خالص مسور:
لاشك أن القصة القصيرة باتت اليوم من الفنون الأدبية المؤثرة على الساحة الأدبية، وهي أقرب الفنون الأدبية إلى عالم اليوم، وبعكس الرواية فهي أشبه باللقطة السينمائية التي تصور جانباً واحداً من جوانب الشخصية القصصية، أويتم التركيز فيها على شخصية بعينها والتي هي شخصية بطل القصة غالياً. ومن سماة القصة القصيرة اعتمادها الإيجاز والتكثيف والتركيز، تنتهي بلحظة تنويرية تترى بكلمات تنتقى بعناية فائقة لتؤدي في النهاية إلى تشكيل لوحة فنية مرسومة بكلمات معبرة وبإيحائية عالية، للوصول إلى الحقائق وجر الحدث نحو الحالة التي يريدها المبدع لنهاية بطل قصته، بالإضافة إلى تجنب إضفاء الصفات غير الضرورية على الشخصيات التي يتم تنسيقها بتآلف وانسجام معينين.
لكننا وبدون إطالة، سنقوم بتسجيل بعض الملاحظات النقدية على قصة وحيدة من المجموعة القصصية للكاتب صبري رسول الموسومة بـ(غبار البراري) والتي صدرت حديثاً، والقصة التي سنتناولها معنونة بـ(شعرت أن الثلج يسقط) والتي اخترناها بطريقة الصدفة بعيداً عن الانتقائية والبحث عما هو الأجمل.
قد يبدو العنوان(شعرت أن الثلج يسقط) عادياً في معناه الدلالي اللغوي، لكن بقليل من التأمل سوف ندرك الدلالة الباطنية للقصة والحالة الفنية والعدول واستخدام حرف التأكيد/ أن/ الذي حوله إلى عنوان شاعري مثير جامعاً بين ما هو مادي وآخر معنوي، والشعرية تنبع من إدخال كلمة – شعرت- فجملة /سقط الثلج/ جملة عادية وليس فيها ما هو جديد أي جاءت في الدرجة صفر للكتابة حسب التعبير البارتي. ولكن الجديد فيه هو الإحساس أوالشعور بسقوط الثلج واستخدام كلمة/ شعرت/ بدلاً من /رأيت/، أي استخدام تقنية تراسل الحواس من الصورة البصرية إلى المعنوية، وهذا بحد ذاته تحويل اللغة المكتوبة إلى لغة انزياحية جميلة والتي هي إحدى كاريزمات القصة القصيرة اليوم، وهو ما يدل على نوع من الخبرة لدى الراوي العليم بكل شيء في السرد القصصي. كما ندرك ومن خلال القراءة المتأنية للقصة المغزى الكموني للإهداء، حيث استطاع الكاتب من خلاله أي من خلال المغزى من رسم معالم قصة واقعية أو الإيحاء بالواقعية بطريقة سهلة وممتعة.
تروي القصة حادثة لأخي الراوي الذي توفاه الله في ديار الغربة، ومن ثم مواكبة جثمانه ليوارى الثرى في مدينة القامشلي في مشهدية درامية حزينة ومؤثرة. لكن نشاهد في المجموعة قصصاً أخرى تتوفر على الكثير من الفكاهة والسخرية كما في قصة (أصبحت نملة) وفيها يصور الراوي نفسه وقد تحول من الحالة الآدمية إلى نملة بإسلوب فني شيق وجميل، استطاع أن يخلق معها حالة من التأزم والغرائبية والإدهاش لدى المتلقي في مشاهد مونولوجو- درامية وبكثير من الإثارة والتشويق. ونعود إلى قصتنا (شعرت أن الثلج يسقط) لنقول: استطاع الكاتب او الراوي الدخول في محراب الحداثة سواء من خلال الكلمات والعناوين أومن خلال الجمل الحداثية كما في – ويكحل سمعه بصوتك- – الطرف الآخر للخط- وهو يعني خط التلفون أو الهاتف – رحلاتنا…تتوسد الحزن – التوغل في حقول الماضي- شتاء بارداً يعلو وجهك….الخ. ثم بعناوين إيحائية معبرة من قبيل- لعنة الإسم- حشرات تشبه الملائكة- متاهة الصمت- ثم في عناوين محفزة لذاكرة القاريء لخلق حالة من التشويق والإيحاء، وكذلك في غموض ما هو قادم مثل – خلف شجرة التوت –الجرح الغامض- صور في العتمة-
كما بدأ الكاتب قصته بتوزيع ساحة العرض بين المكان المغلق وهو هنا البيت والمكان المفتوح وهو مدينة القامشلي ومطارها ومقبرتها، علماً بأن توزيع الأدوار بين المكانين يأتي أيضاً ضمن مستلزمات القصة القصيرة. وقد أعطى البدء بظرف الزمان –عندما – وبعده الفعل المضارع المستقبلي – يأتي – وبعده كلمة – صوتك بصورته السمعية- دفعة حركية (ديناميكية) للحدث القصصي. وحسناً فعل الكاتب لأن هذه الكلمات الثلاث تخلق حالة من الإثارة والحركة والترقب والقلق لدى القارء وتدفعه إلى متابعة القراءة وغرف المزيد مما قد يحدث من مفاجآت داخل القصة ونهايتها.
كما نرى أن الكاتب وقد أتبع الطريقة الحوارية التي أفلحت في كشف أبعاد الشخصيات وانسجامها وتآلفها ضمن النسيج النصي المحبوك ضمن وحدة عضوية مترابطة الاحداث، ليفلح مرة أخرى في خلق حالة من الحركية والإثارة لدى المتلقي أو القارئ، في محاولة القبض على اللحظة الهاربة في حياة الشخصية الرئيسية في القصة العاطفية المثيرة للمشاعر الإنسانية.
وبعد هذه المقدمة النقدية سنقوم بإبداء بعض الملاحظات وليس كلها، بطريقة سيكولاستية تتوزع ما بين إيجابة وسلبية منها وباختصار شديد.
ونجمل بعض الملاحظات الإيجابية بالشكل التالي:
1 – امتازت القصة بحبكة سردية متماسكة نوعاً ما وحالة عضوية مترابطة رغم تسطيح بعض الشخصيات، لكن هذا لايهم كثيراً لأن القصة القصيرة لاتهتم كثيراً بأوصاف الشخصية القصصية – كما قلنا – في الوقت الذي أخذت فيه كل منها دورها المناسب في الحدث، وعلى شكل حوارات درامية مثيرة للمشاعر، والسرد الدرامي هو حالة فنية سليمة وصحية في الحدث القصصي.
2– أفلح الكاتب مرة أخرى في إضفاء لغة شاعرية على الحدث القصصي، واعتماد الإيجاز والتكثيف والعدول، مما أكسبت القصة غنائية وعذوبة في مستويات السرد القصصي الشيق والجميل. ثم التقليل من استخدام حرف الرابط الواو وهي طريقة فنية بالفعل تتطلب مهارة سردية غير قليلة.
3– خلق حالة من السردية الحوارية الدرامية بتناوب الأدوار بين الضمير المتكلم والغائب والمخاطب كما في قوله: (وكثيراً ما تحاول أمي إيهامنا بفرحها بنا، فحضورنا يغنيها عن غيابك). واستخدام السرد الدائري والتكرار العباراتي في مراحل متعاقبة من الزمن الروائي، متمشياً مع محاولات تنشيط ذاكرة القاريء، وانتشاله من حالة نسيان الأحداث الجارية في القصة.
4– جاءت خاتمة القصة أو لحظة التنوير فيها بشكل سلس ومدروس، وأفلح الكاتب في الإعداد لما ندعوه بحسن التخلص في الخاتمة بقدر من الجمالية الفنية. ونلمس تعبيرات حداثية في الجانب اللغوي للقصة بكثير من العذوبة والانسيابية، كما في العبارة الآتية: (عندما سافرت وضعت فضاء المدينة في حقيبتك، فلم يعد للمدينة فضاء) وهو يدل على الكثير من المتابعة والجهد.
أما بعض الملاحظات السلبية فهي:
1 – وجود حالة من عدم التناسق العباراتي في الجانب اللغوي في العبارات الآتية: (عندما يأتي صوتك من الطرف الآخر للخط تسود في البيت لهفة كبيرة، كلنا آذان صاغية، ويخضر الربيع في عيوننا). لكننا نقول، لو جاء الترتيب النسقي بالشكل التالي لكان المشهد اللغوي أكثر رونقاً وجمالاً وهي: عندما يأتي صوتك من الطرف الآخر للخط تسود في البيت لهفة كبيرة، ويخضر الربيع في عيوننا، كلنا آذان صاغية. أي بتقديم العبارة الثالثة على الثانية، لنحصل عندها على عذوبة موسيقية ولغوية وتعبيرية أجمل وأكثر تآلفاً وانسجاماً.
2 – من الأجمل وضع كلمة – إنها– محل الضمير- هي– في العبارة الآتية: (وتعرف يا أخي هي من أعمال أخواتنا الفنية). لتصبح العبارة أجمل وأشمل وأبعد عن التقريرية الزائدة فيما لو قيل: – تعرف يا أخي إنها من أعمال أخواتنا الفنية… لأن كلمة إنها مفيدة في ناحيتين الأولى لتأكيد الحالة الفنية لأن النون المشددة تأتي في سياق التاكيد والإثبات، والثانية إعطاء راحة للقاريء، لأن الكلمة تفتح الفم ويساعد القاريء على التنفس وإفراغ ما في الداخل، بدلاً من الضمير /هي/ الذيي يغلق الفم ويصعب القراءة. بالغضافة إلى أن تأخير كلمة الفنية هنا لا تساهم في خلق إنسيابية نسقية محببة في إيقونة فنية منجزة بالشكل الأكمل من قبل الأخوات.
3 – في عبارة: (تنظر إلى أمي وتفسر صمت جدتها بسؤال زعيقي يخدش السكون). هنا تناقض معرفي في المعالجة المعرفية للحدث، فالتفسير لا يفسر بسؤال بل التفسير هو الجواب ذاته، والأنسب هو أن نضع وتستجلي مكان كلمة وتفسر. كما أن كلمة زعيقي هنا نشاز لا تنسجم مع المناسبة الوجدانية والعاطفية للحدث، فالزعيق كلمة فيها قسوة وغلظة من الزاعق، كما أن صورة الفتاة هنا بزعيقها على الحاضرين تعطي صورة استهتارية في مشهدية اللوحة العاطفية الجادة والحزينة. وهي لاتتوافق مع حالة عائلية كردية محترمة تطفر الدموع من مآقيها الثكلى في انتظار حدث جلل.
4 – في العبارة القصصية: (يسود صمت شتائي مثير علينا). فورود كلمة مثير هنا، نعتقد أنها وظفت في غير محلها الأنسب، ولا يجوز أن نقول /شتاء مثير علينا/ بل /شتاء مؤثرعلينا/ أو شتاء مثير بدون علينا، أوشتاء ثقيل علينا.
5 – في جملة: (غيابك اعتقل جمال زهورنا). فكلمة اعتقال تتكرر في مواضيع أخرى، ورغم أن الكلمة تنم عن إنفعالات نفسية عميقة وجاءت في سياق عبارات حداثية،ألا اننا نعتقد أن الكلمة فيها خشونة بوليسية وتذكرة بالسجون، لاتنسجم مع الأجواء العاطفية الناعمة والحزينة للحدث القصصي، حيث نحس معها أنفسنا في ساحة معركة حقيقية، والأفضل أن نقول: غيابك أبهت جمال زهورنا مثلاً، او أي كلمة أخرى يراها الكاتب مناسبة للحدث، فهو أدرى بشعاب قصته وما يرويه.
6– في عبارة: (كم حسدت على مدينة قامشلي). فالجملة هنا ركيكة نسقياً ونحوياً، إذ لا نقول، حسدت على وبعدها اسم للعاقل أو لغيرالعاقل إلا في حال اتصال ما قبل على بإحدى الضمائر المعروفة مثال: كم حسدته على نجاحه- أو كم حسدتك على نجاحك- والصحيح في عبارتنا القصصية هو /كم حسدتك على مدينة قامشلي/ بإضافة الضمير المخاطب/ك/ على حسدت، أو /كم حسدت مدينة قامشلي/ أي حسدت بدون حرف الجر على. الذي يخرج اللغة عن سياقها التواصلي والمعرفي.
7– في جملة : انتظرتك كقوة هائلة تعيد للأشجار خضرتها… فكلمة هائلة لا أعتقد أنها تناسب هنا الموضوع مطلقاً، وكأننا مرة أخرى أمام محلل عسكري يحلل توازنات القوى بين طرفين متصارعين بالمدافع والطائرات، وما نراه هو القول: انتظرتك كقوة /سحرية/ أو/ إلهية/ بدلاً من هائلة …تعيد للأشجار خضرتها. أي إدخال كلمة /سحرية/ أو/ إلهية/ أو ما يعادلها بدلأ من هائلة.
8– في عبارة: (خرجنا إلى المطار وكنت معنا، وآلاف الناس خرجوا لاستقبالك). فحتى إذا كانت جملة وكنت معنا قد جاءت في سياقها الموضوعي المعرفي إيحائية صحيحة ومتوافقة مع الحدث بشكل من الأشكال، ألا أنها جاءت خبرية الطابع لغوياً، أدت إلى انكسار انسيابية التناسق السردي وإلى نقطة تداخل بين زمان ومكان الحدث القصصي. هذا باختصار مجمل ما استخلناه من الجانب السردي لقصة الكاتب والزميل المجتهد صبري رسول، وليس قصدي إلا التشجيع والتقويم والاستفادة والله ولي التوفيق.
………………………………………
قد يبدو العنوان(شعرت أن الثلج يسقط) عادياً في معناه الدلالي اللغوي، لكن بقليل من التأمل سوف ندرك الدلالة الباطنية للقصة والحالة الفنية والعدول واستخدام حرف التأكيد/ أن/ الذي حوله إلى عنوان شاعري مثير جامعاً بين ما هو مادي وآخر معنوي، والشعرية تنبع من إدخال كلمة – شعرت- فجملة /سقط الثلج/ جملة عادية وليس فيها ما هو جديد أي جاءت في الدرجة صفر للكتابة حسب التعبير البارتي. ولكن الجديد فيه هو الإحساس أوالشعور بسقوط الثلج واستخدام كلمة/ شعرت/ بدلاً من /رأيت/، أي استخدام تقنية تراسل الحواس من الصورة البصرية إلى المعنوية، وهذا بحد ذاته تحويل اللغة المكتوبة إلى لغة انزياحية جميلة والتي هي إحدى كاريزمات القصة القصيرة اليوم، وهو ما يدل على نوع من الخبرة لدى الراوي العليم بكل شيء في السرد القصصي. كما ندرك ومن خلال القراءة المتأنية للقصة المغزى الكموني للإهداء، حيث استطاع الكاتب من خلاله أي من خلال المغزى من رسم معالم قصة واقعية أو الإيحاء بالواقعية بطريقة سهلة وممتعة.
تروي القصة حادثة لأخي الراوي الذي توفاه الله في ديار الغربة، ومن ثم مواكبة جثمانه ليوارى الثرى في مدينة القامشلي في مشهدية درامية حزينة ومؤثرة. لكن نشاهد في المجموعة قصصاً أخرى تتوفر على الكثير من الفكاهة والسخرية كما في قصة (أصبحت نملة) وفيها يصور الراوي نفسه وقد تحول من الحالة الآدمية إلى نملة بإسلوب فني شيق وجميل، استطاع أن يخلق معها حالة من التأزم والغرائبية والإدهاش لدى المتلقي في مشاهد مونولوجو- درامية وبكثير من الإثارة والتشويق. ونعود إلى قصتنا (شعرت أن الثلج يسقط) لنقول: استطاع الكاتب او الراوي الدخول في محراب الحداثة سواء من خلال الكلمات والعناوين أومن خلال الجمل الحداثية كما في – ويكحل سمعه بصوتك- – الطرف الآخر للخط- وهو يعني خط التلفون أو الهاتف – رحلاتنا…تتوسد الحزن – التوغل في حقول الماضي- شتاء بارداً يعلو وجهك….الخ. ثم بعناوين إيحائية معبرة من قبيل- لعنة الإسم- حشرات تشبه الملائكة- متاهة الصمت- ثم في عناوين محفزة لذاكرة القاريء لخلق حالة من التشويق والإيحاء، وكذلك في غموض ما هو قادم مثل – خلف شجرة التوت –الجرح الغامض- صور في العتمة-
كما بدأ الكاتب قصته بتوزيع ساحة العرض بين المكان المغلق وهو هنا البيت والمكان المفتوح وهو مدينة القامشلي ومطارها ومقبرتها، علماً بأن توزيع الأدوار بين المكانين يأتي أيضاً ضمن مستلزمات القصة القصيرة. وقد أعطى البدء بظرف الزمان –عندما – وبعده الفعل المضارع المستقبلي – يأتي – وبعده كلمة – صوتك بصورته السمعية- دفعة حركية (ديناميكية) للحدث القصصي. وحسناً فعل الكاتب لأن هذه الكلمات الثلاث تخلق حالة من الإثارة والحركة والترقب والقلق لدى القارء وتدفعه إلى متابعة القراءة وغرف المزيد مما قد يحدث من مفاجآت داخل القصة ونهايتها.
كما نرى أن الكاتب وقد أتبع الطريقة الحوارية التي أفلحت في كشف أبعاد الشخصيات وانسجامها وتآلفها ضمن النسيج النصي المحبوك ضمن وحدة عضوية مترابطة الاحداث، ليفلح مرة أخرى في خلق حالة من الحركية والإثارة لدى المتلقي أو القارئ، في محاولة القبض على اللحظة الهاربة في حياة الشخصية الرئيسية في القصة العاطفية المثيرة للمشاعر الإنسانية.
وبعد هذه المقدمة النقدية سنقوم بإبداء بعض الملاحظات وليس كلها، بطريقة سيكولاستية تتوزع ما بين إيجابة وسلبية منها وباختصار شديد.
ونجمل بعض الملاحظات الإيجابية بالشكل التالي:
1 – امتازت القصة بحبكة سردية متماسكة نوعاً ما وحالة عضوية مترابطة رغم تسطيح بعض الشخصيات، لكن هذا لايهم كثيراً لأن القصة القصيرة لاتهتم كثيراً بأوصاف الشخصية القصصية – كما قلنا – في الوقت الذي أخذت فيه كل منها دورها المناسب في الحدث، وعلى شكل حوارات درامية مثيرة للمشاعر، والسرد الدرامي هو حالة فنية سليمة وصحية في الحدث القصصي.
2– أفلح الكاتب مرة أخرى في إضفاء لغة شاعرية على الحدث القصصي، واعتماد الإيجاز والتكثيف والعدول، مما أكسبت القصة غنائية وعذوبة في مستويات السرد القصصي الشيق والجميل. ثم التقليل من استخدام حرف الرابط الواو وهي طريقة فنية بالفعل تتطلب مهارة سردية غير قليلة.
3– خلق حالة من السردية الحوارية الدرامية بتناوب الأدوار بين الضمير المتكلم والغائب والمخاطب كما في قوله: (وكثيراً ما تحاول أمي إيهامنا بفرحها بنا، فحضورنا يغنيها عن غيابك). واستخدام السرد الدائري والتكرار العباراتي في مراحل متعاقبة من الزمن الروائي، متمشياً مع محاولات تنشيط ذاكرة القاريء، وانتشاله من حالة نسيان الأحداث الجارية في القصة.
4– جاءت خاتمة القصة أو لحظة التنوير فيها بشكل سلس ومدروس، وأفلح الكاتب في الإعداد لما ندعوه بحسن التخلص في الخاتمة بقدر من الجمالية الفنية. ونلمس تعبيرات حداثية في الجانب اللغوي للقصة بكثير من العذوبة والانسيابية، كما في العبارة الآتية: (عندما سافرت وضعت فضاء المدينة في حقيبتك، فلم يعد للمدينة فضاء) وهو يدل على الكثير من المتابعة والجهد.
أما بعض الملاحظات السلبية فهي:
1 – وجود حالة من عدم التناسق العباراتي في الجانب اللغوي في العبارات الآتية: (عندما يأتي صوتك من الطرف الآخر للخط تسود في البيت لهفة كبيرة، كلنا آذان صاغية، ويخضر الربيع في عيوننا). لكننا نقول، لو جاء الترتيب النسقي بالشكل التالي لكان المشهد اللغوي أكثر رونقاً وجمالاً وهي: عندما يأتي صوتك من الطرف الآخر للخط تسود في البيت لهفة كبيرة، ويخضر الربيع في عيوننا، كلنا آذان صاغية. أي بتقديم العبارة الثالثة على الثانية، لنحصل عندها على عذوبة موسيقية ولغوية وتعبيرية أجمل وأكثر تآلفاً وانسجاماً.
2 – من الأجمل وضع كلمة – إنها– محل الضمير- هي– في العبارة الآتية: (وتعرف يا أخي هي من أعمال أخواتنا الفنية). لتصبح العبارة أجمل وأشمل وأبعد عن التقريرية الزائدة فيما لو قيل: – تعرف يا أخي إنها من أعمال أخواتنا الفنية… لأن كلمة إنها مفيدة في ناحيتين الأولى لتأكيد الحالة الفنية لأن النون المشددة تأتي في سياق التاكيد والإثبات، والثانية إعطاء راحة للقاريء، لأن الكلمة تفتح الفم ويساعد القاريء على التنفس وإفراغ ما في الداخل، بدلاً من الضمير /هي/ الذيي يغلق الفم ويصعب القراءة. بالغضافة إلى أن تأخير كلمة الفنية هنا لا تساهم في خلق إنسيابية نسقية محببة في إيقونة فنية منجزة بالشكل الأكمل من قبل الأخوات.
3 – في عبارة: (تنظر إلى أمي وتفسر صمت جدتها بسؤال زعيقي يخدش السكون). هنا تناقض معرفي في المعالجة المعرفية للحدث، فالتفسير لا يفسر بسؤال بل التفسير هو الجواب ذاته، والأنسب هو أن نضع وتستجلي مكان كلمة وتفسر. كما أن كلمة زعيقي هنا نشاز لا تنسجم مع المناسبة الوجدانية والعاطفية للحدث، فالزعيق كلمة فيها قسوة وغلظة من الزاعق، كما أن صورة الفتاة هنا بزعيقها على الحاضرين تعطي صورة استهتارية في مشهدية اللوحة العاطفية الجادة والحزينة. وهي لاتتوافق مع حالة عائلية كردية محترمة تطفر الدموع من مآقيها الثكلى في انتظار حدث جلل.
4 – في العبارة القصصية: (يسود صمت شتائي مثير علينا). فورود كلمة مثير هنا، نعتقد أنها وظفت في غير محلها الأنسب، ولا يجوز أن نقول /شتاء مثير علينا/ بل /شتاء مؤثرعلينا/ أو شتاء مثير بدون علينا، أوشتاء ثقيل علينا.
5 – في جملة: (غيابك اعتقل جمال زهورنا). فكلمة اعتقال تتكرر في مواضيع أخرى، ورغم أن الكلمة تنم عن إنفعالات نفسية عميقة وجاءت في سياق عبارات حداثية،ألا اننا نعتقد أن الكلمة فيها خشونة بوليسية وتذكرة بالسجون، لاتنسجم مع الأجواء العاطفية الناعمة والحزينة للحدث القصصي، حيث نحس معها أنفسنا في ساحة معركة حقيقية، والأفضل أن نقول: غيابك أبهت جمال زهورنا مثلاً، او أي كلمة أخرى يراها الكاتب مناسبة للحدث، فهو أدرى بشعاب قصته وما يرويه.
6– في عبارة: (كم حسدت على مدينة قامشلي). فالجملة هنا ركيكة نسقياً ونحوياً، إذ لا نقول، حسدت على وبعدها اسم للعاقل أو لغيرالعاقل إلا في حال اتصال ما قبل على بإحدى الضمائر المعروفة مثال: كم حسدته على نجاحه- أو كم حسدتك على نجاحك- والصحيح في عبارتنا القصصية هو /كم حسدتك على مدينة قامشلي/ بإضافة الضمير المخاطب/ك/ على حسدت، أو /كم حسدت مدينة قامشلي/ أي حسدت بدون حرف الجر على. الذي يخرج اللغة عن سياقها التواصلي والمعرفي.
7– في جملة : انتظرتك كقوة هائلة تعيد للأشجار خضرتها… فكلمة هائلة لا أعتقد أنها تناسب هنا الموضوع مطلقاً، وكأننا مرة أخرى أمام محلل عسكري يحلل توازنات القوى بين طرفين متصارعين بالمدافع والطائرات، وما نراه هو القول: انتظرتك كقوة /سحرية/ أو/ إلهية/ بدلاً من هائلة …تعيد للأشجار خضرتها. أي إدخال كلمة /سحرية/ أو/ إلهية/ أو ما يعادلها بدلأ من هائلة.
8– في عبارة: (خرجنا إلى المطار وكنت معنا، وآلاف الناس خرجوا لاستقبالك). فحتى إذا كانت جملة وكنت معنا قد جاءت في سياقها الموضوعي المعرفي إيحائية صحيحة ومتوافقة مع الحدث بشكل من الأشكال، ألا أنها جاءت خبرية الطابع لغوياً، أدت إلى انكسار انسيابية التناسق السردي وإلى نقطة تداخل بين زمان ومكان الحدث القصصي. هذا باختصار مجمل ما استخلناه من الجانب السردي لقصة الكاتب والزميل المجتهد صبري رسول، وليس قصدي إلا التشجيع والتقويم والاستفادة والله ولي التوفيق.
………………………………………