تدهورٌ يلوّح في الأفق

خاشع رشيد (Bêkes Reşîd)
bekes1979@hotmail.com

    إنّ نوعيّة الحالات الاجتماعيّة الغريبة التي فُرضت علينا في كلّ لحظةٍ سببٌ أساسيٌ لعدم التوصّل إلى بذور مجتمعٍ سياسيٍ بالمعنى المدنيّ للوصف، ولذلك فإنّ تفكّك وتشرذم الشّخصيّة السّورية وصلت إلى ما بعد حدود اللامعقول، نسبيّاً، وإلى تداخلاتٍ نفسيّة مسرطَنةٍ باتت بحاجةٍ إلى عمليات انسلاخٍ عميقةٍ، ولكن النّقص في إمدادات فكرة تغيير ما لا يمكن أن يتأقلم فيه الذّات السّورية وكيفيّة فصل ما التُحم به وهمياً يزيد من تقاطعات هذه العُقد التي ـ على الأغلب ـ لا يمكن تحديدها بسهولة، والذي يزيد من تشابك الصّعوبات في تشخيص أيّ جزءٍ منه هو ما يحصل من تسارعٍ للأمور والأحداث وتجارب الغير مختصّين وأهداف من يوجّه النّفس السّورية إلى حالة المستحيل أو المجهول حين القيام بدراستها … ربما أستطيع تسميّة هكذا حالة بـ “تحوّر إرغاميّ في أدقّ تفاصيل النّفس”.
     وبات واضحاً بأن الفوضى بمفهوميها السّلبيّ والإيجابيّ تقترب شيئاً فشيئاً لتجتاح كلّ شخصٍ، ولعدم وجود المنهجيّة الكاملة، بل التّركيز على عموميّة الأمر وتهميش نتائج ما بعد الفواصل والحالات الشّاذة، وأيضاً بمفهوميها كما الفوضى، سيكوّن تمرّدات فكريّة هائلة وسيرجّع للكثير من النّفسيّات طموح ما يحسبه ملكاً وطريقاً للوصول إلى راحةٍ، بعد نسيانٍ أو تأمّلٍ بالآخر أو لعدم وجود فرصةٍ من قبل، وأسبابٌ أخرى كثيرة.

    وعلى كلٍّ فإن الأنا لا يمكن أن تتكوّن أصلاً إلا بالفعل، أي إنّها لا تكون إلا ردّة فعلٍ فقط. ولأننا لا نستطيع إيقاف أيّ فعلٍ كان فإنه لابدّ أن تكون الأهميّة هي؛ كيف نستطيع إيجاد نتائج مرجوّة للشخصيّة الفردية ومن ثمّ، على الأقل أثرها على الشّخصيّة العامة؟!.
    وقد نستطيع أن نسأل عن إمكانيّة الحفاظ على مستويات الغرائز الأكثر ملامسةً لكلِّ شخصيّةٍ في الوقت الحالي، بهدف الخوف عليها من التّهوّر وانفصالها تماماً عن الأخرى. لكنّ المشكلة هي أن التعقّد النفسيّ ـ وهو الوضع الطبيعي ـ في الشّخصيّة يبحث دائماً عن ذروة ما يسمّى بالتّناقض، في النّهاية. والرّقابة في زمن أوج الاختلاطات ـ والتي من الممكن أن تكون الشّخصيّة أصلاً باحثةً عنها ـ تؤدّي إلى طفراتٍ جديدةٍ تماماً، وإلى دمارٍ من نوعٍ مختلفٍ آخرٍ.
    كما أنه لا شكّ بأن لاختلاف الشّخصيّة السّوريّة من حيث العرق أو الدّين أو المذهب يزيد من تعقّد الأمر حين يجري محاولة دراستها بشكلٍ عشوائيّ عموميّ ووحيد، دون الأخذ بالحسبان كلّ تفاصيلها وخصائصها الكافية، التاريخيّة، الثقافيّة، الاجتماعيّة و… ولذلك فإنّ أيّة عمليّة تجريبيّة ناقصة قد تعود بأخطاءٍ مستقبليّةٍ فادحةٍ، يكون المجتمع السّوري بغنىً عنها. فهذا التّنوع الهائل المتواجد ـ على الرّغم من جماله حين الهدوء الواقعي ـ ربما يصبح في لحظة انفجار ميّزةٍ عموميّةٍ خاصّةٍ بإحداها، إلى إحداث فقعٍ زائدٍ بل وحتى تمزّقاتٍ فيما بين ألوانها.
     وطبعاً؛ علينا أن لا ننسى التصرّفات الفرديّة اللامسؤولة والتي تجعل من نفسها بديلاً أو ظلاً لشرائح كبيرة، على الرّغم من إنها لا تكون إلا خادمة لدوافع إشباعاتها ـ حتى وإن كانت دون تخطيطٍ أو علمٍ ـ وبالتّالي ستؤدي إلى إحداث تأثيراتٍ، حتى وإن كانت خفيفةً، على العموميّة الشريحيّة وإكسابها انقساماتٍ وتشتّتاتٍ إضافيّةٍ وانشغالٍ حتميٍّ، سيتطلّب إجراء محاولة التنقيّة إلى طاقاتٍ هائلةٍ للعودة إلى ما قبل ذلك، إن لم نقل بأنها مستحيلة في الأساس.
     وعلى ما يبدو؛ وإلى الآن، بأنّ كلّ ما يحدث على أرض الواقع وكلّ ما تقوم به غالبيّة من في الخارج ليس إلا إكثاراً من الحمل العاطفيّ على كل تقسيمات الشّخصيّة السّوريّة، التي وصلت إلى عمق جذورها، ولذلك كان من الأفضل لو توصّلت إلى نتيجةٍ ما دون احتكاكٍ مباشرٍ فيما بينها، طالما أن الكلّ متّفق على إيجاد نظامٍ، على أساس أنه لا وجود لنظامٍ أصلاً، بل كلّ ما هو موجود عبارة عن أسلوب رّدعٍ، إجبارٍ، خوفٌ من الآخر، أنانيّةٌ، ولاآخر… لا بل تمثيلٌ للسّلطة الإلهيّة إلى حدٍّ ما. وهنا ليس أمامنا إلا الاستعانة الذكيّة بالغريب البعيد ـ بالتأكيد على كلمة البعيد ـ  للحد من التّداخلات الغير متأقلمة والوصول إلى الغاية  وبر الأمان، محافظين بذلك على الكلّية نوعاً ما.
   ولا أجد إلا أن أقول بأن المجريات الحاليّة ليست لصالح الشّخصيّة السّوريّة الكلّية ـ طبعاً هذا ما يهدف إليه ما يدعى النّظام الحالي وآخرون ـ بل هي مؤثّرة في الصّميم وإن استمرارها، والتي ستزداد وستقوى أكثر مع مرور الأيام، ستؤدّي إلى صراعاتٍ ليست ببسيطة أبداً، وستجعل من الرّفض وعدم قبول الآخر هي المحصّلة الطّبيعية، والتي ستبرهن بذلك فشل الاعتماد على النّفس وحده أو نتيجةً لخطأ في اختيار الشّخصيّة المساعدة.
…………………………………………………………

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…

صدرت الترجمة الفرنسية لسيرة إبراهيم محمود الفكرية” بروق تتقاسم رأسي ” عن دار ” آزادي ” في باريس حديثاً ” 2025 “، بترجمة الباحث والمترجم صبحي دقوري، وتحت عنوان :

Les éclaires se partagent ma tête: La Biography Intellectuelle

جاء الكتاب بترجمة دقيقة وغلاف أنيق، وفي ” 2012 ”

وقد صدر كتاب” بروق تتقاسم رأسي: سيرة فكرية” عن…

كردستان يوسف

هل يمكن أن يكون قلم المرأة حراً في التعبير؟ من روح هذا التساؤل الذي يبدو بسيطاً لكنه يعكس في جوهره معركة طويلة بين الصمت والكلمة، بين الخضوع والوعي، بين التاريخ الذكوري الذي كتب عنها، وتاريخها الذي تكتبه بنفسها الآن، فكل امرأة تمسك القلم تمسك معه ميراثاً ثقيلا ً من المنع والتأطير والرقابة، وكل حرف…