عمر كوجري
ليس من باب الإنشاء أن تكون كلمة التربية سابقة لكلمة التعليم في العديد من الدول التي ترى إن التربية ، وعلى وجه الخصوص الناشئة في أول مرحلتهم العمرية يحتاجون إلى التربية أولاً أكثر من احتياجهم إلى التعلم الذي يأتي لاحقاً، ولم يكن الشاعر العربي على خطأ حين قرن في لحظة تجل شاعرية حينما شعر في بدايات القرن الماضي أن لا فائدة من فتح المدارس وبنائها وتجهيزها إذا لم يقرن كل ذلك بقضية هامة وحيوية في حياة المجتمع وهي قضية الأخلاق: وأي نفع لمن يأتي مدارسكم إن كان يخرج منها مثلما دخلا
لندع الرصافي الكبير جانباً مع وجع القصيدة المشتهاة، وإن كانت هذه توطئة لابد منها للدخول في صميم العنوان.
في بلادنا مدارس كثيرة، كما شأن كل بلد، ومن حقنا أن نتفاخر بتزايد تشييدها وبنائها كل عام في المناسبات الوطنية وغيرها، لكن رغم هذا التطور الأفقي والشاقولي في افتتاح مدارس جديدة، هل أعدنا العدة لبناء الإنسان، وهذا العنصر الأهم في معادلة مستقبل البلاد؟؟
معلمون ولكن؟
في بلاد العالم المتطورة والنزاعة نحو الرقي، هناك اهتمام جلي بالتعليم، والمعلمين بدرجة كبيرة، هناك لا يدخل سلك التعليم إلا صاحب السيرة العطرة، والحائز بالتأكيد على العلامات العالية، وهي مهنة تكرم صاحبها من جميع النواحي، ويعيش صاحبها في دعة عيش، بينما في بلادنا ورغم أنه لا يمكن إطلاق أحكام مطلقة إلا أن الكثير الكثير من الذين دخلوا سابقاً سلك التعليم كانوا من أصحاب العلامات المتواضعة، حيث لم تخوّلهم علاماتهم الدخول في فروع جيدة ” من ناحية الكسب المادي” فسجلوا في معاهد إعداد المعلمين التي تطلبت وقتذاك علامات قليلة ليتخرجوا بعد سنتين مفتقدين إلى أهلية التعليم من ناحية اكتساب المعارف والإعداد الجيد للتصدي لمهام وتنشئة جيل واع من كل النواحي، وتعمق هذا الإحساس لأن هذه المعاهد لم تخضع لمراقبة وزارة التربية بشكل مباشر، فحاجة المحافظات إلى كوادر من المعلمين جعلت الدولة تشيّد في كل محافظة معهداً، فكان النجاح والتخرج يسير وفق خط أوتوماتيكي، ولم نسمع أن فلاناً فصل من المعهد لاستنفاد سنوات الرسوب وغيرها.
ناقص الأخلاق مكتملا
ونأتي إلى المعادلة الثانية في لب العملية التربوية وهي التلميذ، فمن الناحية التربوية يدخل التلميذ إلى عالم مختلف شكلاً ومضموناً عن عالم أسرته الصغير، وينفصل عنه دون أن يكون جاهزاً – نفسياً على الأقل- لذلك الانفصال، ومن هنا تبرز أهمية التحضير للدخول في مرحلة الصف الأول الذي يتطلب أن يكون الطفل قد اعتاد حياة الجماعة والاندماج مع الأقران واللعب معهم وتقبلهم، لكن هذا لا يتحصل في مدارسنا وخاصة أبناء الريف حيث لا توجد لا دور حضانة ولا تحضيري لهؤلاء فيزجون زجاً في الصف الأول، دون مقدمات مما يسبب في توتر التلاميذ من الوجهة النفسية ويحجم الكثير منهم الذهاب إلى المدرسة، ويحن إلى عوالم أسرته الهانئة، ويحتاج التلميذ وقتاً حتى يعلن يحقق الاندماج مع الأسرة الجديدة الأكبر والأوسع وهي المدرسة.
وهنا يأتي دور المعلم التربوي، دوره في تقريب وترغيب هذا العالم ” الغريب” إلى قلب الطفل، وإزكاء روح المحبة والتعاون والألفة بين التلاميذ، ومن ثم التدرج بهم لتهجي الحروف، والبداهة في الحساب والعلوم.
لكن ظروفاً تتدخل لتسد الطريق أمام المعلم لعل أهمها عدم الاستعداد النفسي للمعلم من ناحية التهيئة والتكوين التعليمي بالدرجة الأولى مضافاً إلى تلك تدخل بعض الظروف التي تسهم في فشل المعلم في النجاح بما أوكل إليه لتنفيذه، ومنها العدد الكبير للتلاميذ في الشعبة الواحدة، وهو ما من شانه أن يجعل عملية متابعة التلميذ صعبة للغاية، وتعاني معظم مدارس سورية من مشكلة حشر التلاميذ في الشعب مما يخلق جواً نفسياً معكراً لهم ولمعلمهم أيضاً، وتتدخل هنا الظروف ” المادية” غير المريحة للمعلم الذي يحتاج إلى توقد الذهن وصفائه ليبرع في العطاء، لكنا ما يحدث هو العكس، فالراتب لا يسد متطلبات الحياة الكثيرة، ليضطر المعلم للعمل إما في الدروس الخصوصية والعودة في ” نصاص الليالي” مهدود الحيل، ومن لم يسعفه الحظ ربما اشتغل في مهنة بعيدة عن اختصاصه كان يعمل ” شوفيراً على سيارة، أو حارساً ليلياً في شركة” خاصة جداً”
في منع الضرب:
قبل سنوات قررت وزارة التربية السورية منع الضرب نهائياً في جميع المدارس، باعتبار أن الضرب ليس وسيلة تربوية، ويترك أثراً سيئاً في نفسية الطفل على وجه الخصوص، وتحت طائلة عقوبات كبيرة، لكن ما تبدى لاحقاً أن الكثير من الطلاب ومن جميع المراحل استغلوا هذا الجانب، وأصبح المعلم في الصف بلا هيبة لا يستطيع أن يحل أي مشكلة خوفاً من العقوبات الصارمة، والكثير منهم – خاصة المعلمات – تعرض للضرب من قبل الطلاب والإهانة دون أن يستطيع الدفاع عن كرامته وشخصه.
للعلم أنه في بريطانيا يسمح بضرب التلاميذ غير المبرح بعد أن فشل قانون منع الضرب!!!!
منهاج حديث “جداً”
قرأت مرة أن المنهاج الذي يطبق الآن في المدارس السورية، طبق في أماكن أخرى، وأثبت فشله، وتم التخلي عنه، لكنه يطبق في مدارسنا، وهو حتى ينجح يحتاج إلى بيئة علمية غير بيئتنا فهو يتطلب كادراً تعليمياً متطوراً ومدرباً على مستوى عال، وضخم جداً، ويتطلب وسائل إيضاح، وصفوف نموذجية ومجموعات عمل منافسة ضمن الحصة الدرسية، وتأتي الوزارة لتضحك علينا وتقول إنها أهلت معلميها ومدرسيها على المنهاج الجديد، ويدخل المعلمون والمدرسون الصفوف دون ان يتذكروا حرفاً واحداً من مآثر وزارة التربية ودوراتها التي لا تزيد كثيراً عن العشرة أيام.
لذا ،ولأن المنهاج الجديد أخفق فيما يصبو إليه، نرى أعداد المدرسين الخصوصيين تزداد ، وتغزو حارات المدن وحتى أرياف سورية الفقيرة والمعوزة.
وبعد:
سنحتاج إلى صفاء ذهن الرصافي من جديد، سنحتاج للشعر والقصيدة فربما تنقذ جيلاً يتجه نحو العطالة والتشيؤ، جيلاً أصبح أي كائن في حقل تجارب ” وزارتنا ” العتيدة.
لكن يظل الطموح إننا سنعلن في كل مناسبة عن افتتاح مدرسة جديدة، وسنفرح بدخول طلبة جدد في سلك التعليم، حتى” نطاول في بنيانها زحلا” وسنضع يدنا على سبب التسريب الكبير الذي يحدث في مدارسنا، سنشخص العلة لنضع لها دواء.
ولكن أيضاً يظل الطموح لبناء الإنسان فهو أهم من كل عمارة خرساء صماء وباردة.
في بلادنا مدارس كثيرة، كما شأن كل بلد، ومن حقنا أن نتفاخر بتزايد تشييدها وبنائها كل عام في المناسبات الوطنية وغيرها، لكن رغم هذا التطور الأفقي والشاقولي في افتتاح مدارس جديدة، هل أعدنا العدة لبناء الإنسان، وهذا العنصر الأهم في معادلة مستقبل البلاد؟؟
معلمون ولكن؟
في بلاد العالم المتطورة والنزاعة نحو الرقي، هناك اهتمام جلي بالتعليم، والمعلمين بدرجة كبيرة، هناك لا يدخل سلك التعليم إلا صاحب السيرة العطرة، والحائز بالتأكيد على العلامات العالية، وهي مهنة تكرم صاحبها من جميع النواحي، ويعيش صاحبها في دعة عيش، بينما في بلادنا ورغم أنه لا يمكن إطلاق أحكام مطلقة إلا أن الكثير الكثير من الذين دخلوا سابقاً سلك التعليم كانوا من أصحاب العلامات المتواضعة، حيث لم تخوّلهم علاماتهم الدخول في فروع جيدة ” من ناحية الكسب المادي” فسجلوا في معاهد إعداد المعلمين التي تطلبت وقتذاك علامات قليلة ليتخرجوا بعد سنتين مفتقدين إلى أهلية التعليم من ناحية اكتساب المعارف والإعداد الجيد للتصدي لمهام وتنشئة جيل واع من كل النواحي، وتعمق هذا الإحساس لأن هذه المعاهد لم تخضع لمراقبة وزارة التربية بشكل مباشر، فحاجة المحافظات إلى كوادر من المعلمين جعلت الدولة تشيّد في كل محافظة معهداً، فكان النجاح والتخرج يسير وفق خط أوتوماتيكي، ولم نسمع أن فلاناً فصل من المعهد لاستنفاد سنوات الرسوب وغيرها.
ناقص الأخلاق مكتملا
ونأتي إلى المعادلة الثانية في لب العملية التربوية وهي التلميذ، فمن الناحية التربوية يدخل التلميذ إلى عالم مختلف شكلاً ومضموناً عن عالم أسرته الصغير، وينفصل عنه دون أن يكون جاهزاً – نفسياً على الأقل- لذلك الانفصال، ومن هنا تبرز أهمية التحضير للدخول في مرحلة الصف الأول الذي يتطلب أن يكون الطفل قد اعتاد حياة الجماعة والاندماج مع الأقران واللعب معهم وتقبلهم، لكن هذا لا يتحصل في مدارسنا وخاصة أبناء الريف حيث لا توجد لا دور حضانة ولا تحضيري لهؤلاء فيزجون زجاً في الصف الأول، دون مقدمات مما يسبب في توتر التلاميذ من الوجهة النفسية ويحجم الكثير منهم الذهاب إلى المدرسة، ويحن إلى عوالم أسرته الهانئة، ويحتاج التلميذ وقتاً حتى يعلن يحقق الاندماج مع الأسرة الجديدة الأكبر والأوسع وهي المدرسة.
وهنا يأتي دور المعلم التربوي، دوره في تقريب وترغيب هذا العالم ” الغريب” إلى قلب الطفل، وإزكاء روح المحبة والتعاون والألفة بين التلاميذ، ومن ثم التدرج بهم لتهجي الحروف، والبداهة في الحساب والعلوم.
لكن ظروفاً تتدخل لتسد الطريق أمام المعلم لعل أهمها عدم الاستعداد النفسي للمعلم من ناحية التهيئة والتكوين التعليمي بالدرجة الأولى مضافاً إلى تلك تدخل بعض الظروف التي تسهم في فشل المعلم في النجاح بما أوكل إليه لتنفيذه، ومنها العدد الكبير للتلاميذ في الشعبة الواحدة، وهو ما من شانه أن يجعل عملية متابعة التلميذ صعبة للغاية، وتعاني معظم مدارس سورية من مشكلة حشر التلاميذ في الشعب مما يخلق جواً نفسياً معكراً لهم ولمعلمهم أيضاً، وتتدخل هنا الظروف ” المادية” غير المريحة للمعلم الذي يحتاج إلى توقد الذهن وصفائه ليبرع في العطاء، لكنا ما يحدث هو العكس، فالراتب لا يسد متطلبات الحياة الكثيرة، ليضطر المعلم للعمل إما في الدروس الخصوصية والعودة في ” نصاص الليالي” مهدود الحيل، ومن لم يسعفه الحظ ربما اشتغل في مهنة بعيدة عن اختصاصه كان يعمل ” شوفيراً على سيارة، أو حارساً ليلياً في شركة” خاصة جداً”
في منع الضرب:
قبل سنوات قررت وزارة التربية السورية منع الضرب نهائياً في جميع المدارس، باعتبار أن الضرب ليس وسيلة تربوية، ويترك أثراً سيئاً في نفسية الطفل على وجه الخصوص، وتحت طائلة عقوبات كبيرة، لكن ما تبدى لاحقاً أن الكثير من الطلاب ومن جميع المراحل استغلوا هذا الجانب، وأصبح المعلم في الصف بلا هيبة لا يستطيع أن يحل أي مشكلة خوفاً من العقوبات الصارمة، والكثير منهم – خاصة المعلمات – تعرض للضرب من قبل الطلاب والإهانة دون أن يستطيع الدفاع عن كرامته وشخصه.
للعلم أنه في بريطانيا يسمح بضرب التلاميذ غير المبرح بعد أن فشل قانون منع الضرب!!!!
منهاج حديث “جداً”
قرأت مرة أن المنهاج الذي يطبق الآن في المدارس السورية، طبق في أماكن أخرى، وأثبت فشله، وتم التخلي عنه، لكنه يطبق في مدارسنا، وهو حتى ينجح يحتاج إلى بيئة علمية غير بيئتنا فهو يتطلب كادراً تعليمياً متطوراً ومدرباً على مستوى عال، وضخم جداً، ويتطلب وسائل إيضاح، وصفوف نموذجية ومجموعات عمل منافسة ضمن الحصة الدرسية، وتأتي الوزارة لتضحك علينا وتقول إنها أهلت معلميها ومدرسيها على المنهاج الجديد، ويدخل المعلمون والمدرسون الصفوف دون ان يتذكروا حرفاً واحداً من مآثر وزارة التربية ودوراتها التي لا تزيد كثيراً عن العشرة أيام.
لذا ،ولأن المنهاج الجديد أخفق فيما يصبو إليه، نرى أعداد المدرسين الخصوصيين تزداد ، وتغزو حارات المدن وحتى أرياف سورية الفقيرة والمعوزة.
وبعد:
سنحتاج إلى صفاء ذهن الرصافي من جديد، سنحتاج للشعر والقصيدة فربما تنقذ جيلاً يتجه نحو العطالة والتشيؤ، جيلاً أصبح أي كائن في حقل تجارب ” وزارتنا ” العتيدة.
لكن يظل الطموح إننا سنعلن في كل مناسبة عن افتتاح مدرسة جديدة، وسنفرح بدخول طلبة جدد في سلك التعليم، حتى” نطاول في بنيانها زحلا” وسنضع يدنا على سبب التسريب الكبير الذي يحدث في مدارسنا، سنشخص العلة لنضع لها دواء.
ولكن أيضاً يظل الطموح لبناء الإنسان فهو أهم من كل عمارة خرساء صماء وباردة.