جهاد أسعد محمد
أخيراً، ترك “عمار” بيته وعيادته في “كفرسوسة”، واستأجر غرفتين بمنافعهما في “الـ86″.. الغرفة الأولى خصصها لسريره وحاسوبه و”صرة” ملابسه وتلفزيونه (وهو الأهم)، والغرفة الثانية وضع فيها ما استطاع نقله من معدات أساسية فقط تلزمه لمعاينة “مرضى بسطاء من أصول ريفية لا يهتمون بـ(الفخفخة) والمظاهر الفارغة”، أما أطفاله الثلاثة فلم يعد يراهم إلا أيام الجمعة والسبت في بيت ذويه في “الباردة” بريف دمشق الجنوبي.
أخيراً، ترك “عمار” بيته وعيادته في “كفرسوسة”، واستأجر غرفتين بمنافعهما في “الـ86″.. الغرفة الأولى خصصها لسريره وحاسوبه و”صرة” ملابسه وتلفزيونه (وهو الأهم)، والغرفة الثانية وضع فيها ما استطاع نقله من معدات أساسية فقط تلزمه لمعاينة “مرضى بسطاء من أصول ريفية لا يهتمون بـ(الفخفخة) والمظاهر الفارغة”، أما أطفاله الثلاثة فلم يعد يراهم إلا أيام الجمعة والسبت في بيت ذويه في “الباردة” بريف دمشق الجنوبي.
هذا الإجراء، كان الحل المؤقت الوحيد بعد سبعة أشهر من الجدل غير المنقطع والصدامات اليومية، وأحياناً الساعيّة، بين “عمار” وبين زوجته “سميرة” حول ما يجري في البلاد، وبعد أن أصبح بقاؤه معها تحت سقف واحد أمراً قد يؤدي به لارتكاب جريمة (حسب وصفه).
برز الاختلاف بين الزوجين في قراءة وتقييم الموقف منذ بداية الأحداث.. هي رأت أن من اعتدى على أطفال درعا، وعلى ذويهم، ومن ثم على وجهاء المدينة وشيوخها وشبابها، يجب إعدامه لأنه مجرم وعديم الشرف والإنسانية والوطنية، وهو رأى أن المشكلة من أساسها مفتعلة و(مفبركة) ويلفها الغموض، وهناك أصابع خارجية وشبهة تحريض وتمويل لتنفيذ مخطط أمريكي – صهيوني – خليجي ضد سورية ومواقفها الممانعة.. لكن هذا الاختلاف كان “هادئاً” حينها، وبقي للزوجين الكثير مما يمكن أن ينسيهما تباين موقفيهما، فلتلك الفترة الربيعية ذكريات طاغية عند كليهما لا يمكن نسيانها: تعارفهما الذي جرى مصادفة في كلية الآداب قبل اثني عشر عاماً، خطبتهما التي جرت بعد نحو عام رغم تحفظات ذويهما في الجبل والسهل، زواجهما السريع بعد ذلك بأقل من شهرين… وظل هو قادراً على المبادرة بالغزل والقبل والملامسات الساخنة، وظلت هي تطلب منه آخر الليل أن يموّل لها مواويله (السويحلية) الشجية.
لكن، بعد ذلك أخذت المسألة بالتفاقم، هو يريد متابعة نشرة الأخبار على تلفزيون “الدنيا” غير مبال بوصف زوجته لها بأنها قناة الكذب و”الشبيحة”، وهي تريد متابعتها على “الجزيرة” رغم إصرار زوجها أنها محطة الفتنة والأفلام المفبركة، وأصبحت النقاشات أكثر حدة، وراحت تدور على مسمع الأطفال الذين أخذوا بدورهم يخوضون سراً نقاشاتهم الخاصة، ويختلفون على ما اختلف عليه أبواهم دون فهم أغلب المصطلحات الناشئة: هل المتظاهرون “مندسّون” و”تكفيريون” يقبضون مالاً وسخاً من الحريري وآل سعود وأمير قطر والموساد، ويتعاطون حبوب الهلوسة كما يصدّق الأب، أم أنهم شرفاء طهورون يواجهون الموت كل لحظة بصدور عارية كما تصر الأم؟
ثم بدأت الأمور تتعقد أكثر فأكثر.. هو يؤكد أن أبناء الحي يصوّبون نحوه نظرات حادة في غدوّه ورواحه، وأن معظمهم يقاطعون عيادته لأسباب طائفية، وقد يثبون عليه في أية لحظة، وهي تؤكد له أن مخاوفه لا مبرر لها، وأنها نابعة من مشاعر طائفية لا يستطيع كبتها رغم أنه مثقف ومتعلم!.. هو يشرح لها كيف صار السمّان “أبو محي الدين” يعامله بقرف وتحفّظ، وهي تشرح له كيف يقوم المدير الطائفي للمدرسة التي تعمل بها بكتابة التقارير بحق التلاميذ الصغار ورفعها إلى أجهزة “الأمن”.. هو يؤكد أنه سيخرج غداً في مسيرة التأييد لأن القضية أصبحت قضية وطن وسيادة ومن الخيانة عدم المشاركة، وهي تسخر منه وتعترف أنها كانت أمس في مظاهرة إسقاط النظام لأن الاكتفاء بالفرجة أصبح عاراً وشراكة في الذبح! وزاد السوء سوءاً حين شهدا مرة جدلاً مماثلاً بين الأخ والأخت حول الموضوع نفسه، وحين خلط أصغر الأولاد بين شعارين متناقضين، فخرج بشعار جديد يمكن أن يؤدي لاعتقال العائلة كلها: “الله، سورية، بشـ… مندس!!”..
ثم حل أوان المعارك الطاحنة.. نشبت معركة محتدمة حول “العصابات المسلحة”، ومعركة أكثر احتداماً حول الشعارات المرفوعة في كل جانب وأسماء الجمعات، ومعركة حول دور الخارج وخصوصاً تركيا، ومعركة حول عدد المعتقلين والشهداء والمفقودين، وحول “المجلس الوطني” والمعارضة الداخلية، وحول “الجيش السوري الحر”، وحول “الشبيحة”، ومعركة حول الجامعة العربية، ومعركة حول ما يجري في حمص، وما جرى قبلاً في درعا، وفي حماة ودير الزور، وحول نذر الحرب الأهلية، إلى أن راحا يتبادلان الشتائم واتهامات الغباء والخيانة!.
بعدها جاء وقت الصمت المتقطع ببعض التعليقات الساخرة.. هو يتحدث على الهاتف مع أخيه الضابط ويطمئن عليه، فيقول بصوت عال متعمداً إسماع زوجته: “مطولين لتخلصوا ربنا من هالعصابات وهالزعران؟ بيدوهم يا أخي وخلصونا.. إنو مين هالحمار اللي مفكر إنو في ببلدنا ثورة.. ولك هادي فتنة ومؤامرة إذا طوّلت آخرتها حرب أهلية..إلخ”.. أما هي فتنتظر زوجها حتى يضع CD لفيروز كعادته قبل النوم، فتتصل بصديقتها الناشطة السياسية لتثرثر معها، ولا تنسى أن تعلّق: “لك والله أنا بستغرب كيف الواحد ممكن يكون بحب فيروز وزياد الرحباني والشيخ إمام والبينغ فلويد، وبنفس الوقت صافف مع النظام!! لك شو هالانفصام هاد؟! ولاّ قولتك كلّو كذب ونفاق وادعاء تحرر بينما بالأساس الواحد من جوّا بعدو طائفي وجحش؟!..إلخ”.
يصبح الطلاق وشيكاً.. يتدخل الأصدقاء في محاولة تخفيف حدة التوتر لأن الأهل، المنقسمين أساساً من قبل الأزمة، إن تدخلوا سيزيدون الأمر تعقيداً.. يصلون إلى حل أولي.. هدنة بين الطرفين للتأمل والتفكير…
يترك عمار البيت بشرط ضامنه الأخلاقي ثقته بسميرة، ألا تسمح للأولاد بمتابعة “الجزيرة”، وألا تقول لأي منهم بأن ما يجري في البلاد هو ثورة!!
في هذه الفترة، لا تفوّت سميرة مظاهرة أو نشاطاً إلا وتشارك بهما على أمل إسقاط النظام، واحتمال تعرضها للاعتقال بات كبيراً، بينما يقبع عمّار في بيته الجديد منتظراً أن يتمكن الجيش وأجهزة الأمن من القضاء على المؤامرة والمتآمرين بأسرع وقت… أما البلاد فإنها ما تزال تحترق، والناس يُذبحون، أو يأكلهم القلق والخوف من الاحتمالات القادمة.. فهل كانت التباينات الأولى بوجهات النظر حول ما جرى يوم الخامس عشر من آذار 2011 وما تلاه من أيام قليلة، توحي بأنها قد تتطور بهذا الاتجاه، أو بهذا التسارع الشديد.. أم أن نزيف الدم وشدة العنف وجنون (أو خبث) الإعلام ودخول كل مرتزقة العالم و”سادته” على خط الأزمة، جعل كل بيت سوري تقريباً يغرق في خلافات حادة ومعارك يومية غير معروف مآلها؟ وهل كان هذا ليحدث أصلاً لو أن طبيعة وشكل وأدوات إدارة “المشكلة” كانت أكثر حكمة وأقل دموية، ولم تحول المسألة برمّتها إلى “أزمة وطنية عامة” هائلة وعميقة؟ والأهم من هذا وذاك، ما هو الحل اليوم بعد أن باتت الكارثة وشيكة… وشيكة جداً؟
لكن، بعد ذلك أخذت المسألة بالتفاقم، هو يريد متابعة نشرة الأخبار على تلفزيون “الدنيا” غير مبال بوصف زوجته لها بأنها قناة الكذب و”الشبيحة”، وهي تريد متابعتها على “الجزيرة” رغم إصرار زوجها أنها محطة الفتنة والأفلام المفبركة، وأصبحت النقاشات أكثر حدة، وراحت تدور على مسمع الأطفال الذين أخذوا بدورهم يخوضون سراً نقاشاتهم الخاصة، ويختلفون على ما اختلف عليه أبواهم دون فهم أغلب المصطلحات الناشئة: هل المتظاهرون “مندسّون” و”تكفيريون” يقبضون مالاً وسخاً من الحريري وآل سعود وأمير قطر والموساد، ويتعاطون حبوب الهلوسة كما يصدّق الأب، أم أنهم شرفاء طهورون يواجهون الموت كل لحظة بصدور عارية كما تصر الأم؟
ثم بدأت الأمور تتعقد أكثر فأكثر.. هو يؤكد أن أبناء الحي يصوّبون نحوه نظرات حادة في غدوّه ورواحه، وأن معظمهم يقاطعون عيادته لأسباب طائفية، وقد يثبون عليه في أية لحظة، وهي تؤكد له أن مخاوفه لا مبرر لها، وأنها نابعة من مشاعر طائفية لا يستطيع كبتها رغم أنه مثقف ومتعلم!.. هو يشرح لها كيف صار السمّان “أبو محي الدين” يعامله بقرف وتحفّظ، وهي تشرح له كيف يقوم المدير الطائفي للمدرسة التي تعمل بها بكتابة التقارير بحق التلاميذ الصغار ورفعها إلى أجهزة “الأمن”.. هو يؤكد أنه سيخرج غداً في مسيرة التأييد لأن القضية أصبحت قضية وطن وسيادة ومن الخيانة عدم المشاركة، وهي تسخر منه وتعترف أنها كانت أمس في مظاهرة إسقاط النظام لأن الاكتفاء بالفرجة أصبح عاراً وشراكة في الذبح! وزاد السوء سوءاً حين شهدا مرة جدلاً مماثلاً بين الأخ والأخت حول الموضوع نفسه، وحين خلط أصغر الأولاد بين شعارين متناقضين، فخرج بشعار جديد يمكن أن يؤدي لاعتقال العائلة كلها: “الله، سورية، بشـ… مندس!!”..
ثم حل أوان المعارك الطاحنة.. نشبت معركة محتدمة حول “العصابات المسلحة”، ومعركة أكثر احتداماً حول الشعارات المرفوعة في كل جانب وأسماء الجمعات، ومعركة حول دور الخارج وخصوصاً تركيا، ومعركة حول عدد المعتقلين والشهداء والمفقودين، وحول “المجلس الوطني” والمعارضة الداخلية، وحول “الجيش السوري الحر”، وحول “الشبيحة”، ومعركة حول الجامعة العربية، ومعركة حول ما يجري في حمص، وما جرى قبلاً في درعا، وفي حماة ودير الزور، وحول نذر الحرب الأهلية، إلى أن راحا يتبادلان الشتائم واتهامات الغباء والخيانة!.
بعدها جاء وقت الصمت المتقطع ببعض التعليقات الساخرة.. هو يتحدث على الهاتف مع أخيه الضابط ويطمئن عليه، فيقول بصوت عال متعمداً إسماع زوجته: “مطولين لتخلصوا ربنا من هالعصابات وهالزعران؟ بيدوهم يا أخي وخلصونا.. إنو مين هالحمار اللي مفكر إنو في ببلدنا ثورة.. ولك هادي فتنة ومؤامرة إذا طوّلت آخرتها حرب أهلية..إلخ”.. أما هي فتنتظر زوجها حتى يضع CD لفيروز كعادته قبل النوم، فتتصل بصديقتها الناشطة السياسية لتثرثر معها، ولا تنسى أن تعلّق: “لك والله أنا بستغرب كيف الواحد ممكن يكون بحب فيروز وزياد الرحباني والشيخ إمام والبينغ فلويد، وبنفس الوقت صافف مع النظام!! لك شو هالانفصام هاد؟! ولاّ قولتك كلّو كذب ونفاق وادعاء تحرر بينما بالأساس الواحد من جوّا بعدو طائفي وجحش؟!..إلخ”.
يصبح الطلاق وشيكاً.. يتدخل الأصدقاء في محاولة تخفيف حدة التوتر لأن الأهل، المنقسمين أساساً من قبل الأزمة، إن تدخلوا سيزيدون الأمر تعقيداً.. يصلون إلى حل أولي.. هدنة بين الطرفين للتأمل والتفكير…
يترك عمار البيت بشرط ضامنه الأخلاقي ثقته بسميرة، ألا تسمح للأولاد بمتابعة “الجزيرة”، وألا تقول لأي منهم بأن ما يجري في البلاد هو ثورة!!
في هذه الفترة، لا تفوّت سميرة مظاهرة أو نشاطاً إلا وتشارك بهما على أمل إسقاط النظام، واحتمال تعرضها للاعتقال بات كبيراً، بينما يقبع عمّار في بيته الجديد منتظراً أن يتمكن الجيش وأجهزة الأمن من القضاء على المؤامرة والمتآمرين بأسرع وقت… أما البلاد فإنها ما تزال تحترق، والناس يُذبحون، أو يأكلهم القلق والخوف من الاحتمالات القادمة.. فهل كانت التباينات الأولى بوجهات النظر حول ما جرى يوم الخامس عشر من آذار 2011 وما تلاه من أيام قليلة، توحي بأنها قد تتطور بهذا الاتجاه، أو بهذا التسارع الشديد.. أم أن نزيف الدم وشدة العنف وجنون (أو خبث) الإعلام ودخول كل مرتزقة العالم و”سادته” على خط الأزمة، جعل كل بيت سوري تقريباً يغرق في خلافات حادة ومعارك يومية غير معروف مآلها؟ وهل كان هذا ليحدث أصلاً لو أن طبيعة وشكل وأدوات إدارة “المشكلة” كانت أكثر حكمة وأقل دموية، ولم تحول المسألة برمّتها إلى “أزمة وطنية عامة” هائلة وعميقة؟ والأهم من هذا وذاك، ما هو الحل اليوم بعد أن باتت الكارثة وشيكة… وشيكة جداً؟