قراءة العتمة

  عبداللطيف الحسيني 

ظنّ الكثيرُ منّا أنّ العتمة التي عانى منها المرءُ طوالَ عقودٍ قد زالتْ بعدَ أنْ تراكمتْ واستفحلتْ و تأزّمتْ نتيجة أنْ لا تأويلَ إلا تأويلٌ أحاديُّ الفعل قبل القول, فطبيعيٌّ – تالياً- أنّ التخلّصَ منه سيكون سهلاً لأنّ ثمّة  أخلاقيّات محمودة خلقها الواقعُ المرُّ, هكذا ظنّ الظانّون أنّ العتمة التي تقول جبروتها الآن تختلفُ وسائلُها و تتفاقم , فهي ليست الغشاوة التي يمكنُ إزالتُها بسهولة بل هي العتمةُ وقد غطّتْ العيون , بالأدق سجنتها بحيث لم تعد تسمع , وإنْ سمعت فعلى الأقل بتتفيهه وتحقيره , وعلى الأكثر بتمييعه (وقد كثرت الصفة هذه) و تقليل شأنه , وكأننا نعيشُ قبل عقود وكأنّ سنة كاملة لم تمرّ من عمر تسونامينا ولم نحمل نارها بأيدينا المرتجفة , وكأننا لم نحترق بها .
مَنْ غاب عنه أذكّرُه بأنّ تغيير مسارنا يأتي لوأد ما بدأناه ساعةً فشهراً حتى أكملنا سنة وُلِدَ خلالها جيلٌ تعلّمَ النقدَ وجاء ليمارسَه علناً لا اغتياباً , ولن يستطيع أيُّ أحدٍ إنكاره ولو مبطّناً مهما وضعَ أمام عينيه عتمات تعنيه وحدَه دونَ سواه , ذاك الذي أقصدُه يبتكرُ بخبثه الفاضح طرقاً ملتوية ليضعنا أمامَ أمرٍ يظنُّه واقعاً لنفكّر – مجدّداً – طبقيّاً.
ليسَ سرّاً مباحاً القولُ بأنني وكثيرون من أصدقائي ذو فكر يساريّ , حين كان ذاك اليسارُ محظوراً , كدنا – كدتُ أنْ أنسى بأنّ المدينة مدينتان , حيث المدينةُ التي تهمّني ازدادتْ فقراً وقحطاً وأكثرَ عتمة من ذي قبل , ولستُ مبالغاً إنْ قلتُ إنّ المدينة التي تهمّني أصبحتْ كائناتُها لا تسمعُ ولا تَرى (ولا تُرَى) ولا تنبض , دليلاً عليه , أمّا كان يُقالُ : إنّ السمع والبصروالفؤاد كان عنه مسؤولا ؟, إذن فليتحمّل المعنيُّ بالأمر المسؤوليّة مزدوجةً , و لو أني أعلمُ أنّه تهرّبَ منها حين كانتْ مفردةً , فكيف به سيواجهها وهي مزدوجةً ؟
سؤالٌ برسم الإجابة عليه من قِبل مَنْ نمّرَ وقوّى جهةً معلومةً , و مِنْ ثّمَّ استقوى بتلك الجهة على إنساننا الأكثر فقراً و تهميشاً و سحقاً .
يا حسرةً على العباد .
يا حسرة على العباد .
alhusseini66@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…