الغناء عن الحريّة، الآن في سورية، ومن مواطن سوري، داخل أو خارج سوريّة، هو غناء «مندس»، و»متآمر»، و»طائفي»، ويسعى لتشكيل إمارة إسلاميّة، سلفيّة، أصوليّة في سورية!. ثمّ لماذا يغنّي المواطن السوري عن الحريّة في واشنطن بالذات؟. من يغنّي عن الحريّة في واشنطن، لكأنّه يغنيّها في تل أبيب!.
هذا ما خلصت له، حين طالعتنا صحيفة «الحياة» في عددها الصادر يوم 9/6/2011، تحت عنوان: «أغنية عن الحرية «تمنع» موسيقار سوري من المشاركة في حفلة بواشنطن«. وجاء في الخبر: «… أغنية الموسيقار السوري مالك جندلي «أنا وطني» قطعت عليه الطريق للمشاركة في المؤتمر السنوي «للمنظمة العربية – الأميركية ضد التمييز« (أي دي سي) في واشنطن، ولرفضه طلب المنظمة بعدم غناء المقطوعة«. وبحسب الخبر المذكور أيضاً: «نقلت صحيفة بوليتيكو عن الموسيقار السوري استغرابه للاعتراض على هذه الأغنية بالذات وكونها «لا تذكر كلمة عربي أو سوري أو أي شيء… انها أغنية انسانية». ورصدت الصحيفة نقلا عن مراقبين بأن خشية المنظمة من ازعاج الحكومة السورية بسبب الأغنية قد تكون ضمن مبررات سحب الدعوة. ونوهت بوليتيكو بأن مدير المؤسسة صفاء رفقة هو من المقربين للسفير السوري في واشنطن عماد مصطفى والذي وصفه على موقعه الالكتروني بأنه «من أفضل ثلاثة أصدقاء له» في واشنطن«.
هكذا، يتم ضرب الحصار على الصوت وعلى اللحن السوري الذي يتغنّى بالحريّة، حتّى ولو كان ذلك خارج سورية. وهكذا، تدخل العلاقات الشخصيّة، في تقويض الإبداع والخشية منه بأن يكون له مردود عكسي على المصالح الشخصيّة والمؤسساتيّة مع النظام السوري. ومن هنا، يمكننا أن نعي حجم الضغوط الممارسة على الفنانين والمثقفين السوريين في الداخل، ومساعي تجييرهم وتوظيفهم في خدمة النظام، وضدّ الانتفاضة الشعبيّة المطالبة بالحريّة والديمقراطيّة.
دون أن ننسى حجم مساعي النظام في توريط النخب الثقافيّة والفنانين في عمليات فساد وإفساد، (وقد ذهب في هذا المسعى بعيداً)، وكأنّ النظام قد أمسك حشد الفنانين من الأيدي التي توجعهم. ويتبدّى ذلك من منسوب الخنوع والمهانة والطاعة المطلقة التي يبديها الفنانون السوريون للنظام، وترديدهم كالببغاوات كلام إعلام السلطة الحاكمة
ضمن هذه الأجواء الموبوءة بالخنوع والذلّ الثقافي، الطوعي، إن جاز التعبير، يبرز صوت الفنان السوري، الثوري، سميح شقير، لكونه أوّل الفنانين السوريين الذي تغنّى بانتفاضة الشعب السوري، مُنتقداً وحشيّة النظام في تعاطيه مع المتظاهرين المطالبين بالحريّة، في أغنيته المؤثّرة «يا حيف». ولعلّ أغنيّة شقير تلك، التي كانت ترددها مآذن الجوامع في منطقة دوما القريبة من العاصمة دمشق، في جمعة «إسقاط الشرعيّة» كما أرادها نشطاء سوريون، هي التشخيص والصدى الإبداعي لما تشهده سورية من مظاهرات تطالب بالحريّة، وإدانة آلة القمع الأمنيّة والعسكريّة، الغارقة في دماء المدنيين بشكل بربري. وفي الوقت عينه، هي الصفعة القويّة على وجه كل «فنان» متهافت على مائدة الاستبداد والفساد، مُديراً ظهره لانتفاضة الشعب السوري وضحاياها ومطالبها.
قصارى الكلام، خلال الثمانيّة والأربعين عاماً من حكم حزب البعث، جرت عمليّة إتلاف فظيعة في البنى الاجتماعيّة، بالضغط والقمع من جهة، وبالإقصاء والتهميش من جهة أخرى، وبالتوريط في عمليّة الفساد، من جهة ثالثة. وغالب الظنّ، إن هذا التوريط الذي مارسه النظام، لم يبقِ أيّة شريحة اجتماعيّة سوريّة إلا وشملها، فأفرز شبكة معقّدة من المصالح والمنافع الشخصيّة، تربط بعض الفنانين والمثقفين السوريين ومؤسسات القطاع العام والخاصّ، التي يملكها نظام الحكم، وحاشيته. ما يعزز السلطة أو التسلّط الأمني على كل من له مصالح أو علاقات مع هذه المؤسسات. وبالتالي، حين نتأمّل المشهد السوري، لا يمكننا التمييز بين من يطلق النار على المدنيين، ومن يقف وراء من يطلق النار، من مثقفين وفنانين. فكلاهما قاتل. وعليه، اعداء الحريّة في سورية كُثر، منهم؛ فنانون ومثقفون. وضحايا الحريّة أكثر، ومنهم فنانون ومثقفون. وربما هذا هو منطق الانتفاضات والثورات المعاصرة في العالم العربي. وحين تضع الانتفاضة السورية أوزارها، سنرى كيف يسعى الكثيرون الى نبش ماضيهم، وتعداد نتاجاتهم المطالبة بالحريّة وتنتقد الاستبداد والفساد، في وقت، لن تتغلّب الذاكرة القديمة على الذاكرة الطريّة الجديدة، في مواجهتهم بما كانوا عليه من معاضدة شرسة، حين كانت آلة القمع السوريّة تحرث في أجساد المتظاهرين قتلاً وتعذيباً وترويعاً.
* كاتب كردي سوري