الجزء الثاني
وها قد مضى الآن على وفاته خمسون عاما , لكن ذكراه لا تزال باقية في قلوب الناس والأجيال الصاعدة من بعده لما لأنه كان يحمل في حافظته من روائع الغناء الشعبي الذي كثيرا ما امتزج فيه الشعر والنثر معا , ابتدعته أفكاره بذكاء حاد وبخيال واسع , حتى بدت أغنياته بحق فريدة من نوعها , متميزة بخصوصيتها , فهي تنقلك إلى جو تسرح فيه بخيالك إلى أحضان الطبيعة , ومواقع الحدث في سلسلة من الأحداث المثيرة , تحس وكأنك جزء من القصة أو الراوية التي يقوم بعرضها , وهو من ناحيته يتفنن بأدائها , ويلونها بصوته وأدائه , أكانت ملحمة تاريخية أو قصة اجتماعية متوارثة .
لم يكن (مشو بكابور برازي) شاعرا ارتجاليا محترفا فحسب , وإنما كان رجلا موهوبا في الأدب الكردي أيضا (شعرا كان أم نثرا) , وكان ذو صوت شجي تطرب له الأذان وتخفق له القلوب , فقد كان يختار قصصه الغنائية وقصائده الشعرية بنفسه , ويقوم بتأليفها وأدائها بشكل مرتجل على تقاسيم وأنغام الناي .. تلك الأداة الموسيقية الوحيدة التي كانت معروفة في المنطقة آنذاك .
ولكي نلقي الضوء على بعض من جوانب (حياة مشو بكابور برازي) بشيء من الخصوصية , وخاصة الجانب الإبداعي الذي تميز فيه , لا بد أولا أن نولي بعض الاهتمام بدراسة شخصيته وأفكاره , لقناعتنا بان هذا الإبداع الرائع الذي تميز به نتاجه الأدبي من القصص الغنائية المستمدة من التراث الكردي والتي كان يسكب كلماتها في قالب جميل , لابد وان تكون نابعة من معاناته للظروف الحياتية القاسية التي عاشها , والتي أفاضت مشاعره باتجاه التعبير بهذا الشكل والأسلوب :
إما عن رفضه للظلم والاضطهاد وإيمانه بالتحرّر , أو عن إعجابه بقصة حب عنيف تولـّد بين قلبي حبيبين عاشقين , جرت أحداثها في غابر الزمن , فأينعت ثمارها ودنت قطوفها , ولهذا فان ما ارتجله من القصائد والقصص التراثية بمضامينها الهادفة , وتعابيرها الدقيقة في نقل الحدث .. تعتبر بحق مدرسة نادرة في الإبداع والأداء ..
ومهما حاولنا أن نعطي لهذا الشاعر الارتجالي الموهوب من سمات تحدد شخصيته وأفكاره وموهبته , فإننا لا نستطيع إلا أن نذكر غيضا من فيض عن حياته الخاصة , ونمط معيشته وأسباب ترحاله إلى مناطق متعددة في رحاب سهول كردستان الغربية .
فلربما كانت للظروف المعيشية الصعبة آنذاك , وتفشي البطالة والفقر كما أسلفنا , والتفاوت الطبقي الثقيل الذي كان يتحكم كثيرا في مصائر الناس , وفي الأنماط المعيشية للسكان في ظل النظام الحاكم الذي لم يكن يتوانى أبدا عن إخماد أي شعور وطني لدى الكرد بأساليب قمعية , هي السبب في أن يتخذ (مشو بكابور) قرارا صعبا بمغادرته مناطق كردستان الخاضعة للنفوذ التركي , ويتجه إلى سوريا ليستقر في بلدة (كوباني) , وهناك: في كنف عشائر البرازية استطاع أن ينمي مواهبه أكثر ويصقلها ليغني للطبيعة وللحياة وللحرية .. فأطلق مجموعة من القصص الاجتماعية والتاريخية التي مر ذكرها أنفا , وهي من ألاغاني الرائعة التي قام بحبك خيوط نسيجها بمهارة فائقة , لتحكي كل واحدة منها قصة ونغما وتاريخا وتراثا , تتجسد فيها الآمال والأهداف والحب والعطاء , ولم تلبث أن انتشرت بسرعة كبيرة , وانتشر معها حب الاستماع إليها لأنها كانت تلهب قلوب الناس بشموليتها المتمثلة لعناصر التشويق والأداء الجميل في الكلمة والمعنى .
وفي أواخر العشرينات من القرن العشرين , وحتى عام 1940م , حاول (مشو بكابور برازي) تسجيل القصص المذكورة أعلاه لدى (شركة استديو صوت الاسطوانات الوطنية في سوريا ولبنان) , لكن هذه الشركة اعتذرت عن تسجيلها بكاملها كونها قصص طويلة جدا , واكتفت فقط بتسجيل مقتطفات من كل منها , ومع ذلك فان هذه التسجيلات قد أحدثت حينها ضجة في عالم الغناء الشعبي في مناطق عديدة من غرب وشمال كردستان , وراح الناس يستمعون إليها بلهف وشغف على أنغام الناي الحزينة التي كان يعزفها مرافقه (محمد حوري) ويتفنن في تقاسيمها عبر ما يسمى بصندوق الأغاني الذي كان الناس يتجمعون حوله في بيوتهم .
وبعد ذلك بدأت رغبة الناس تتزايد بالالتقاء بـ مشو بكابور برازي عن كبث , وخصوصا رؤوسا العشائر البرازية في المنطقة , ليستمعوا إليه في مجالسهم بحضور حشود كبيرة من الناس , وهو يقوم بأداء هذه ألاغاني النادرة بأسلوب أخاذ.
وقد ترافقت مع انتشار هذه القصص الغنائية , مجموعة من القصائد الوطنية كان قد أطلقها (مشو بكابور برازي), ونشر بعضها في مجلة (هاوار) التي كانت تصدر آنذاك في لبنان , بعد أن التقى في دمشق ببعض شعراء الكرد منهم (جلادت عالي بدرخان – قدري جان – عثمان صبري) وغيرهم – وسنأتي على ذكر بعض المقطوعات من هذه القصائد لاحقا -.
ويذكر .. عندما كان يحضر إلى مضافة القرية , لا يبقى احد من سكانها في بيته إلا ويتجه إلى هذه المضافة ليتجمعوا فيها متزاحمين من حوله لقضاء وقت ممتع ولساعات طويلة , وهم يستمتعون بأغانيه التي كانت تلهب مشاعرهم , وتثير فيهم الحماس والإعجاب , ويتمنون لو أن الأغنية تطول بهم إلى مالا نهاية .
وهكذا .. بدأت مسيرته في عالم الغناء , تقطع شوطا كبيرا , وبدأت معها شهرته في أوساط الشعب , وتمتد إلى مناطق واسعة من كردستان .
إن إنجازاته في عالم الغناء والشعر والقصة والقصيدة للأسف باتت في مهب الريح , وغابت عن أقلام أدباء الكرد الذين لم يجدوا لها مكانا في الصفحات وبين السطور , وكادت تنطوي إلى الأبد لولا أننا استطعنا بجهد كبير من نفض الغبار عن الجزء اليسير اليسير من بعض مقاطع أدبياته في الغناء والشعر التي كانت مسجلة على اسطوانات تعرضت كلها إلى التلف بمرور حقبة طويلة من الزمن , وأصبحت بحالة مهترئة غير صالحة للنقل على أشرطة الكاسيت .
ولعل ما أحزنني أكثر هو ذلك السجل الذي طلبه المرحوم مني شخصيا أن أدون فيه جانبا عن حياته وأدبياته في العام 1953 م , وكأنه كان يدرك أن رحيله من الدنيا بات وشيكا , واستجابة إلى رغبته فقد دونت في هذا السجل نقلا عن لسانه عددا من القصص الاجتماعية والتاريخية من التراث الكردي , وكذلك بعضا من القصائد الوطنية باللغة الكردية المحلية .
ولكن هذا السجل أيضا لم يجد طريقه إلى النور بعد رحيله , حيث كان قد تم مصادرته , ولم يُعرف مصيره حتى الآن , غير أن ما أثلج صدري هو انني كنت احتفظ له في ذاكرتي بشيء من الوقائع الكاملة عن مجريات وأحداث تلك القصص الغنائية الممتعة , فنقلت عددا منها مثل: (ممو وزين – تيّار وغزالة – والآن أنا بصدد سيامند وخج) إلى اللغة العربية .
وهنا .. نود أن نذكر بإيجاز بعضا من الصفات الشخصية لـ (مشو بكابور برازي) , وشيئا من عاداته وطبائعه , كان رجلا معتدل القامة , عريض المنكبين , ممتلئ الجسم , حنطي اللون , مقطب الجبين , ذو عينين عسليتين بحواجب عريضة , أصلع في قمة رأسه – بعد ما تقدم به العمر- , وهذا ما كان يضفي على وجهه المليء سمة الرجل الريفي , ذو البشر النقية , والملامح الجذابة .
كان ينظر إلى الأشياء بتفحص عميق من خلال تلك العيون – ذات النظرات الثاقبة – التي تنم عن الفطنة والبداهة , يمتلك ذاكرة قوية جدا وخيال واسع , وقوة في الإرادة والتصميم , فكانت هذه الصفات تؤهله للتأليف والحفظ والاستيعاب بسرعة مذهلة .. ولعل من ابرز صفاته الشخصية هي تلك الرجولة الفذة والجرأة النادرة التي كان يتمتع بها , وقد تجلت أبان الثورة الكردية في تركيا عام 1925م بالاعتماد على عنصري السرعة والمفاجأة ..
ورغم انه كان ملما بالقراءة والكتابة التي تلقاها على يد شيخ كتاب القرية .. إلا انه كان خبيرا بآداب المجتمع الذي يعيش فيه , فهو يحترم العادات والتقاليد وأصول التعامل والتفاعل مع الناس , لكنه كان ناقدا اجتماعيا لاذعا , لا يروق له أن يقوم احد ما بالخروج عن الآداب العامة في مجلسه وبحضوره كمن يصطحب طفلا يلهيه أو يدخل مع من هو بقربه في حديث جانبي يصرفه عن الاستماع ويثير الضجة .
تزوج مرتين , كانت الأولى “حليمة” من عشيرة ميران فأنجبت له ولد وابنة هما (حنيفي و بريشان) , والثانية “ساره” من عشيرة شيخان فأنجبت له ثلاثة أبناء (إسماعيل – فاضل – عارف) وابنتين “نائلة وحليمة” .
ولما تقدم به العمر في مرحلة الكهولة , ضاقت به سبل العيش وراح يعض الأنامل منها بالنواجذ على ما فرط في أملاكه بتركيا وسوريا في مجتمع لم يعد فيه الناس يعيرون كثير اهتمام بالأدب والأديب .
وبقي ملتزما جدران منزله لا يغادرها فامتزج في نفسيته ما إنساني مع ما هو عاطفي , وراح يجتر الماضي الذي ذهب ولم يعد , ولم يبقَ منه إلا ذكريات دافئة .
وهكذا .. قضى (مشو بكابور برازي) مراحل حياته منذ تاريخ ولادته في العام1879م , وحتى تاريخ وفاته في العام 1956م .. في مسيرة طويلة تميزت بخصوصية ملفتة في حله وترحاله بين ربوع البلاد وبين ادبياته .
———-
ويتبعه الجزء الثالث