الكاتب والصمت

إبراهيم اليوسف

ثمة نوعان من الصمت، بالنسبة إلى الكاتب، أحدهما إيجابي، والثاني سلبي، وتأتي إيجابية النوع الأول منهما، من أن الكاتب قد يجعل من مرحلة الصمت استراحة محارب له، بين إنتاج عمل أدبي وآخر، أو مرحلة أدبية وأخرى، ضمن خطّ الإبداع الصاعد دائماً، ليكون عمله الجديد نقلة نوعية في مسيرته الأدبية، أما النوع الثاني، فإنه يشكل وبالاً على الكاتب، إذ إنه يتمّ في مرحلة يتطلب فيها حضور صوته، ولعلّ أكبر مثال على الصمت، هنا، هو تصامم وتعامي كتاب كثيرين عما يجري أمام أعينهم، من انتهاكات فظيعة بحق أبناء مجتمعهم، لمواقفهم المشرفة من الثورات الشعبية العارمة من دون أن يبدي أحد من هؤلاء كلمة إدانة فيما يتم .
والصمت إذا كان من محاسن المجالس، في الحياة العادية، عندما لا يكون عياء عن الكلام، فإنه ليعد أمراً منبوذاً لدى صاحبه، أمام قولة الحق، فهو  هنا  بمثابة نصرة للظالم ضد المظلوم، وقد قال المفكر الراحل هادي العلوي عن هذا الضرب من الكتّاب “إنه يأكل جبنه بجبنه” .
 
ومن الواضح أن الصمت، لا ينشأ إلا تحت وطأة عوامل كثيرة، في مطلعها أن آلة الاستبداد التي تواجه هذه الثورات، الآن، هي نفسها التي لم تتورع عن قمع الكاتب على رأيه، وما أكثر هؤلاء الذين يدفعون ضريبة مواقفهم الإنسانية والوطنية، من خلال الزجّ بهم في السجون، والتضييق عليهم، ومن بين ذلك فرض العزلة والحصار ومنعهم من السفر، وغيرها من أساليب الاستبداد من دون أن يذعنوا، ليكونوا بهذا مثلات عالية من البسالة والصمود .
 
وإذا كانت كلمة الصمت تتضادّ مع الصوت، فإن هناك  في المقابل  كتّاباً وأدباء وفنانين يأبون على أنفسهم الركون إلى حظيرة الصمت المفروض عليهم، بل يطلقون أصواتهم مدويّة، في حدود الأشكال التعبيرية لديهم، غير مبالين بأي ضريبة تترتب عليهم، وما أكثر النماذج التي يمكن الاعتداد بها، في كل مرحلة، ويجسدها من كانوا رواداً في قول الحقيقة، ومواجهة الاستبداد والقمع، بحقّ بلدهم، والإنسانية جمعاء .
 
طبيعي أن الصمت  في حدوده الموصوفة  يضع صاحبه  ولاسيما إذا كان كاتباً أو فناناً  في موضع لا يحسد عليه، إذ كيف يستوي أن يكون المرء أميناً مع نفسه وكلمته وقارئه  مادام أن الكلمة صورة الواقع وصوته،  وهو يغض النظر عن وقائع، وفظائع، ترتكب بحق إنسانه، بينما هو يجسد المثل القائل: لا أسمع لا أرى لا أتكلم، وهذا ما تتوخاه آلة الاستبداد دائماً، من خلال ممارسة ثنائية الترغيب والترهيب، بحق المبدعين الفاعلين في مجتمعاتهم .
 
وإذا كان الصمت يشكل تواطؤاً مع أي جريمة، فيما إذا خذل الصامت ضميره، ومتلقيه، فإن ما هو أدهى أن يكون الكاتب صائتاً، لا صامتاً، إلا أنه لا يكفّ عن الإقدام على قلب الحقائق، وتحويرها، وفق ما يملى عليه، وهو من شأنه أن يشطب على ضمير هذا الكاتب المضلل، والتلفيقي، ويحط من شأن مصداقية إبداعه، لأنه لا يمكن أن يصدر أدب إبداعي، نظيف، يعتد به، عن شخص مزوّر، يكتب استجابة لمصالحه الآنية، والزائلة .
elyousef@gmail.com

أفق-الخليج-18-6-2011

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شيرين خليل خطيب

في أيِّ مجال إبداعي، أو أي حرفة تعتمد على الحس والموهبة، يظهر أشخاص يظنون أن بإمكانهم اقتحام هذا العالم لمجرد أنه يعجبهم أو أنهم يحلمون بالانتماء إليه. لكن الحقيقة المُرَّة التي مهما حاولنا تجميلها، هي أن بعض الطرق لا تُفتح لكل عابر، وأن بعض الفنون تحتاج إلى موهبة أصلية أو حد…

خالد بهلوي

اختُتمت الدورة الإلكترونية لتعليم كتابة سيناريو السينما الكردية، التي أُنجِزت بإشراف الدكتور جاسمي وزير سَرهَدي، البروفيسور في المسرح والسيناريو (الدراما الهوليوودية)، والمدرّس السابق في جامعة صلاح الدين في هولير، والحاصل على عدة جوائز دولية في كتابة السيناريو السينمائي.

قدّم الدكتور الدورة على مدى عشرة أسابيع، تناول فيها موضوع الدراماتورج وبنية القصة الدرامية، إضافة إلى محاور…

ا. د. قاسم المندلاوي

في هذه الحلقة نقدم للقارئ الكريم نبذة مختصرة عن فنانين آخرين، احدهم من غرب كوردستان، الفنان الشهيد يوسف جلبي، الذي تعرض الى ابشع اساليب الاضطهاد والتعذيب من قبل السلطات السورية الظالمة، وخاصة بعد سيطرة نظام البعث سدة الحكم عام 1966. فقد تعرض الكثير من المطربين والملحنين والشعراء الكورد في سوريا…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…