حاورته/ نـوّارة لحـرش
قدمك سليم بركات في كتابك الشعري الأول “غرق في الورد”، ماذا يعني لك أن يقدمك سليم بركات؟
حسين حبش: كان جميلاً أن يقدم سليم بركات للكتاب، وكان جميلاً أن يكون فرحي بهذا التقديم في ذلك الحين كبيراً جداً. فهذا الكتاب كان خطوتي الأولى في عالم النشر وكان حصيلة تجارب كثيرة ومتنوعة في الكتابة والشطب والإمحاء والتمزيق ثم الكتابة مرة أخرى.. لذلك بعد كل التعب والإنتظار، أردت أن يقدمه شاعر متميز كسليم بركات، وحصل ذلك. أرسلت له الكتاب مع بضع كلمات تعني أنه يستطيع التخلص منه إذا لم يقتنع به. لكن المفاجأة أنه لم يقدم للكتاب فقط بل وقف وبكل جدية على كل شيء فيه، أكاد أن أقول أنه وقف على كل شاردة وواردة، وبعد ذلك كتب ما كتبه بكثافة وعمق شديدين، ملفتاً الأنظار بقوة إلى الكتاب.
في “هاربون عبر نهر إفروس” حضرت تيمات كثيرة وحميمة هي تيمات الأهل والحياة والطفولة والرموز والمرجعيات الكردية، لدرجة أنك قلت عنه بأنه ديوان الأنين الكردي بامتياز، وفي نصوصه تحكي أكثر عن ألم الأكراد، ومع كل نص أو مفردة نشعر أن هناك قضية ترتشف من دمك وحبرك الكثير وتستزيد، ماذا تقول عن كل هذا؟
حسين حبش: فعلاً، ديوان “هاربون عبر نهر إفروس” هو ديوان الشجن والألم والجراح والعذاب والفراق والبعاد والإنكسار والإشتياق والهجرة والمنفى والغربة والذكريات والهروب والخوف والطفولة والعائلة والأصدقاء والأمومة والأبوة إن شئت أيضاً. وكذلك هو ديوان الأنين الكردي الطويل، ذلك الأنين الذي لم يتوقف عبر مئات السنين وإلى هذه اللحظة. لذلك أردت أن أقول من خلاله هذا هو أنا، هذا هو مصير الكردي منذ بحته الأولى وإلى أنفاسه الأخيرة. لم أود أن أجترح بطولات زائفة ولا تلفيقات سمجة، أردت أن أقول الحقيقة العارية والمعذبة دون كذب ولا رياء ولا إدعاء ولا إفتعال ولا تجميل ولا تهذيب، حاولت قدر المستطاع أن أفعل كل هذا بخفة طائر وجنون شاعر وخيال عارف، دون التخلي ولو للحظة عن جماليات الشعر ورهافته وروحه الثرية والعظيمة دوماً.
تجربتك تتمحور حول نبرة شعرية قصيرة ونبرة أخرى طويلة، قد تشكل كتابا كاملا مثلما في كتاب “ضلالات إلى سليم بركات”، ترى أي نبرة تأسرك أكثر وتجعل اشتغالاتك عليها أوسع؟
حسين حبش: بخلاف ما قلته سابقاً وفي سياقات أخرى عن انحيازي للقصائد الطويلة والمركبة أكثر من غيرها. أنحاز الآن ودوماً إلى القصائد التي تهز وعي القارئ وتخلخل ثوابته وتحرضه على طرح الأسئلة وابتكارها أيضاً. أنحاز إلى القصائد الإنشطارية التي تضرب شظاياها في كل الجهات، وتربك الأمكنة والأزمنة معاً. أنحاز إلى القصائد التي ترعش وتنعش وترقِّص وتغوص في الأرواح والأجساد والقلوب. أنحاز إلى القصائد التي لا تمشي على جادة الصواب والإستقامة، بل تختار لنفسها جادات الغيب والعصيان والمنعرجات الوعرة. أنحاز إلى القصائد التي تجلب لعنة السحر وفتنة الجمال على صاحبها وعلى القارئ على حد سواء، بكلمة مقتضبة، أنحاز إلى الشعر والشعر فقط. لذلك ليس مهماً أن تكون القصيدة ذات نبرة قصيرة أو طويلة، بل المهم هو أن نسألها بخبث هل هي قادرة على أن تخلق في نفس القارئ بعض هذه المتع والتوترات العميقة التي أورتها أم لا؟ وهذا هو السؤال الأهم!
قلت: “لست ابنا شرعياً للشعر السوري، فأنا ابن المنفى شعرياً وحياتياً أيضاًً”، ترى ماذا أعطى المنفى لنصك وشعرك؟
حسين حبش: نعم، قلت أنني لست ابناً شرعياً للشعر السوري، بمعنى أنني لم أخرج من ردائه ولم أتأثر بمناخاته، فولادتي الشعرية الحقيقية كانت في الخارج هنا في المنفى. ليس لي إطلاع كاف على الشعر السوري ولا أعلم بمخاضاته وتطوراته وإلى أين وصل. أقرأ ما يتيسر لي من نصوص متفرقة في الأنترنيت، ونادراً ما تصلني مجموعات شعرية من هناك. نضجت وصقلت تجربتي في المنفى، فهذا المنفى بغض النظر عن سلبياته في بعض الجوانب، منحني الحرية التي لم أكن أحلم بها في الوطن، حرية قول ما أشاء قوله، وحرية ما أود كتابته دون رقيب ولا خوف. منحني مساحة واسعة للحركة والتأمل والنظر للآفاق البعيدة. منحني سقفاً ودفئاً وأسرة رائعة. منحني فرصة ثمينة لإعادة صياغة روحي ونظرتي للعالم والكتابة بشكل مختلف. منحني حرية التنقل والسفر، وبمنتهى السهولة بين الأقطار والأمصار والدول والقارات. منحني مجالاً واسعاً للتعرف وعن كثب على لغات وثقافات متعددة ومتنوعة، والتواصل مع مزيج عجيب وغريب من البشر والأقوام والأثنيات التي تتعايش مع بعضها بسلاسة وحب ووئام، كل هذه الأمور أثرت بي تأثيراً كبيراً ومنحت نصي وقصيدتي بعداً وعمقاً ورؤية مختلفة.
هل الشعراء دوما “ملوك الرهانات الخاسرة والألم الباهر”؟
حسين حبش: هذه الجملة مستلة من مفتتح مجموعتي الأولى “غرقٌ في الورد”. نعم، الشعراء كانوا وما زالوا دوماً “ملوك الرهانات الخاسرة والألم الباهر”. فالشعراء كما نعلم لا يستكينون أبداً ولا يعرفون الهدوء والإطمئنان.. قلقون جداً و”كأن الريح تحتهم”. ألمهم راعف وعظيم. رهيفون كحد السكين. غريبو الأطوار. يستلون القصائد من أعماقهم المضطربة وأرواحهم الهائمة في كل مكان، لذلك فهم ملوك الخيال والجنون والألم وذهب الكلمات.. يتألمون ويتعذبون ليقدموا، ودون مقابل أفضل وأجمل الكنوز المخبأة في ممالكهم العجيبة والفاتنة، والتي لا يعرف أبوابها ودهاليزها ومتاهاتها إلا هم وحدهم.
ديوانك “ضلالات إلى سليم بركات” نصك الطويل والذي شكل كل الديوان فيه بعض ظلال بركات الشعرية والفلسفية، وهي تجربة ثرية استلهمت من تجربة بركات وأضافت أيضا سيقاتها الخاصة ودلالاتها وحفرياتها، هناك من اعتبرها احتفاء ببركات وتجربته وهناك من اعتبرها تماهيا مع تجربته المتميزة؟
حسين حبش: أردت من خلال هذا النص الطويل، والذي امتد وتشعب في كل الإتجاهات أن أحتفي بسليم بركات وتجربته الفذة بطريقتي الخاصة وبأسلوبي الخاص، أن أعيد صياغة العالم من جديد، من خلال الإشتغال في المناطق البدائية والعصية والأكثر صعوبة وخطورة وضلالاَ في الشعر. في هذا النص الطويل والصعب حشدت كل طاقاتي وتجاربي الكتابية. كنت بعيداً جداً عن سليم بركات حين كتابته. كنت غارقاً في التأمل والتجريب والقراءة، حيث كنت أقرأ وقرأت كل أعمال طاغور وجبران خليل جبران وكتب تراثية كثيرة ومتنوعة، وكتب أخرى بالكردية والعربية والألمانية، فكانت النتيجة ضلالاتي هذه!.
تزاوج بين الحداثة والأسطورة أحيانا، وقصيدتك لها القدرة والقابلية على أن تتكامل/وتتجاور فيها هذه الثنائية وبجمالية، فما سر هذا؟
حسين حبش: في الكتابة الشعرية، الحداثة والأسطورة ليستا على طرفي نقيض، بل أنهما متكاملتان ومتواشجتان في هارمونية متناغمة، فإذا استثمرت الأسطورة أو أي شيء آخر له وجود في العالم أو في الكون سواء كان من ابتكار الطبيعة أو الإنسان بشكل جيد في القصيدة ستبدو حداثية ومخترقة لعصرها. فالحداثة ليست بالمواضيع بل في كيفية استخدام هذه المواضيع ومعالجتها ضمن سياق الكتابة.
الكردية لغتك الأم كيف هي علاقتك بها راهنا وماذا عن ديوانك بالكردية هل سينشر بسهولة أم هناك مؤشرات لعرقلته؟
حسين حبش: أغلب ما أكتبه الآن هو بالكردية، وهي لغتي الأم وأشعر بمسؤولية كبيرة تجاهها. هذه اللغة التي حرمنا نحن الأكراد من تعلمها في المدارس والجامعات. لغة تعرضت وما زالت تتعرض لأبشع أنواع المنع والطمس والتغييب المقصود، وحتى الإبادة من قبل غاصبي كردستان. أي أن حالها مثل حال شعبها! عندما تماهيت كتابياً معها، وجدتها لغة مليئة بالشعر والفتنة والعذوبة والثراء الذي لا يضاهى، فحتى الحديث العادي بها يحتوي على الكثير من المجازات والإستعارات التي تكاد تكون شعراً خالصاً. أما عن ديواني بالكردية والذي أود نشره، للأسف سيتأخر النشر مرة أخرى لأسباب تتعلق بدور النشر وليس بالكتاب حتماً!.
“أعلى من الشهوة وألذ من خاصرة غزال” ديوان الحب والعشق والنصوص العاشقة/الشبقة أحيانا، تيماته مشتعلة ومتقدة بالجسد وهو أكثر دواوينك إيروتيكية، فماذا تقول؟
حسين حبش: فعلاً هذا الديوان هو ديوان المرأة بامتياز. ديوان الحب والفرح والسعادة والإحتفاء بوجود المرأة في الحياة بكل شفافيتها ورقتها وفتنتها وجمالها. ديوان الإحتفاء بالجسد والإمتلاء والأنوثة المفرطة. ديوان الشبق والإيروتيك والشهوة واللذة. ديوان احترام المرأة واحترام كيانها وجسدها وذكائها الفطري. ديوان الشكر والإمتنان لها، لأنها بوجودها تزيح القسوة من الحياة. ديوان الذهاب إليها، لتطمئن أرواحنا. ديوان أراد أن يقول بشكل أو بآخر بأن المرأة جوهر الحياة والحب والخصوبة والعطاء، جوهر العذوبة والرقة والحنان، جوهر الوجود كله. ديوان أراد أن يقول: من حسن حظ البشرية أنَّه ما زال في العالم نساءً يتقطرنَّ جمالاً، عذوبةً، نقاءً وذكاء. خلاصة القول أراد هذا الديوان أن يقول بحب عميق ونادر: أيتها المرأة أنت نور الحب ونبل الوجود ونقاء الكون، ونصف الحياة قليل جداً عليكِ.
الملحق الثقافي لجريدة النصر الجزائرية