قلق الذات

  وزنة حامد

عندما تتمرد الحيرة على بساط الذات , تتقلص الثقة إلى حد الاختزال وحين تتكبد ذاكرة الإنسان في كهف التساؤلات تشرأب أشواك القلق على سكينته مهما تعقل واتزن ,هكذا أحسست وأنا أقف مع ذاتي دائنة ومدينة حاكمة ومحكومة ,أقود ذاتي على كسل وتقودني على عجل , ويبقى الزمن مرمى الوصول , تحاملت على ذاتي ,أسكنتها واحة الهدوء وأنا أتطلع من نافذتي الوضيعة إلى ممر ضيق يصل بعض البيوت إلى الشارع العام الذي يوصل قريتي إلى مدينة الدرباسية , هذه المدينة التي شهدت أواخر سني دراستي الثانوية والتي احتضنت جزء من ذاكرتي وحفنة من تداعيات شبابي ومراهقتي
 اذكر يوم خرجت من قريتي باتجاه المدينة لأتابع تحصيلي الإعدادي , كانت جارتنا أم محمود واقفة أمام التنور وقد توردت وجنتاها من تسعير التنور ومخضب العجين على حافة التنور قد تخمر فأصبح كجسد فاتنة بضة بيضاء وفوقه حبات الدقيق , وكان لجوار التنور كلبها وأتذكر كنا ندعوه (جراح) هذا اللقب وكأنه أرشيف لأهل القرية يعرف أبناءها فلا ينبح , ولا يهرعا طفل, والويل للغريب الذي يدخل ممر زقاقنا وكنا نعرف مجرد سماع نباحه إن ثمة غريب دخل الممر فنطل نحن الصبايا من كوى بيوتنا ونأمل أن يكون العابر عريسا أو خطيبا أو على الأقل ساكنا جديدا نتعرف عليه من شدة سئمنا وقرفنا التطلع في وجوه لا تتغير كل يوم ولا يرتسم على سماها أي أمل , يومها كان يرافقني أخي الكبير يسير بهدوء وتثاقل يسبقني بعدة خطوات إلى الأمام وأنا وراءه نشوانة فرحة بالسير خلفه كأني مدعوة إلى وليمة أو عرس, كانت المدينة بشوارعها الواسعة والمستقيمة تعج بالكلاب والمارة كل يتجه إلى غايته ,أتطلع في الوجوه فأتذكر بعض ملامح قريتي (كربطلي) فابتسم في داخلي لتشبيهي بعض الملامح بجيراني أو أهلي , وفجأة وقف أخي أمام مكتبة فيها بعض الطلاب ينتقون قراطيسهم ,كانت هناك طفلة لا تعد العاشرة وقفت وحيدة أمام باب المكتبة دون أن تبس بكلمة تتطلع في الداخلين وتودع بأسى الخارجين من المكتبة ,اقتربت منها وسألتها: مابك يا حلوة ..؟تطلعت في وجهي انبسطت أساريرها .. لم تجب .. ظننت إنها صماء أو خرساء ..رفعت صوتي أكثر مما لفت نظر أخي .. قالت : لا استطيع العودة إلى البيت ,بهذا القول دنوت منها أكثر وقلت لماذا .. ردت بأسى لأنني اشتريت بثمن حاجات المنزل قرطاسيه ولوازم مدرستي ولن تسامحني زوجة أبي على ذالك سوف تعاقبني بالضرب ,هزت بكلامها إنسانيتي ,سألتها :وأين أمك ..أجابت إنها… ثم انهمرت بالبكاء وبصوت مخنوق أنا لم أرها قط ,المني ما سمعته من هذه الطفلة , أخرجت من محفظتي مبلغا كنت ادخرته لأول يوم لدراستي وناولتها خلسة .. وولجت باب المكتبة برفقة أخي ,تطلع أخي في وجهي وقال :أتدرين من هي ..؟ قلت : لا .. قال بعد أن لكزني برأسي يا بلهاء إنها هي التي سرقت من مكتبتك قلم الحبر واسوارتك ,إنها تتجول بعض الأحيان مع الغجر في القرية للتسول ,ابتسمت وقلت لها :أصحيح ذلك ..؟ قالت : نعم ..ثم أردفت إنني اخذ الأشياء التي احتاجها , زوجة أبي لا تمدني بالنقود ولكن سأعيد ما سرقته منك وعهدا لكما لن اسرق ثانية .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

حين وقعت بين يديّ المجموعة الشعرية “مؤامرة الحبر، جنازات قصائد مذبوحة”[1] للشاعر فرهاد دريعي، وأردت الكتابة عنها، استوقفني العنوان طويلاً، بدا لي كمصيدة، كمتاهة يصعب الخروج منها فترددت في الدخول، لكن مع الاستمرار في القراءة وجدت نفسي مشدوداً إلى القصيدة الأولى بما تحمله من غنى وتعدد في المستويات، فهي تكاد تكثف فلسفة…

فراس حج محمد| فلسطين

لا أقول صدفة، فأنا لا أحبّ موضوع الصدف، ولا أومن فيه، لكنّ شيئاً ما قادني إلى هذا الكتاب، وأنا أتصفّح أحد أعداد جريدة أخبار الأدب المصريّة (عدد الأحد، 26/10/2025)، ثمّة نصّ منشور على الصفحة الأخيرة لـ “نجوان درويش”، بعنوان “بطاقة هُوِيّة”، لوهلةٍ التبس عليّ الأمر فبطاقة هُوِيّة اسم قصيدة لمحمود درويش، وهي…

مصطفى عبدالملك الصميدي/اليمن*

تُعدّ ترجمةُ الشَّعر رحلة مُتفَرِّدة تُشبه كثيراً محاولة الإمساك بالنسيم قبل أن يختفي سليلهُ بين فروج الأصابع، بل وأكثر من أن تكون رسماً خَرائِطياً لألوانٍ لا تُرى بين نَدأَةِ الشروق وشفق الغروب، وما يتشكل من خلال المسافة بينهما، هو ما نسميه بحياكة الظلال؛ أي برسم لوحة المعاني الكامنه وراء النص بقالبه…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

تَتميَّز الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ الكاتب اللبناني الأمريكي جُبْرَان خَليل جُبْرَان ( 1883_ 1931 ) بِعُمْقِها الفَلسفيِّ، وقُدرتِها عَلى تَجاوزِ الماديَّاتِ ، والتَّعبيرِ عَن الحَنينِ إلى مَا هُوَ أسْمَى وأرْقَى في النَّفْسِ البشرية . وَهُوَ يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّة لَيْسَتْ مُجرَّد شُعورٍ أوْ طُقوسٍ تقليدية ، بَلْ هِيَ حالةُ وَعْيٍ مُتكاملة…