في البازار الثقافي الكردي

 إبراهيم محمــــــــود
 

آثرتُ اعتماد “البازار” كونه يحيلنا على ما هو مشهدي أو إلى المكاشفة، فلا يعود في وسع أي كان أن يتوارى وراء حجاب أو يتموه، لأن ثمة ما يقودنا إليه في كليته أو صوته. إنه مكشوف هنا إذاً كلياً أو جزئياً، وفي الحالتين تبرز لدينا أهمية التعرف إليه على أرض الواقع بعيداً عن الرتوش في الغالب، وأقول “في الغالب” لأن الذي يكون مكشوفاً لا يمكن التعرف عليه بسهولة، إلا من قبل من خَبِرَ “البازار”، أي كان من أهله المتمرسين.

وجاء اعتمادي لـ “البازار” لأنه يقوم على دعامتَيّ الأخذ والعطاء المشروطين، في البيع والشراء بطرق شتى، ولأنه يصلنا هنا بـملتقى التنوع في ميولنا ورغباتنا وأمزجتنا وخياراتنا وسبل تعاملنا مع بعضنا بعضاً من داخل هذا “البازار” وقد اتسعت حدوده وتضاعف معناه، لحظة ارتباطه بـ” BAJAR”، حيث العلاقة بينهما جلية،

 إذ الكلمة الأولى متضمنة في الثانية، بقدر ما تكون الثانية شديدة الدلالة متعددة المعاني تبعاً لمفهوم “البازار” ، وبالتالي، فإن من اللافت أن حرفاً واحداً، وهو الثالث في كل منهما يغيّر في المعنى “Z-J” وهو الحرف الذي يسهل النظر فيه باعتبارها متقلباً وسهل التحول، وكأن التذكير بأي منهما يحيل إلى الآخر ويرتكز عليه.
لكن رغم كل ما يمكن قوله في أو عن أو حول البازار “وقد حرَّرناه من التعليق بين مزدوجتين صغيرتين”، يبقينا بازاريين، إن جاز التعبير، وكيف أننا نتبازر فيما بيننا، أو داخلنا نفسياً، أو ونحن نتخيل أن ثمة من نحاوره أو ندخل معه في نقاش أو نفاوضه أو نقايضه…الخ، وكلها مستويات أو حالات تبيّن غنى البازار ووساعة معناه.
إنه الجمع اليومي بين الاقتصادي والسياسي والدعائي والإعلاني. وفي المدلول العام، تكون الثقافة حاضرة بوصفها شاهدة على مستوى معين من التفاعل أو تبادل المؤثرات، واختلاف المقامات بين طرف وآخر أو أكثر.
البازار: سوق، والسوق تسويقٌ وتسوُّقُ كلمات وتصورات ومحكُّ تجارب وتجلّي المختلف. إنما البازار في وسطنا – نحن- يخفف من وقع كلمة “السوق”، وكل منا على حذر من ألا يكون سوقياً أو ضحية سوقيٍّ، وما في المفردة القائمة في المرئي العاري مكانياً من بلطجة أو حيلة يكون وراها نشل أو ابتزاز أو لصوصية معينة، لأن المكان المفتوح يهيّء لوقوع أسوأ الاحتمالات، والسوق مرتع لدخول الأسوأ والأكثر تميزاً بالحيل وحلو الكلام وفخّيته أو زيف المعروض، عندما يجعل السوق محسوسة أكثر ومقربة إلينا ومخيفةً لنا في الآن عينه.
 
 وفي البازار الثقافي
وفي البازار الثقافي ثمة عروضُ أسعار ومزايدات ومناقصات، وبورصة دوَّارة، وضمانات مرتجلة، بجوار سلع تحمل أسماء الكلام باختلاف مشاربهم، يتواجد أصحابُ سلع، وبيَّاعو أرصفة، وبياعون جوالون، وطفيليون، وشحاذون، وسماسرة “دلالون” وتحالفات ومكاتب بيع وشراء، ومتسقّطو أخبار وكتبة تقارير، ومتنكرون لأكثر من غرض، ومصوّرون سراً وعلناً، وما يدخل في نطاق المزيف والأصيل وأصابع محرّكة لهذا وذاك، وسوق سوداء، وفضوليون وباحثون ميدانيون وشذَّاذ آفاق، ولكل منهم أكثر من هوى يشد به الرّحال هنا وهناك فيها!
يسهل البحث في ذلك من خلال هذا الاستعمال المرَضي للثقافة والحديث عن المثقف، وما يكون لهذا المعتبَر بـ “المثقف الكردي” في تعميمية فاقعة فاضحة من نصيب لا يصيب إلا من ينبري لحديث أقل ما يمكن القول فيه هو أنه خال من كل رائحة ثقافة، لأن ثمة مناخاً سهَّل عليه هذا الخوض في مائه الضحل والعكر، وهو الاستعمال الذي يسمعنا صوت جريان ماء ولكنه ماء المجرور، لأنه يقرب من الإسهال الذي يهدد القائم، وهو لا يتورَّع عن استخدام عبارات أو جمل وربما أسماء كتاب ومثقفين عالميين، والفصل بين اسم وآخر، من منطلق المعرفة بالثقافة، بينما تفصح نبرة العمومية والسلْق الثقافي عن مدى الاستهتار ليس بمفهوم الثقافة حصراً، وإنما بهذا الكردي الذي يسكنه ويحفّزه على النزول إلى ساحة الكتابة وتبين فصل المقال فيما بين المثقف واللامثقف من اتصال، وهو الذي يكاد يشكل موضة أو مرضاً مزمناً له تاريخه الطويل نسبياً، دونما استحياء أيضاً لأن ثمة من يحتذي بهذا الخائض في الكتابة عن المثقف الكردي أو من يكون برسم المثقف، في نوع من التسابق مع الذين سبقوه أو الذين يجدهم وهم لا يكفّون في الحديث عن المثقف وموقع المثقف الكردي، دون تأريخ تسلسلي، أو مراعاة للمأثور عن هذا أو ذاك، أو أي اعتبار أخلاقي أو ذوقي أو تخوُّف مما يترتب على المكتوب قيمياً في وسطه، أو ما يمكن أن يقال إزاء هذا الإسفاف في القول والتسطيح في المعيار الثقافي، وذلك حقه لأن من السهل جداً إيجاد كم وافر من هؤلاء الذين يتم تعيينهم أو تزكيتهم أو ترقيتهم مثقفين ونفي أو إقصاء من هم عالة على الثقافة، لا بل واعتبار من لم يسعفه الحظ في التذكير مطروداً من فردوسه الثقافي غير الموجود إلا في ذهنه.
نعم، نعم! ما أصعب أن يكون المرء كاتباً (وفي الكرد من الكتاب ما يشكل انفجاراً في المعنى جهة مدّعي الكتابة)، وما أصعب أكثر أن يصبح المرء مثقفاً (وفي الكرد من المثقفين ما يجعل حتى عامة المجنون أو الأهبل والمعتوه والمتسول “دون التقليل من خاصته الإنسانية” مثقفين)، انطلاقاً من الكيدية الموجودة والمبارَكة هنا وهناك، ومن الحقد المراعى أو المعتنى به، والتهميش البغيض لمشتغل بالثقافة وقد صار مسقطاً من خانة المثقف كردياً.
إنها لصعوبة بالغة لحظة التعريف بالمثقف وفي عالم اليوم تحديداً إن درسنا التداخل أو المسافة الفاصلة بين المثقف العضوي غرامشياً والمثقف متعدي الحدود والهاوي وهو الأكثر تنوعاً وتحملاً لأعباء الثقافة عند فوكو وإدوارد سعيد وهومي بابا، وخصوصاً حين ندرس المواقع التي يشغلها المثقفون ودرجاتهم وميولهم وتنوع كتاباتهم وما يكونون عليه من معاناة ومواجهة للعالم ولأنفسهم وبقاءً في العاصفة رغبة في معرفة أوسع وأعمق لمنشأها وأشكال تكوينها (انظر مثلاً، ما جاء من عمق معنى حول ذلك في”دفاع عن المثقفين” لسارتر- دار الآداب، بيروت/1973 ، و”المثقف والسلطة” لمحمد الشيخ، دار الطليعة، بيروت/1991، و” الثقافة والمثقف في الوطن العربي” كتاب جماعي مشترك، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت/1992، ولي مساهمة فيه…الخ).
ترى ماذا في حوزة الكردي مدّعي الثقافة أو المتكلم عنها، أو المروج لها، من رأسمال معرفي، ومن انتاج يؤهله لأن يكون مخولاً للكتابة في هذا المضمار؟ أي تبرير يعطى لمثل هذا النكء للجراح، وحالة التسيب وكذلك الفلتان في الوجداني إن دُقّق في خلفية كتابة ٍتزعم أنها ثقافية، ولعل في متصوّر هذا الذاهب بكتابته إلى التخوم العليا في إطلاق الأحكام والتعريف بـ” مثقفيه” كما لو أنه مرجع فيما يقول ومستعد لتوضيح فكرته أنَّى ذهب واستقر، وهو لا يخفي طابعاً فظيعاً من الوصائية والمعلَمية في معرفة المثقف بأسراره وحكاياته الكبرى مع تاريخ نشأتها…؟
هل من سوق ثقافية فعلية تغرينا بزيارتها وتقصّي أقسامها، ليكون لدينا هذا الكمُّ المريع من سماسرة الكلام “النق” ورواته ورعيته، حيث لا توقيت لأي حديث ثقافي إنما هو أشبه بحكة تضفي تهريجاً على الساعي إلى تعريف المحيطين بمواقعهم، ونسيان أن الحكَّ المرئي يشكك مباشرة في حقيقة الجاري من جرب أو ما يرادفه من هرش وسواه، بقدر ما يترجم هذا التحفيز في الجمل المتقطعة والعمومية ويستشرف وضعاً مأسوياً للمتكلم، وتصوُّرِ المهزلة التي يكون عليها لو أنه تكلم هكذا أو أدلى بدلوه في مجلس ثقافي فعلي خارج محيط مسامريه ومشجعيه؟
لعله العارُ العار “مكرَّراً” والذي لا يشعر به هذا الزاعم أنه مهتمٌّ بالموضوع الثقافي دون أن يكون لديه الرصيد المشرّع له، العار الذي يتلبَّس من يروّج لما ليس لديه من وعي بخاصية الترويج وما يسعفه في تكوين أثره، العار الذي يسمّي كل من يشيع أو يذيع ما يعتبره ثقافة، وهو عييٌّ في مفهوم الدعاية الثقافية وتبين ِ علامتها.
وهو عار يسهل طرحه في نطاق هذا الحديث “الساخن” عما يجري في وسطنا المذرور، من خلال التقزيم أو التفخيم دون مساءلة عن حقيقة القيمة المعتمدة، عن تشويه لما يقوله هذا أو ذاك، واختزال لما يقوله، وما في ذلك من تعريف مباشر بتطفله على الثقافة، وقصور وعيه فيما يقرأ ويتصدى له، لأن ثمة الكثيرين من أمثاله..
ليس من لوم يتحدد هنا، إلا إزاء الذين يمتلكون بعضاً مما يصلهم بالثقافة، وهم يشهدون مثل هذا النخر النافذ في اللحم والعظم كردياً، وهم راضون عما يجري طالما أنهم يسكتون، كما لو أنهم يعترفون في قرارة أنفسهم أن ما يبرّر وجودهم السوقيَّ” بالمعنى السلبي للمستخرج من السوق”، وتبضُّعَهم المتدني من السوق كذلك، ونوعية الخردة الصدئة لديهم، هو تحقيق ذلك الانسجام النفسي فيما بينهم، وهنا تكون الطامة الكبرى، كما هو راهننا.
لقد كان الفيلسوف الألماني” كنت”، وصاحب السؤال التنويري المعروف ثقافياً” ما الأنوار؟”، يجاهد في تأكيد مشروعية وجود المشتهَر وهو مبدأ (الإرادة الطيبة)، باعتبارها مصدرَ سلطته الأخلاقية، ومنبع الواجب إنسانياً.
كان ما انطلق منه عصياً على التحقق، ولهذا جاءت فضيلته الكبرى والفارعة حتى اللحظة! إنه المبدأ الذي يشدّد له ولغيره ولنا على ما هو حيٌّ في الذات بالنسبة للمسئولية الأخلاقية ودورها في إثبات وجود قانون يردع أياً كان عن ارتكاب الموبقات ويلزمه بالوقوف عند حده، حتى لو أن الآخرين مارسوا- بلا هوادة- خرقاً مستمراً له، فالمهم هو وجود من يتمثل هذا القانون، وهنا يتأصل الضمير وصوت الضمير، بقدر ما تتعزَّز المسئولية خارج نطاق الضمير، لتكون وطنيةَ وقومية وأممية وكونية، ومن خلال هذا البازار الثقافي الكردي “المبهْدل” حقاً!
في السياق هذا تبرز الثقافة بمعناها المعرفي “أفيونَ” الكردي، معضلته التي تزداد تعقيداً، ولا غرابة في ذلك عندما نشهد تراجعاً في المشهد الثقافي، وتحرُّكَ أدعياء الثقافة في الواجهة الاجتماعية والسياسية، وميل من له اهتمام بالثقافة إلى الانزواء ليسلم بروحه أفضل له من يناله الجرب الثقافي ومشهده الضاحك المبكي كردياً!
——–
ملاحظة: ليس من كاتب محدَّد يكون مقصوداً بعينه في هذا المقال، وإذا شعر أحد الكتاب أو أيٌّ كان، أنه المعني بنقدي، نظراً لوجود شبه ما من خلال جملة معينة أو فقرة كذلك، فهو بمحض المصادفة فقط..فقط..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…