-1-
كان غريباً مرَّ من هنا، كسحابة أغنية مهشَّمة اللحن، على أوتار قوس قزح، ملَّ من صبِّ ألوانه الأحادية، على أرض الخواء.
حمل سوسنة عشقه لها، وتطلَّع مراراً على تفاصيلهِ في مرآة الروح السرمدية.
– ألا ياأيها منك الولادة… فكن لصوتي الصدى…
ثمَّ بعد ريح فرَّت من عرينها، تخلَّف الغريب عن رسم تابوت آخر بمعنى الاتقاد, كسرِّ الرماد.
استدار وحلَّق في هندسة اللحظة, لحظة ارتماء الزنبق في هلام السماء.
-2-
في المساء حلمتْ به مارداً، فارداً نيرانه القزحية, على مكمن قطاة الخسوف, وتصبَّب العرق الجبان من جبينها، استحضارا لولادةٍ، ما كانت لتجد بدَّاً منها، ولادتهُ من رحم الخطيئةِ .
في الصَّباح كان العرق اللزج يرسم خطوطاً من ملح الحلم, مسحت بكمِّ ردائها الوردي ، العرق المتقطِّر باستحياء.
لمَّت شعث شعرها الأجعد، ثم أسدلت كستارة النور قدميها اليابستين من سرير الوجد، وقبالة النافذة المشرفة على الغرق في عالم الفناء، ادَّخرت كل طاقة لديها لتقف أطول مدة تراقب ما وراء الستارة، من عالم تقنَّع المحظورات، علَّها تحظى بالصبر يقيناً منها بالآتي:
عندما ينتهي صبرك فالأمر يتحول إلى خطيئة… عليك أن تعثر على الظلام بداخلك ليقودك إلى النور..
-3-
لاتدعهم يحوِّلونك إلى ما لست عليه، ابق على الحياد، فالحلم أشبه بالأسطورة، والأسطورة محوَّرة من قصة ما شهيرة.
حلمك كان أن تخرج من ظلَّك، بالمتاح من الليل، وأن تختصر ما تبقَّى لك من صداقة النرجس مع أرض(باجريق)* تربة من زند الوقار، يعلم الطفل مع الفجر أنَّه ماضٍ لجمع باقات منه، وحملها بين أحضانٍ نهرتها السَّلاحف الجديرة بالسرعة القصوى، يضمنها سلَّة من قصب السكر الخارج مع متعة النرجس من صدفة الأشكال.
صياد قضى الفجر، يحصد بمنجله الخامس عنق الزهرة الرشيقة، لايحدوه اليأس ولا الألم يعتصر ياقة قميصه، الممسك بزمام السِّحر الماجن، فالحلم ماجنٌ كما السحر، هكذا كان غريباً مرَّ من هنا كسحابة أغنية.
ضفرت أمام النافذة المشرفة،على الغرق في عالم الفناء شعرها، بإكليل من جلَّنار ضاحك ذات شقاء.
كسيحاً مرَّ الهواء إلى الغرفة، عبر النافذة المواربة، محاولاً تصديق أكاذيب الكبار الراشدين على الصغار، ما أن يسألونهم عن أمر يثير حيرتهم ويقلقهم.
استبدلت خفَّ نومها بصندل من جلد الثور، وخرجت إلى الفناء الخلفي الموحش من وحدة الحكمة.
استجمعت قواها العفوية، معتقدة بالكثير من الظنِّ أن صاعقة ما مرَّت ذات أرق أخرق من هنا، مباغتة النُّور المقنَّع في قلبها، تطايرت خصلات رفيعة من شعرها الممسوك بأصابع القدرة على الإمساك، أغمضت جفنيها بوقار ما تراءى لها من خيالٍ لغريب عاد يدوي ظلَّهُ كطنين اللوعة في هيافة روحها.
جمعت بأصابعها وريقات الأوكاليبتوس، وشرَّعت ذراعيها للنواح.
-5-
هل كنت طيِّعاً بما يكفي لإلهك الأزلي، أم أن حنينك خائن بالصدفة الإلهية, كلُّ من مرُّوا من هنا كسحابة أغنية مهشَّمة الأطراف, تركوا خيال الدلب يفيض عن جسد المحظورات، ويمتحنوا الأقدار اللزجة.
حين حطيت برحال قدرك على أرض الخواء هنا، ماذا كنت تنشد وأنت تعلِّق تميمتك المصلَّبة على خشب التصورات.
أي سِفرٍ من أسفارك كنت تقرأ, وأنت تنزع فتيل القنبلة اليدوية تلك، لترميها إلى الفناء الخلفي لروحها، فتبعثر طين الكتب السماوية، وتبعث الآلهة القلقة التي لم تغضِّ الطرف عن صلبك على صدرك, وتميمتها المعلَّقة في جيدها المحظور بالتكهن.
غريباً تجيد لغة التمدن عن أسلاف تركوا لك إرثهم كأساً عتيقة.
كان حرياً بها والوضع كذا، أن تحيل قضيتها العصيَّة على التأمُّل إلى المحكمة الشرعية، ولكنها تعلم عقبى هبوب الريح على الزيتون، فيهطل بَرَداً من صميم شجرهِ،لأنَّ سبل جدوى النسيان اعتصرها التذكُّر على بوابة (الفرمان) الذي طوَّب ملكيته لصالح الاستمرار حتى هاهنا، حينها أشارت إلى ناحية قلبها وهي تقول:
– هل ستنسى….؟
ثم تردف، ولكنني لن أُنزل الشتاء ماكراً، على عنقي فيحتسي النصل دم الفجيعة.
يجيبها بإيماءة:
– حائرٌ أنا مذ عجزتُ عن فكِّ رموز التمائم، وهنا في الفناء الخلفي لاأعلم هل يصلح المكان للرقص.
حينئذٍ تقابلت ظهورهما، وتقدَّمت الأرجل باتجاه المعكوسات، أبدع الفراغ في لفظهما شهيين كشهقة غروب.
-6-
استوى العقل على عرش المنطق، وبمطرقتهِ، طرق ثلاث طرقات طويلة النفَس، على طاولة الإيمان المشبع بالتورية، بعد أن استحوذ الصمت على ساحة الفناء الخلفي.
رتَّل ترانيم السكون المنصت للضجر، فرفع صوته شاكياً(لهاتور)، عن وضعه سرَّ المحظورات في الخليقة، مبعداً بيديه خيال الحقيقة، وسراب الحياة، اتَّبع عقله المثقل بوهم التباين، ورحل غريباً كسحابة أغنية.
بينما هي أنشدت نشيد حكمة الأقدار، بأنين روحها الهاربة طائراً لازوردياً، لتعود الروح إلى القفص المعنى، راضية بالسرِّ المسكوت عنهُ.
هاتور: من أسماء السماء باللغة المصرية القديمة.
وحين نزلت بعد ذا بألفي عام، إلى الفناء، وجمعت أشلاء الأوكاليبتوس وزهر الدفلى الخجولة، كان الغريب قد أبحر بعيداً هناك عبر المتوسط الأبيض، إلى بلاد لاحكمة للأولين فيها.