نوستالجيا

إبراهيم اليوسف
 
إلى شبال إبراهيم
 

ثمة وجوه كثيرة للحنين لدى الفنان، سواء أكانت روحه قد تطبعت بالقصيدة، أو بالموسيقا، أو اللوحة، أوسواها، فهو لايفتأ يظهر في تلك الأشكال، كافة، أو ربما خارجها، أيضاً، لاسيما أن الحنين يأتي نتاج انقطاع  عما ألفه  الإنسان، ليظهر بدرجات مختلفة، تتعلق بحساسية كل كائن على حدة، وإن كان هذا الانقطاع قد جاء على نحو قسري، أو طوعي، ولعل ما يضخم الإحساس بالحنين أكثر، هو انقطاع الأمل بالتواصل مع مبعث الحنين، كائناً، أو مكاناً، أو فضاء زمنياً .
ولقد عرف الشعر- على نحو خاص- ضروب الحنين، لاسيما عندما كان الشاعر يضطر لمغادرة مكان ما، عندما يرحل ذووه،  طلباً للكلأ والماء، ما ترك أثره في الشعر العربي، على نحو جلي، فكان الوقوف على الأطلال، وبكاؤها أو استبكاؤها سمة بارزة في القصيدة التقليدية، تحرك كوامن روح الشاعر ونفسه، وتدرج به إلى أغرض أخرى، يحدوها الواحد منها تلو الآخر .
 
وقد نجد في اللوحة آثار مثل هذا الحنين،  تتفجر في شكل وجوه، أو بيوت، أو ملاعب طفولة، أو مدرسة، أو عنوان وظيفة أو عمل، لتكون ترجمة وافية لرؤى الفنان، وذكرياته، وربما حلمه بالعودة إلى معانقة ما يحن إليه،تبعاً لدرجة ارتباطه به، كما أن الوجه الذي يثير نوازع الحنين، قد تشكل علاماته الفارقة، أم، أو أب، أو ابن، أو معلم، أو صديق، أو حبيب، كما أنه في حضرة الحنين إلى أمثال هؤلاء الشخوص- قد تتشكل عقبة كأداء أخرى، وهي فقد أحد هؤلاء، ليتضاعف الإحساس  تجاهه،  لأن أسباب التواصل به قد غدت في ذمة المستحيل .
 
وما يقال عن الشعر، واللوحة، يُقال في الوقت نفسه بالنسبة إلى الروائي، أو القاص، حيث نجد أن  مبدعاً مرهف الإحساس،  يجد نفسه، وهو يستحضر عوالمه الأثيرة التي افتقدها حقيقة، أو مجازاً، يعيش في تلك اللحظة الزمكانية، بعيداً عن لحظته الحالية، تتداخل رائحة المكان البعيد، برائحة هؤلاء الأشخاص الأثيرين الذين يستهويهم، وهم في أمكنتهم، تلك، يوقدون مشاعره، ليهرول إلى حبره، وقرطاسه، أو الأحرف في “كيبورد” حاسوبه، يشكل من خلال نقر أصابعه عليها، عالماً يحقق توازنه النفسي، يجسر اللحظة المعيشة بالماضي، أو المستقبل، وهو يتناول المفردات الأكثر سطوة، وتأثيراً، يعيد رسم ملامح أبطاله الافتراضيين، في فضاء الورق، أو شاشة الحاسوب .
 
وإذا كان من شأن الزمان، ألا يستحضر فعلياً، بل يرد في أشكال موازية، باعتباره عصياً على التكرار، حتى ولو استنسخ في مخيال المبدع الحقيق، بيد أن المكان نفسه لا يمكن أن يقدم إلا في صورة مشابهة، لصورته الأولى، مادام أن تفاعل كل من الزمان والمكان يؤثر في الآخر، ويبدو المكان خارج زمانه ناقصاً أحد شروطه، كما أن الوجوه نفسها تكسب سر تألقها وسطوتها من لحظتها نفسها، وكثيراً ما يعود بعض أبطال الروايات إلى أمكنتهم الناقصة، ليتفاجأوا بأن صورتها في الخيال كانت أجمل، وهو ما قد ينطبق على الشخوص الذين يتم التحنان إليهم، فقد يتفاجأ من ينذر عمره لأجلهم، في لحظة تحقق لقائه بهم بأن صور هؤلاء التي كان يحملها لهم كانت أجمل، وهو ما يشعره بخيبة أمل تجاههم .
 
elyousef@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ا. د. قاسم المندلاوي

في هذه الحلقة نقدم للقارئ الكريم نبذة مختصرة عن فنانين آخرين، احدهم من غرب كوردستان، الفنان الشهيد يوسف جلبي، الذي تعرض الى ابشع اساليب الاضطهاد والتعذيب من قبل السلطات السورية الظالمة، وخاصة بعد سيطرة نظام البعث سدة الحكم عام 1966. فقد تعرض الكثير من المطربين والملحنين والشعراء الكورد في سوريا…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

غازي القُصَيْبي ( 1940 _ 2010 ) أديب وسفير ووزير سُعودي . يُعتبَر أحدَ أبرزِ المُفكرين والقِياديين السُّعوديين الذينَ تَركوا بَصْمةً مُميَّزة في الفِكْرِ الإداريِّ العربيِّ ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ التَّنظيرِ والمُمارَسة ، وَلَمْ يَكُنْ مُجرَّد كاتب أو شاعر ، بَلْ كانَ إداريًّا ناجحًا تَوَلَّى مَناصب قِيادية عديدة…

ماهين شيخاني

كانت قاعة المحكمة الباردة تشهد حواراً أخّاذاً بين محامٍ شيخ وقاضٍ متمرس. توجه المحامي بسؤاله المصيري: “لو كنت مكان القاضي، ما مدة الحكم الذي ستصدره على سهى يا أستاذ؟”

أجاب الرجل بهدوء: “أقصر مدة ممكنة.”

ابتسم المحامي مرتاحاً: “أحسنت، أنت قلبك طيب وعطوف.”

………

الفلاش باك:

في ليالي الخدمة الإلزامية، كان قلب الشاب العاشق يخفق بشوقٍ جامح….