أمين عمر
العم حسن كان يسكن قريتنا ..كنا نسكن قرية العم حسن ..بل كنا والعم حسن أبناء قرية واحدة. العم حسن كان قد توفى منذ شهرين وأهالي القرية كانوا قد بدؤوا نسيانه، كما يـُنسى جميع أموات القرية بعد العزاء، بأيام . كنا على وشك إنهاء الجولة الأخيرة من لعبة الورق “الشدّة” عندما نادى المؤذن إلى صلاة الجمعة.. رمينا الأوراق دون تحديد من الفائز وتوجهنا إلى الجامع معاً واتفقنا أن نتوضأ هناك ، ما كان يجمعنا نحن الشباب الخمس ، أعمارنا المتقاربة، كنا كفريق واحد، أربعة منا مواليد سنة واحدة، والشاب الآخر، يصغرنا بسنتين ، كان يزعم أنه طار أعلى من سربه والتحق بجيلنا، أشياء كثيرة كانت تجمعنا، فعدا عن تواجدنا القسري في القرية التي خـُلقنا فيها ، كان يجمعنا أياز يوسف ومحمد شيخو، يجمعنا الملل من المنهاج المدرسي، وحب القراءة ومطالعة الكتب و الروايات، وأشعار ممنوعة،
ما يجمعنا كانت روائح وسعر دخان سكائر” الفرط” ذاتها، كان يجمعنا سابقاً، خياطة الموديل ذاته، للبنطال، موديل “النفخ ” أو ما يسمى موديل عكس ” الشلستو” أو ما بعده، حيث يكون واسعاً من الاعلى وضيقاَ من الاسفل، كان يجمعنا قصة الشعر نفسها “بانكي”، والتي كنا ننفذها بأيدينا ، الأجيال التي كانت تكبرنا “كانت ترمينا بلقب ” شلة البانكي ” ، كان يجمعنا حزباً واحداً، وكرهاً للحزب الواحد الآخر، يجمعنا حب الرمز والقائد نفسه وكره رمز الآخرين ، كنا نختلف عن البعض بأشياء أخرى ، فكل منا، زبون لدكانٍ ما في القرية ، حسب استجابة أصحاب الدكاكين لديوننا وصبرهم علينا. ولكلٍ مواصفات فتاته الجميلة الخاصة، التي تختلف لدى الآخر، كلٌ له طريقته الخاصة في الخروج خلسة من البيت إن كان هناك أمراً يستدعي ذلك، كنا نذهب الى مناسبات الأعراس و العزاء معاً، كثيراً ما كنا نذهب الى صلاة الجمعة معاً، نجلس عادة في الصف الأخير، ملتصقين إن أمكن، بإنتظار الخطبة ، قد يبدأ أحدنا بمشروع ضحكة صغيرة تنتشر كموجة مباغتة في جمعنا الشبابي، ولكن نظرات كبار السن، تكون كافية لتتم السيطرة على الموقف وتأجيله لبعد الصلاة.
وصلنا الجامع، توضأنا وجلسنا ملتصقين، ندقق في القادمين إلى الصلاة ، لم يكن الإمام قد بدء بالخطبة، أحاديث رجال القرية في أيام الجمع أو غيرها، كانت اغلبها في تلك الأعوام عن بئر القرية الارتوازي الذي لا يكفي الجميع ، والبحث عن السبل الناجعة لإيجاد الحلول لتلك المشكلة، لكن موضوع حرب قوات التحالف على العراق كان السائد حينها، وتغلب بقوة قذائفه من الانتشار والأهمية على مشكلة مياه القرية، الذي هو المشكل الاحتياطي الذي سيلجأ له، أهل القرية عند نضوب الأخبار. كان المكان الدائم للعم حسن في الجامع ، قد بقي منه، جزءاً صغيراً، يتسع لنصف رجل ، وكأنه لا زال شبه محجوز، وكأن الرجل قد تأخر عن الصلاة ولكنه سيعود، أغلب مسنو القرية، لهم أمكنة شبه محجوزة في صف الأمامي، كان الحديث عن القصف، والطائرات، قال أحدهم : رحمك الله يا حسن ..كنت دائماً تقول ، لو مت قبل أن “تضرب” أمريكا العراق فتعالوا وبشروني في قبري ، وأكد آخر: رحمه الله لقد قال ذلك مرات عدة في الجامع وأمام دكانة “محمد سليم” ، في تلك اللحظة نظر خمستنا، إلى بعضهم، وأومأنا برؤوسنا وأعيننا، كأتفاق مسبق على الذهاب في رحلة ما. بعد الصلاة خرجنا معاً واتجهنا غرب القرية، حيث المقبرة، العم حسن كان يعاني منذ سنوات من أمراض عدة منها مشاكل في القلب ، ولكن، كان يبدو قوياً وممتاز الصحة ، رغم تجاوزه الستين عاماً ، ولولا إن الرجل كان يُـسعف كل فترة إلى عيادة الدكتور”شلال” ، لشكك الكثير باخبار صحته. وصلنا المقبرة كانت الجدية غالبة علينا ، تقدم الواحد تلو الآخر الى القبر يهمس بشيء ويعود حزيناً ، اقتربت من القبر، دنوت من رأسه، بشرته أيضاً، أنها تضربه الآن يا عم حسن والله إن الحرب ضد صدام وظلمه قد بدأت، هل تسمعنا يا عم حسن، هل أنت سعيد بهذا الخبر ، هل خانك مذياعك “مذياع الثورة” الذي كان يأتيك بأخبار الكرد وبأخبار الثورة، الثورة التي انتهت منذ زمن بعيد ولكن بقي مذياعك الذي لم تتركه يوماً وفياً لها، إن كان مذياعك لم ينجح بالوصول اليك، فها نحن “شلة البانكي” نؤكد لك الخبر، الم تكن تقول لنا، أنتم الزعران لا تكذبون، وعندما تكبرون ستعقلون، لم اشعر بحماسه للخبر، هل كان قد سمع به من غيرنا. مضى وقتٍ طويل، منذ ذلك اليوم، أختلفنا نحن الأصدقاء كثيرا، كبر بعضنا كثيراً، وآخرون التزموا بأعمارهم ويكبرون على مهل، حتى القرية التي كانت تجمعنا قسراً فقدت السيطرة علينا، جميعاً ، كلٌ سلك درباً في الحياة وترك القرية ، ولكن العم حسن لازال هناك باقٍ ينتظر الأخبار ، هل لازال مذياعه يعمل وهل يصل المقبرة، لا اعرف من منا سيتمكن من إبلاغه خبر أجمل من السابق ..خبر الثورة السورية، التي لم تخطر ببال أحدٍ، من الأنس على الأقل ، هل شعر بها أيضاً، أم أن “شلة” الفيسبوك أخبروه.