الفكاهةُ فنٌ وابداعٌ وموقفٌ في آن، يستخدمها المغلوب على أمره أو الشعب المقهور كوسيلة للتعبير عن مشاعره أو مكنونات النفس ومكبوتاتها ضد قاهريه، وهي كثيراً ما تَنْضَحُ بروح السخرية على الواقع المزري، فتكشف بذلك عن مَواطِن الخلل فيه. تَظْهَرُ الفكاهة (الدعابة أو النكتة) السياسية فجأة، مما استدعى الأمر إلى تشبيهها من قِبَلِ أحدهم بالعنقاء التي تُبْعَثُ من رماد الحَدَثِ وتداعياته، وبالرغم عمّا يكتنفُ هذا الجنس من الأدب الشفاهي من عناصر المفاجأة والمبالغة، إلا أن المبالغة ليست غايته بالضرورة، فَرُبَّ دعابة لا أثر للمبالغة فيها.
في ضوء المأثور الجحوي (نسبة إلى جحا)، يمكن التأكيد على أهمية الفكاهة وتذوقها، للترويح عن النفس أو التخفيف من أعباء الحياة في الظروف العصيبة، من هنا يمكن فهم كلام عالم النفس (هرمان رايبر)، الذي قال:”اسْتَخْدَمَ علماء النفس في الجيوش المتحاربة، اثناء الحرب العالمية الثانية، الفكاهة لتخفيف وطأة المشقات الجسيمة على نفوس الجنود”(الفكاهة البلغارية/داميان بارنياكوف ـ دمشق/الصفحة 6). كما اعتقد ماركس بأن جروح الانسان النفسية (همومه)، قد تلتئم إنْ أضحت مادة للتندر و التفكه، لذا أجْزَمَ بأن عَبَقَ الفكاهة اللاذعة أو النقدية يمهد دروب النضال السياسي، لأن الفكاهة تزيح ورقة التين عن عورات المستبدين، والمقصود في هذا الشأن، الفكاهة الهادفة وليست تلك التي تدغدغ المشاعر السطحية عند الناس. فأهالي عامودا (بلدة كردية في منطقة الجزيرة)، اعتادوا معاقبة الفريق الخاسر بورق اللعب (الطرنيب)، في الاستماع للفضائية السورية ساعة من الزمن … ألا تُعَبّر هذه الطُرفة بحق الرَّبِ عن شعار المتظاهرين السوريين اليوم، حين يرددون: كاذب…والله كاذب…الاعلام السوري كاذب؟.
ليتنا ندرك بأننا لانتخذ من الفكاهة وسيلة للترويح عن النفس، رغم ما لهذ الجانب من أهمية، بل كأداة لنبذ اليأس وشحذ الهمم، بغية المضي قدماً في تحرير البلاد من هذا النظام الشمولي ـ الشبيه بالهايدرا الاسطورية التي كلما قُطِعَ رأسها نما لها رأس جديد، أعني تلك التي أشار إليها الروائي الألباني (اسماعيل كادارا) في كتابه: (ربيع ألباني: تشريح الاستبداد) ـ وبناء دولة مدنية ونظام ديمقراطي، يتمتع الناس في ظلهما بالحرية والعدالة والمساواة، ويشعر المواطن في كنفهما بانسانيته.
لا مناص والحال على ما تقدم، أن نمعن جيداً في قول هيجل: “الدعابة، هي ميل العقل والقلب إلى قول الحقائق باسلوب مرح”، أو نتأمل كنه وصف آخر للدعابة كونها:”مثل كوكب ذي وجهين، يضحك وجهه الظاهر من بكاء وجهه المستتر”، كي ندرك أهمية هذا النمط من الفن، الذي يتوسل النادرة أو الحكاية الساخرة أو النكتة أو الكاريكاتير، في التعبير عن الوجدان الجمعي والقيم الانسانية، في زحمة الهموم ومنغصات العيش. فالحماصنة (أهل حمص)، ممن نُكِبوا بحصار قوى الأمن والجيش لمدينتهم الوادعة وابتلوا باختراق الدبابات لشوارعها، ناهيك عن الشبيحة/القناصة أو البلطجية، الذين عاثوا فيها فساداً، لم يفتقدوا روح السخرية المستمدة من واقع الحال، فحين يُسْأل أحدهم عن عيادة طبيب أو موقع ما، يجيب: شايف هذه الدبابة، بَعْدا لِفْ على اليمين وإمشي دوغري ستجد دبابة أخرى، بعدا إمشي خمسين خطوة، ثم اسأل أحد رجال الأمن قد يدلك على العيادة أو القبر.
إن المآسي التي حَلَّتْ بالسوريين طيلة عقود من الزمن، طبعت الفكاهة السورية عامة والكردية خاصة بمسحة من التَّهَكُم تجاه النظام، لكنْ هذا الواقع المزري، ألهبَ الخيال الشعبي في ابداع الفكاهة الهادفة، التي تتوخى النيل من بطش هذا النظام القمعي بأي ثمن.
الشاعر الكردي (موسى زاخراني)، المجرد من الجنسية والذي أبتلي كغيره بالاستجوابات الأمنية حتى ضاق بها صدراً، جَرَتْ الدعابة على لسانه إبان الانتفاضة السورية (15آذار2011م). فحين لاحظَ غياب عناصر الأمن المفاجىء وغير المعتاد أو الملفت للنظر في شوارع مدينته القامشلي، والذي أثار إنتباه الناس جميعاً، حدا به الأمر إلى عرض طلبٍ لا يخلو من الطُرْفَة الموحية على إمام جامع قاسمو (هذا الجامع أضحى منطلقاً لاعتصامات شباب القامشلي)، كي يتكرم حالاً بالاعلان في مُكَّبِر الصوت عن فقدان عنصرين ـ سَمَّاهما بالاسم ـ من رجال الأمن، ومكافأة كل مَنْ يتمكن من العثور عليهما واحضارهما إلى الجامع.
والملاحظ أن شاعرنا كان ينوي بداية عَرْضَ طلبه على أولاد (بحري الدّلال)، لولا ضِيق اليَدِّ الذي حال دون ذلك.
وهناك طرفة أخرى، جرت على لسان أحد أصحاب دكاكين السمانة في مدينة القامشلي، فلما جاءه تاجر حلبي كي يسترد من صاحب الدكان بعض الديون التي كانت بذمته، لاحظ التاجر أن صاحب الدكان يدفع له أوراقاً نقدية من ذات الألف ليرة سورية، ومن المعلوم أنها مزينة بصورة الرئيس حافظ الأسد، فارتسمت علامات العجب على محياه، وتساءل:
ـ بالعادة كنتم تُسَدِّدون الديون بالأوراق النقدية من فئة (500) أو (200)، ماذا جرى لكم يا أهالي القامشلي ؟.
ردَّ عليه صاحب الدكان:
ـ أجل، لكن الوضع تغير الآن، فهذه الأوراق النقدية ذات الألف ليرة ستصبح في ذمة التاريخ قريباً يا سيدي، من هنا نحن نود أن نتخلص منها بأي ثمن.