حدود النقد

إبراهيم اليوسف

ثمة التباس بيِّن، يلحظه متابع المشهد الثقافي، بين النقد وما يقدم-في الكثير من الأحيان- باسم النقد، وذلك في ظل انحسار فعلي، للنقد الحقيقي، لأن  هناك كتابات هائلة، بتنا على موعد يومي معها، ترتدي لباس النقد، بيد أن لا علاقة لها به البتة، في الوقت الذي تزداد فيه الحاجة إلى تقويم ما يقدمه المبدع، في مجالات الإبداع، كافة، وهو ما يؤثر في مستوى الإبداع نفسه، ولاسيما في ظل تشابه الأصوات، واستنساخ اللاحق للسابق، وتقديم نفسه على أنه الأصل، وهو ما يجعل الحاجة أكثر إلى النقد الحقيقي.
وما نجده من كتابات، هابطة أحياناً، تظهر هنا وهناك، تمارس المدح أو القدح الرخيصين، كحدين أقصيين، متناقضين، ومرفوضين، تترك بوناً شاسعاً بينها والمادة الأدبية، وإن كانت تحاول الإيهام بتمكنها من القبض على اللحظة الإبداعية، بالنسبة للمتلقي العادي، الذي قد يوهم بأنه- في هذه الحالة- أمام نقد أصيل، ولاسيما إذا كان صاحبه ممن يستظهر على نحو ببغاوي بعض المصطلحات النقدية، من دون أن يمتلك ما يلزم من مؤهلات لسبر دواخل النص، ويحاول التمويه على عيّه، وعجزه، وهشاشة رؤيته، باللجوء إلى التعمية، أو التعميم، منتجاً أحكام قيمة، لا تصمد أمام أية قراءة معمقة .
إن النقد الأصيل، والمنصف، هو الذي يواجه خلاله الناقد النصَ الإبداعي، اعتماداً على أدوات نقدية، لابدّ منها، بالإضافة إلى حساسية، ووعي نقدي، ناهيك عن ضرورة الحيادية تجاه المادة المتناولة، وعدم الاقتراب منها، تحت سطوة الرّغبة، أو الميل، أو المزاج، أو العاطفة، أو ردة الفعل المسبّقة، وغيرها، من العيوب التي ينبغي على ناقد النص أن يسمو عليها، ويتجنبها، ويتطهر منها، لكي يكون بمستوى التنطع لإبداء حكم نقدي، صائب، بعيد عن عمى العاطفة، التي تسيء إلى صاحبها، قبل أن تسيء إلى النص والناصّ .
لابد من الاعتراف، أن هناك- دائماً- نقوداً، يستطيع القارىء أن يتلمس بوساطتها حسّاً ووعياً نقديين، عاليين، لدى أصحابها، حيث يتم استبعاد طيف المبدع، والموقف منه، لأن “القرب حجاب” كما يقول المتصوفة و إنه “من شدة الظهور الخباء” كما يقول البصيري، وذلك قبل الشروع، بوضع النص الخام، تحت مجهر النقد، وهو وحده ما يفيد صاحب التجربة الإبداعية، إذ تتمّ إضاءة النص، من قبله، ومن قبل المتلقي، بل وحتّى من قبل مبدعين آخرين، يستفيدون من هذه الرؤية النقدية، ليطوروا على ضوئها تجاربهم الشخصية .
وثمة من يخيل إليه، أنه بمجرد وصمه النص بأحكام جاهزة، مسبقة، نظراً لأغراض خاصة، تساور نفسه، قادر على إلغاء النص ، وصاحبه، إلا أن ما يتمّ هو أن  مثل هذه الكتابات التضليلية، تسيء إلى أصحابها، وتجعلهم يحسون في قراراتهم بالانهزامية، وافتقاد المصداقية، وهم بذلك يرفعون من قيمة النصوص القيّمة -كما تستأهل- لأن المرء عدو ما يجهل، ولايمكن حجب الشمس بكل غرابيل العالم .
elyousef@gmail.com

جريدة الخليج-أفق-6-7-2011

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غالب حداد

1. مقدمة: استكشاف “العالم الجميل الموجود”

تُقدّم مجموعة القاص والشاعر الكردي السوري عبد الرحمن عفيف، “جمال العالم الموجود”، نفسها كعمل أدبي ذي كثافة شعرية فريدة، يرسم ملامح مجتمع مهمش، ويحول تفاصيل حياته اليومية إلى مادة للتأمل الفني والوجودي. ويأتي تحليل هذه المجموعة، التي تمثل تطورا لافتا في مشروع عفيف الأدبي الذي تجلت ملامحه…

مصطفى عبدالملك الصميدي| اليمن

باحث أكاديمي

هي صنعاء القديمة، مدينة التاريخ والإنسان والمكان. من يعبر أزِقَّتها ويلمس بنايتها، يجد التاريخ هواءً يُتَنفَّس في أرجائها، يجد “سام بن نوح” منقوشاً على كل حجر، يجد العمارة رسماً مُبهِراً لأول ما شُيِّد على كوكب الأرض منذ الطوفان.

وأنتَ تمُرُّ في أزقتها، يهمس لك الزمان أنّ الله بدأ برفع السماء من هنا،…

أُجريت صباح اليوم عمليةٌ جراحيةٌ دقيقة للفنان الشاعر خوشناف سليمان، في أحد مشافي هيرنه في ألمانيا، وذلك استكمالًا لمتابعاتٍ طبيةٍ أعقبت عمليةَ قلبٍ مفتوح أُجريت له قبل أشهر.

وقد تكللت العمليةُ بالنجاح، ولله الحمد.

حمدا لله على سلامتك أبا راوند العزيز

متمنّين لك تمام العافية وعودةً قريبةً إلى الحياة والإبداع.

المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في…

د. فاضل محمود

رنّ هاتفي، وعلى الطرف الآخر كانت فتاة. من نبرة صوتها أدركتُ أنها في مقتبل العمر. كانت تتحدث، وأنفاسها تتقطّع بين كلمةٍ وأخرى، وكان ارتباكها واضحًا.

من خلال حديثها الخجول، كان الخوف والتردّد يخترقان كلماتها، وكأن كل كلمة تختنق في حنجرتها، وكلُّ حرفٍ يكاد أن يتحطّم قبل أن يكتمل، لدرجةٍ خُيِّلَ إليَّ أنها…