضبة بقلق المنارات والصواري التي لم تصل. والمياه فأس العذوبة، التي تهيء للآلهة حطب الكون. والمياه
كلب يجر زحافتي على جليد الأبجديه.”
المجموعه ص263
هذه هي هوية سليم بركات، التي تتلبسه في الصباح والمساء وتنساب من شرايينه بعذوبة المياه.
(الأبجديه)
اشكاليته وهويته التي رسمته ويرسمها:
“هيا، أيها النشيد، هيا نقف معاً خلف قناع أخير، لنتحين الأرض حين تعبر أقدارنا بسرب من الآلهه. هيا، لأجعلنك أيها النشيد قناعي، ولأمتدحن الظلام اليقظان، ففيه تغزل الأحابيل خيوطها الحلوة، ويتوسد الكلام الذي سيقال في الحروب المرحه.
وكحرب مرحه
سأدخل
البلاط المفتوح على كل الجهات”
المجموعه ص252
لامدى، ولا سلام لحربه المرحة، في ميدان اللغه، يصول مشهراً هذه القدرة الفذة على مبارزة الحروف في نسقية بنائية تثبت مطلق الهويه، ولامحدوديته الابداعيه، التي قد تقيده في رقعة مكانية، او تسمية معينة، وهو تماماً ماعبر عنه الشاعر محمود درويش، مخاطباً سليم بركات:
قلتُ للكردي، باللغة انتقمتَ
من الغياب
(من قصيدة” ليس للكردي الا الريح” لمحمود درويش)
ينفي سليم بركات انحصار الهوية في المكان، بل وينفيها في الزمان، جاعلاً لهويته مدى مطلقاً، لاتحصر في زوايا:
“فما أنا إلا دليل سور المساء الآجري بحراب الملهاة، وتتبع الأثر الأكبر؛ أثر البذور وهي تشق الجلود عن أحناشها الترابية، وتستقبل المدى الشريد”
المجموعه ص252
المطلق والمطلق، ومن ثم المطلق، دعوة انسانية فلسفية لتتبع الحياة، واستقبال مداها الواسع اللامحصور، روح بشرية محلقه تقول: لايهم من أين، ولا من أكون، ولا ماذا أدعي، وحدة الذات ومداها الممتد الشريد اللامقيد.
لم يقف سليم بركات عند الذات الانسانية بفسيولوجيتها، وبأن جعل منها بفلسفته الشعرية وحده لها سمة المطلق، بل قدم للأساطير والحكايات، وكائنات الطبيعة، كمكون أساسي لهذه الذات. فهذه الذات المحلقه تلتقي في الأزمان من خلال الرموز الاسطورية، ومفردات الثقافة الاجتماعية على مدى وحقب تاريخية، ربما كانت، لكنها لازالت!
“جوهر يتمادى،
عرض يتمادى”
المجموعه ص494
وهل أبلغ من هذه الفكرة الفلسفية، التي أطلقها سليم بركات للماهية البشرية، والوسط المتعايش معها، والتي حفلت بها دواوينه، فالانسان هو الجوهر، والكائنات هي العرض، بدءاً من ملهاة الخلق، ثم المسيرة الكونية، وعلاقتها بكل ماعبرت به هذه المسيره. هذا هو سليم بركات.
من السذاجة بمكان أن نطلق عليه أية هوية مباشرة، إن كان هو قد حدد هويته بنفسه: بأنه الادراك أو الجوهر، وهو الكون أو العرض وبينهما اللامدى.
لكن، سليم بركات لايفصل بين ماهو هيولى، وما هو محسوس في الشعر، أو في هويته الشعريه. فلقد حفلت عناوين دواوين وقصائد سليم بركات بموروث واسع من المعاني الأسطوريه والدينية، سواء بسواء، كما حفلت بمفردات الطبيعه والتي تترجم فكرته الفلسفية:
“مري ياحمائم،
ياعصافير الغضار،
وياغرانق،
ياإوز،
وياسماني،
يادجاج الماء،
يابازي،
ياحدآت،
ياجهلول،
يادراج،
يابطريق،
يازرزور،
ياخطاف، مري، فأبتهالي ليس إلا نزعة من أدمي يحتفي بأناثه، إذ هن يفتحن الغضار كوردة للنيزك الملكي، أو يخطفن محور بعلهن مشاكسات رعده. مري وئيداً ياقرنفلة مسورة بأنفاس العناكب، قد تطاوعني البراري مرة من يأسها، فأرد كل فصيلة رد الصواري نحو موجة مأتم، وأفرق الأكباد بين مكيدة ومكيدة، ولربما دحرجت أقمار البراري في غشاء يابسٍ، وقذفت كل مدينةٍ في يأسها، وأنا أدير الوقت كالخزٌاف، مستنداً إلى كرةٍ تفيء الى جوانبها الفلول.
ولربما سيرت أقماراًعلى إهليلجِ الصرخات، أو
أحنيت جذعي فوق نجم محاربٍ،
وكشفت كيف يجيءُ موجٌ هازلً مستطلعاً موجي، فيهذي الأرخبيل.
ولربما شيعت سوسنة إلى جرح، وعابثت الموالي، حاشداً في خوذة مشقوقة، شمساً يفاجئها الأصيل.
بإنقسام مذهل، بالعشب يحشده دمٌ أو زنجبيل”.
هذا العالم المذهل المنقسم في تركيبة تراتبية مابين الماده المحسوسة والادراك كبعد زمني غير مدرك، الحدس المتبدل مابين استكشاف الآنيٌ في صعود مستمر لاستكشاف القادم.
لابد من القول إن شعر سليم بركات، لايقود إلى غنائيه تقريرية منسقه بوتر واحد، أو متكرر، بل يجد الانسان نفسه أمام فكر جاوز النمط الشعري المتعارف عليه، ليسمى شعراً، ليتحول إلى ازدواجيه تخلق نمطاً جديداً في اللاوعي والوعي، في المحسوس والمطلق؛ في الواقع الشعري المنسق والملكة الشعريه اللامحدودة، بنى سليم بركات “لفكر شعري” إن كان لي الحق في ‘طلاق هذه التسميه. ولا اقصد بالفكر، المعنى المؤدلج للمفهوم، بل أعني توظيفه لكل التراث البشري، بكل مكوناته في كتابته الشعريه.
في كثير من الكتابات التي قرأتها عن سليم بركات، حاول الكثيرون رسم الحدود له: حدوداً لغوية، حدوداً مكانية، ولربما حدوداً كلامية، يحاولون إيقاعه بها. ولربما وقعتُ أنا نفسي في نفس الاشكال، وأنا اصفه بنجم اللغة العربية الكردي…..
كل ما أوقعنا العالم المحير ـ عالم سليم بركات فيه، بل وكل ما أوقع نفسه فيه، في حوارات عديدة يجاري الآخر بها، يفنده سليم بركات نفسه بفكره الشعري الذي تقدم له هذه القراءة.
“إلهي
خذ لأناثك قداسي، وأجعلهن شريكات الخردل والطمي، واسرجهن، لأهتك مجد الذكر العاصف في غايته، اجمعني في الخوف، وأسرجهن لأقرأ ما أنت محوت. اجمعني في اللبان ولبلاب الرحم. اجمعني….
أين دمي؟”
المجموعه ص100
لاحدود لحرية سليم بركات وهو يهتك مجد الذكر، أو يقرا نهايات الإله، ثم يجمعها ليصبها في دمه.
هل تستطيع حدود البلاد ترسيم عالم سليم بركات؟.
بل هل تستطيع الوسائل العديده تحديد فصيلة دمه؟ وهو المتسائل في هذا الدم!!!.
هذه هي الاشكاليه المعقده التي طرحها فكر سليم بركات، كرؤى جديده في الفكر العربي، وأكون على ثقه لو قلت من خلال انغماسي وغوصي في فكر سليم بركات الشعري، مع قليل من القراءات الروائيه له، أجد أن سليم هو سليم بأية لغة كان سيكتبها، كان سيضيف إليها ولن تضيف إليه، وهذه هي الخصوصيه المتفردة؛ الخصوصية التي اتخذت من اللغة هوية، لكنها منحت اللغة هويتها. الايقودنا هذا المعنى إلى سؤال جدلي عن: من يصف من؟، وهوسؤال فلسفي ومعقد يجيب سليم على جزء منه، إذ يقول في أحد حواراته:
“الأسماء هي اسمائي، والحيوانات هي طبيعتي، والمدن نفسي، والشوارع مخيلتي التائهة، وهي معاً بالأنين الخافت في الكتابة، نعشي المضيء، فإن أيقنت أن الحياة هي أسماء وصور، أيقنت أن الموت بدونها لتحيا”.
حجلنامه 10ـ11 ص12 حاوره “عقل العويط”.
بهذه العباره القصيرة، “عرف” الشاعر والروائي والأديب سليم بركات فكره “اللأدبي” أو” الفني”، والذي شكل هويته الانسانية.
من كل ايقاعات نسقه اللغوي، يقدم بنية للأنشطة الحياتية، التي يقوم بها، بما فيها فعل الكتابة نفسها، والتي هي صفته ككائن ما في هذا الوجود، ومن كل هذا يصل إلى الجوهر الذي أوضحه في نصه الشعري السابق “جوهر يتمادى”، لكنه يقول أيضاً “عرض يتمادى”، وهي الأسماء والحيوانات والمدن والشوارع، والطبيعة والأصدقاء والشهداء والمصعد والردهة والمآزق، والمعارج، والذبح، والتيتل، وأساطير الحب، هي القرامطة ومهاباد، هي الأسرى والمحاربون، هي الممالك والخيبات هي…
هي الهوية، هوية هذا الشاعر بأزمنته المتراكبة، التي يقدمها كادراك وكواقع، كعقل وكحياة بسيطة، هي خبز أمه، وتبغ أبيه.
هل أجبنا على السؤال: عمن هو الصفة وعمن هو الموصوف؟، والذي نعيد طرحه كاشكالية هوية لدى الشاعر بالشكل التالي:
” من هو الأنا ومن هو الاخر؟”، في هذه الاشكاليه المطروحة: إشكالية الهوية لدى سليم بركات!!!!
من خلال كثير من القراءات المطروحة، راق للبعض تحديد هوية سليم بركات، بأنه الكردي المعبر بالعربية، إلا أن سليم بركات نفسه يطرح اشكالية الهويه اذ يقول:
“أظن أن الهوية هذه اللفظة الغامضة جداً ـ تعني لدى البعض سياقاً عرقياً، مهما جرى تمويهه، وتعني تعارضاً “ممكناً” وحدوداً في الانفصال عن “الآخر” لتأكيد الذات ضمن”الوحده المتجانسة” ـ “الكليه”. وفي ذلك قدر كبير من الخراقه.
لاتجانس كلياً في أية وحدة بشرية” مهما اتخذت سمتها الثقافيه، والدينية، والعرقية”.
حجلنامه 2007 حاوره سعاده سوداح
بهذا التعبير البليغ يعبر سليم بركات عن كينونته، كذات لها وجود في مقابل الآخر المنفصل عنه.
“أنا” سليم بركات هي اللاوعي، واللاوعي هو الملكة الابداعية، وبهذه الملك’ كفٌن معبر عنه تفتت “الأنا” ذاتها، فتتحول إلى خلية منقسمه من الذوات التي تصطدم بمكونات طبيعية، تصدر قواها لجذب “الأنا” إليها، ومن ثم تعيد صياغتها، لترجعها من جديد إلى “أنا” معادة التشكيل. لكونها أصبحت تكتسي باشعاعات جديدة، وبصور جديدة، وبملكة تواصل جديدة، أيضاً ترسلها إلى “الآخر”، هذه الصور هي”ذات” مولودة للكاتب أو الفنان يستحيل فصلها عنه كوحدة.
تختلف وسائل التعبير عن ملكة الولادة الابداعية، لغة، لوناً، نغمة، تراتباً صوتياً، كلها أدوات يحدد إطارها المبدع، لتكن هي الوسيلة التي تخرجه من إطاره “كهوية” محصورة، إلى هوية مطلقة، لاتنحصر بزاوية واحدة.
هذه هي هوية المبدع، وهذه هي هوية سليم بركات، الذي قد نظلمه، إن قلنا إنه يحمل ذات واحدة، نرجعها لصفة واحدة، أو لربما لقومية واحدة، أو لأرض واحدة، فهو بذاته وحده. هو الجوهر، وهو العرض، هو الهيولى، وهو المادة، هو المفارق وهو المحسوس.
ليست تلك مبالغات، هذه الحقيقة، اكتشفتها بقراءة شعر سليم بركات، التغى وجوده بالنسبة لي كذات، وأصبحت أتامل فيه ككون آخر لكل ماهو مخلوق أو لكل ماهو موجود.
يقول سليم بركات في أحد حواراته: “لم أكن فكرت قط، في أي هم “قومي”.
وهكذا انتشر بيننا كهوية، لها وحدتها الابداعية الواحدة، التي لاتحتاج إلى وثيقة سفر لتعبر، فهي مطلقة، تتخلل الأشياء بكل نعومة، بحيث تلغي كل الحواجز المرسومه أو المرسٌمه.
ـ القامشلي، مدينة في الشمال الشرقي من سوريا.
ـ الاستشهادات مأخوذة من الأعمال الشعريه الكاملة، لسليم بركات، المؤسسه العربيه للدراسات والنشر 2007بيروت.
غوتنبورغ 2011