مقام الكرد في أقدم نوطة موسيقية في العالم لحن الأنشودة الحورية الأوغاريتية

برزو محمود
11/4/2005[1]

 مقدمة:

في عام /1948/ اكتشفت البعثة الأثرية الفرنسية التي تعمل منذ عام /1929/ في موقع أوغاريت (رأس الشمرة) الواقع على الساحل السوري إلى الشمال من مدينة اللاذقية بحوالي تسعة كيلومترات… اكتشفت مجموعة هامة من الرقم الطينية المكتوبة بخط مسماري وكان منها رقيم مكون من ثلاثة أجزاء مهشمة بعض الشيئ مكتوبة بحروف مسمارية مدون عليها بعض الرموز لم يُعرف – حينذاك – ما هو معناها ولا مدلولها وهذا ما استرعى اهتمام علماء الاثار و اللغات الشرقية القديمة وكان منهم العالم الأثاري “عمانوئيل لا روش” الأستاذ في جامعة “ستراتسبورغ” بفرنسا الذي قام بدراستها وترجمتها ونشر عنها دراسة هامة في المجلد الخامس من مجاة “أوغارتيكا” التي تصدر بالفرنسية وقد أفادت الترجمة بأنّ هذا الرقيم يتطرق إلى “أنشودة” ربما كانت مخصصة لآلهة “أورخيا” ولعلها “أورفة”.
تـَبيّنَ من الترجمة أن الجزء العلوي من الرقيم الفخّاري الأوغاريتي كُتب باللغة الحورية – نسبة إلى الحوريين – الذين حكموا شمالي بلاد الرافدين وبلاد الشام منذ نهاية القرن الثامن عشر قبل الميلاد وحتى القرن الخامس عشر قبل الميلاد …هذا الجزء يحتوي على كلمات يدور محورها حول الآلهة “نيكال” زوجة إله القمر وتـَبين من ترجمة كلماتها عبارات رقيقة مثل : “محبوبة القلب” و”أنت تضمرين لهم الحب في القلب” و”إنما منك ولدنا” , وتتميز بأسلوب شاعري رهيف .

أما الجزء الأسفل من الرقيم فتـَبين بعد مدّة من ترجمة الكلمات أنه يضم النوتة الموسيقية لهذه الأغنية أو الأنشودة وهي مدونة باللغة الآكادية (المقطعية) التي كانت لغة التداول الرسمي في ذلك العصر في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام ونظامها شبيه بنظام الأبعاد الموسيقية التي كانت سائدة في بلاد م بين النهرين ولكن هذه الكلمات لم يستطع علماء الآثار واللغات القديمة التعرف على مدلولاتها ونظامها سوى أنها كلمة وبعدها عدد ؟!
وخلاصة القول أن لوحة أوغاريت الموسيقية تحمل في أعلاها أربعة أبيات تشكل نشيداً باللغة الحورية يفصلها خطان متوازيان عن ستة أسطر, مُدرجٌ فيها أسماء أبعاد موسيقية آكادية يلي كل بعدٍ منها عدد تتراوح قيمته بين الواحد والعشرة .إنّ التفسير الذي قدّره العلماء لهذا الشكل هو انّ هذه الأبعاد هي عبارة عن تنويط موسيقي للنشيد الحوري والمشكلة الان هي كيفية التنويط الموسيقي؟


محاولات التنويط الموسيقي
للأنشودة الحورية في لوحة أوغاريت

 

المحاولة الأولى: العالم الانكليزي “ولستان”
أول من قام بتنويط لوحة اوغاريت هو العالم الانكليزي “ولستان” فقام بأخذ أول بعد و سمّاه (دو- صول) يليه العدد /3/ وعزف (دو- ري- مي) و لكنه لم يستطع الاستمرار في عمله فتوقّف للأسباب التالية :
1-  لاحظ التقارب الكبير بين عدد النوتات والأسماء الموجودة على المدونة .
2-  عدم تطابق كلمات الأغنية مع اللحن تماماً.
3-  لم يتمكن من إيجاد التفسير المناسب لبعض مقاطع اللوحة , ويشير الأستاذ “راؤول فيتالي” إلى هذه النقطة فيقول بأن “ولستان” لم يحاول ان يوفّق بين عدد النوتات وعدد المقاطع الواردة في النشيد أو “الأنشودة” باعتبار أنّ هذا غير مألوف في الشرق.

 

المحاولة الثانية: الدكتورة “آن كيلمر”
الدكتورة “آن كيلمر” قامت بمحاولة هامة ومتقدمة في هذا المجال فلم تقتنع بالتفسير الذي وضعه “ولستان” فأعادت تنسيق مقاطع كلمات “الأنشودة” مع مقاطع اللحن المدون أي بمعنى آخر المطابقة بين عدد مقاطع الكلام و عدد النوتات الموسيقية واحتاجت للوصول إلى هدفها هذا إلى إعادة أقسام من الأبيات الشعرية وأقسام من التنويط الموسيقي دون أن تستند إلى براهين كافية تبرر تلك الإدعاءات .
وقامت بالتعاون مع “ريتشارد كروكر ” بصنع آلة كنّارة قديمة شبيهة بتلك الآلة المعروفةبإسم “كنّارة أور” وقام العازف “كروكر” بعد تمرين استمر حوالي عشر سنوات بعزف القطعة الموسيقية في حفل كبير أقامته جامعة “بيركلي” وسُجلت على اسطوانة كبيرة ووُزعت في الأسواق العالمية عام /1975/ .
صحيح أنّ هذه التجربة المتقدمة في مجال تفسير تنويط هذه “الأنشودة” قد أثارت الإعجاب والدهشة في كثير من دول العالم , ولكنّ البعض رأى في هذه التجربة نوعاً من البدائية بالنسبة لشعب كان يعرف أصول السلم السباعي “الفيثاغورثي” واتهموا تفسير السيدة “كيلمر ” بأنه معقدٌ جداً.

 

المحاولة الثالثة: “ميشيل كيما”
أما السيدة البلجيكية “ميشيل كيما” فقد قامت أيضاً بتجربة مماثلة لتجربة السيدة “كيلمر” ولكنها من أجل تحديد العلامات الموسيقية أضافت ثلاث علامات موسيقية وقامت بالرجوع والتكرار حتى تستطيع إكمال العدد المطلوب .

المحاولة الرابعة: الباحث السوري “راؤول فيتالي”
الباحث العربي السوري “راؤول فيتالي” اهتم بالموضوع نظراً لأهميته وجدّيته فلم يوافق على ما توصلت إليه السيدة “كيلمر” وخاصةً موضوع تعدد الأصوات في ذلك الزمن الغابر والسيدة “كيما” لم تقنعه بطريقة الإضافة التي قامت بها نظراً لأنه كان يوجد في أوغاريت طريقة للتدوين والتنويط الموسيقي فحاول التجريب من جديد علّه يضل إلى أشياء جديدة في هذا الموضوع .
من خلال استناده إلى ما هو معروف عن الواقع الحضاري في أيام الآكاديين الذين كانوا يكتبون بواسطة مقاطع كلامية كاملة ويجهلون الحرف تماماً اعتبر أنهم كانوا لا يستعملون النوتات للتنويط الموسيقي بل كانوا يكتفون باستعمال الأبعاد الكاملة , وإثباتاً لذلك فإنّ اللوحات الموسيقية الآكادية لا تذكر النوتات الموسيقية إطلاقاً بل تكتفي بذكر الأبعاد.

لذلك اعتبر الأستاذ “فيتالي” أنه يجب عزف جميع النوتات كل بعد مذكور بالتتالي, فإذا أخذنا بهذا الرأي نكتشف الغاية من وجود الأعداد التي تلي أسماء الأبعاد إذ لا حاجة لها لتحديد الأوتار التي يجب العزف عليها , فبحث عمّا إذا كان من الممكن أن تكون هذه الأعداد قد وُضعت اتحديد إيقاع ما أو زمن ٍ ما .
ودُهش عندما اكتشف أن اعتبار الأعداد أزمنة يؤدّي إلى مطابقة كلّ سطر من التنويط على بيت من النشيد , وأن الإيقاع الثلاثي يحدد زمناً واحداً لكل مقطع كلامي ونتيجة لذلك ينقسم النشيد الأوغاريتي حسب رأي الأستاذ “فيتالي” على الشكل التالي:
السطر الأول من التنويط هو عبارة عن مقدمة موسيقية دون كلام
السطر الثاني من التنويط يطابق البيت الأول من النشيد
السطر الثالث من التنويط يطابق البيت الثاني من النشيد
 السطر الرابع من التنويط يطابق البيت الثالث من النشيد
السطر الخامس من التنويط يطابق البيت الرابع والأخير من النشيد
السطر السادس والأخير من التنويط هو عبارة عن خاتمة موسيقية دون كلام .

الطريف في الأمر أنّ نوتة الأستاذ “فيتالي” جاءت من ملاحظته للنص المدوَّن على اللوحة الأوغاريتية المؤلف من أربعة أسطر حيث دوَّن السطر على الوجه الأول من اللوحة وأكمل على الوجه الثاني منها بطريقة متواصلة وهذه طريقة لم تدرج العادة على اتباعها في كتابة اللوحات المسمارية المعروفة وبذلك استطاع التوصل إلى نتيجة مفادها: كل مقطع صوتي يشكّل وحدة إيقاعية وكل ثلاث وحدات تشكّل قياس موسيقي (بعد) و الزمن في لوحة التدوين مثله مثل زمن موسيقى (الفالس ) (صول – لا – سي)  وأصبح بذلك لدينا موسيقى ثلاثية يتوافق فيها الكلام واللحن معاً ولها مقدمة وخاتمة موسيقية أيضاً, واعتُبرت تجربة الأستاذ “فيتالي”من التجارب المتطورة والمتجانسة, لذلك قام الدكتور “سعد الله آغا القلعة”  في برنامجه التلفزيوني (العرب والموسيقى) بتجربة عزف نوتتها على آلة القانون وجاءت قريبة جداً من موسيقانا العربية وروحها الشرقية المتميزة.

 

خاتمة:
“وبما أنه ذ ُكر على طرف اللوحة الأوغاريتية أن الموسيقى يجب أن تعزف على مقام (نيد قبلي) وهذا المقام هو مماثل لمقام /كرد/ فقد قام الأستاذ “فيتالي” بتنويطها على أساس ذلك. وهذا العمل الموسيقي قُدِمَ في برنامج تلفزيوني بعنوان (أوغاريت بوابة الحضارة) على الفضائية السورية قبل أكثر من عقد من الزمن ربما كان ذلك في عام 1997 (للأسف لم أسجل تاريخ ما شاهدته لذا لا  أتذكر التاريخ بشكل دقيق) وثمة مُعلِق في البرنامج اسمه الأخير ( … قرقماز) حيث وصف العمل في نهاية البرنامج أنها مقطوعة موسيقية تعد الأقرب إلى الموسيقى الكردية الحالية وتنتمي مقامياً (مودالية) إلى النغم الكردي. إلا أن هذا البرنامج أعيد تقديمه في اليوم الثاني ليختتم في نهاية الأمر بقول مغاير وقال أنها الموسيقى الأقرب إلى موسيقى أجدادنا العرب بدلاً من قوله السابق (الأقرب إلى الموسيقى الكردية) الوارد في بثه في المرة الأولى، والذي تم حذفه في المرة الثانية. باعتقادي أن هذا التحوير بتعليقه الجديد هو عملية سطو مباشر وسرقة في وضح النهار لإعتبارات ايديولوجية منطلقاً من مقولة أن التاريخ يكتبه الأقوياء. حقيقة أن هذا التشويه والتحريف لا يفيد الموسيقى العربية بشيء لأن الحوريون ليسوا أجداد العرب لنعتبر موسيقاهم عربية وما إلى ذلك، إلى جانب أن التدوين الموسيقي بابعاده ومسافاته المحدودة محفور على الرقيم الطيني مما يثبت أن اللحن الحوري من مقام الكرد تحديداً وهو مقام أساسي في الموسيقى الشرقية ولا يمكن مجانبة هذه الحقيقة الدامغة لهدف عنصري . . لكنهم ينسون أن الموسيقى هي روح الأمة شأنها في ذلك شأن الثقافة بصورة عامة . . وهم يجهلون أن أي شعب يكتفي بتقليد موسيقى شعب أخر أو بانتحالها انما يقيم الدليل بذلك على فناء روحه. طبعاً نحن الكرد لا نستغرب من أمر كهذا، طالما أن كل ما نملكه مباح للأخر(العربي والتركي والفارسي) أن يسلبه منا. ففي سوريا تم تجريدنا من الجنسية في عام 1962 مما كان سببا في أننا حُرمنا من ملكية أراضينا بحكم الاستيلاء الحكومي، وتحولت أراضينا إلى أملاك دولة، أما نصيبنا نحن هو أن نتذوق طعم الحرمان ونعاني من الفقر من أجل أن نهاجر إلى أماكن أخرى للعمل من أجل تأمين القوت اليومي لأطفالنا، وهو الهدف الذي يُراد تحقيقه بتغيير المكان، وبالتالي تغيير المقام من مقام الكرد إلى مقام أجداد العرب، هذا هو الفكر العروبي البعثوي قائد الدولة والمجتمع.    

أن لهذه اللوحة الأوغاريتية للأنشودة الحورية أهمية كبيرة في جانبين اساسيين، هما:
1- دورها الكبير في إحداث تغيير أساسي في تحديد عمر وتاريخ الموسيقى الشرقية من فارسية وكردية وعربية وسريانية في منطقة الشرق الأوسط والإجابة على سؤال الكثير من العلماء والمهتمين بتاريخ التدوين الموسيقي فقد ثبت بما لا يقبل الشكّ أنها أقدم بما لا يقلّ عن ألف عام من أقدم قطعة موسيقية عرفها الغرب على أساس السلم الموسيقي الذي ينسب إلى “فيثاغورث” الإغريقي عام /500/ قبل الميلاد .وعلى هذا الأساس يمكن القول أن الشرق من بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين هو منبع السلالم الموسيقية في العالم، وعليها استندت السلالم الإغريقية السبعة التي تشكّل بدورها السلم الموسيقي الغربي سواء الماجور أو الماينور.
2- دورها في إظهار مقام الكرد في أقدم تدوين موسيقي إذ يقدم دليلاً تاريخياً على عراقة وأصالة الموسيقى الكردية من جانب، وهي تشكل علاقة قربى يربط الحاضر (الشعب الكردي) بالماضي البعيد (الشعب الحوري) أي الكرد بالحوريون من خلال الموسيقى التي تعتبر لغة الروح والمشاعر والخواطر لدى الأمة. واستناد اللحن الحوري على مقام الكرد كمقام موسيقي تُعَدْ بمثابة أداة للمستند تُعبِر عن عبقرية وخصوصية الشعبين وتتناسب مع حاجاته الحقيقية وتبقى قائمة تتحدى الزمن، لأننا لو استمعنا جيداً إلى اللحن كمقطوعة موسيقية حية، من السهل أن نُدرك طابعها الكردي المتميز الذي يختلف عن النغم العربي والفارسي، تلك هي المشكلة.     

[1] للأمانة العلمية نقول أننا أقتبسنا معظم معلومات هذا المقال من كتاب ((الموسيقا تاريخ وأثر)) للدكتور “علي القيّم” /طبعة أولى /1988/ مطبعة الكندي –  دمشق لنصل إلى كتابة ما نريد قوله واستبيانه في شكل خاتمة أتت في نهاية المقال، وهي بمثابة نتيجة توخيناها من كتابة هذا المقال، وهي أن التزوير لا يمكن أن يدوم، وأن الحقيقة لا بد تتكشف في يوم ما.

[2] هذا المقال تأخر في النشر لأنه في الأساس جزء من بحث كامل يصل إلى 22 صفحة أو ربما أكثر

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…