ولا أتوب عن اعتناق الحب
عن سماء تنأى
عن حلم
كل سدنة الغيهب
لا يفتأون يطاردونه؟
ولعلّ القارئ يدرك من القراءة الأولى عمق تجربتها الإبداعية، ولغتها الجزلة والمتينة، الزاخرة بالصور الشعرية المبتكرة والخيال الخصيب الذي يخترق جدران السجن، ليحلّق في الفضاء الفسيح، معلناً عن آلامها وأحلامها. ففي قصيدة «لا حجل يقف على أسوار وحدتنا»، يظهر من العنوان، ان اسيا، تتحدّث بضمير الجماعة (نحن) في وصف حالة التغييب التي تعاني منها السجينات، فلا حرية تلوح في الأفق، ولا نهاية لهذه الوحدة _ الألم. كان بإمكانها ان تقول: «لا حجل يقف على أسوار وحدتي». فهي تتعاطى مع حالة الأسر، كحالة جماعية وليست فردية، وان جدران السجن هي من العلوّ، وأن السجن هي من الظلم والعتمة، بحيث حتى الحجل لا يقف على اسواره. ويظهر في القصيدة انه رغم اشتداد حالة القهر واليأس عليها، إلاّ انه لا مناص من دعوة فارسها المخلّص لانقاذها والتحليق بها في سموات الحرية. فهاهي تبوح في الصفحة 16 من مجموعتها بالقول:
تغمرنا الشمس بطرف نظرتها الناعسة
والأقفال
تحكم الحصار على أرقي
نصل الضجر يشطر سكينتي
أنين خافت يتصاعد من مساماتي
ونأيي عن مساءاتكم يكثفني
تعال نمضي الليلة أيضا معاً
خلف غيم الأفق
فروحي تفيض عن هذا المكان
وأحتاج سماء أوسع من فوهة
وفضاء خالياً من الأسلاك الشائكة.
وكأنّ فارسها، كان يزورها في زنزانتها يومياً. وهي تدعوه الى تكرار ذلك. فهو الذي يفكّ اسر خيالها وجسدها وروحها، حين كانت محاطة بالجدران والاقفال وتحت رحمة اقبية الظلم. فروحها الفائضة عن المكان، تعاف الحدود واسلاكها الشائكة. وتريد فضاءً آخر، غير هذا الفضاء الذي غدا هو ايضاً مليئاً بالحدود والاسلاك. ربما يكون الفضاء الذي تتوق اليه خليل، هو فضاء الخلاص، فضاء الفناء في الحب الابدي. وحين تقول؛ انها بحاجة لسماء أوسع من فوّهة، فهي تعبر عن حجم الضيق الذي كانت تعانيه، حين كانت ترى السماء من فسحة ضيّقة، هي كوة صغيرة تنوب عن النافذة.
تحاول آسيا خليل التعبير عن ذاتها مع كل قصيدة، لتخبرنا انها ها هنا موجودة، وإن كانت مغيّبة. فهي واثقة من بقائها، رغم كل انواع الغدر الفردي والجماعي. وإن جذورها ممتدة في الأرض، لا يطالها الزمن. فتقول في قصيدة «وحدك في المهب» (الصفحة 8):
لي في الأعالي زهرة
يصعد لها البابلي أدراج الهيام
لي صولجان الماد والكمنجات التي
تتلوني كلما افتتح الجلنار خابية الحنين
لي رعشة التيه في شفتيك
كلما شهق كحل في اللواحظ
إلي
إليّ…
نفكّ الأحاجي عن غدنا.
تؤكد خليل على جذورها الممتدة في التاريخ والجغرافيا، حين تتحدّث عن كونها خلاصة محنة شعوب المنطقة، وتشير الى ممتلكاتها ومدّخراتها: زهرة في الاعالي، يصعد اليها البابلي ادراج الهيام. وصولجان الماد (اجداد الكرد)، ولها الكمنجات التي تتلوها، ورعشة التيه على شفتي حبيبها، وهي تدعوه اليها كي يفكّا معاً احاجي غدهما المشترك. انها تمتلك من القوّة، قوّة الجمال والروح والخيال، بما يجعلها تتغلّب على الأسر والجور اللاحق بها.
وتستعير خليل من كبير الشعراء المتصوفة الكرد (ملاي جزيري) عنوان قصيدته «صباح الخير يا خانم»، لتجعلها عنوان قصيدةٍ في مجموعتها، موضوع هذه القراءة، متقمّصةً دور حبيبة جزيري (سلوى)، وتخاطبه في ما يشبه مطارحة شعرية، تردّ فيها على قصيدته تلك، بعد مضي نحو خمسئة سنة على كتابتها، في حالة من التماهي مع سلوى. ذلك ان الجزيري، عاش سجن العشق الإلهي الأزلي، بينما عاشت آسيا خليل السجن السياسي، وتعيش الآن سجنها الانساني. وفي سياق قصيدتها، تخبر الجزيري عن أحوال الكورد وكوردستانهم، إذ تقول في النص، الصفحة 70:
خوفي أن يخدشني الحنين وجرحي لما يلتئم من لسعة الافعى في قلعة دمدم.
وأنا أرقّ من أن أتحمّل كل هذا الحزن.
تخاطب حبيبها (الجزيري) على انها سلوى، وتبثّ شوقها وحنينها، كعاشقة تقاسي البعد والانتظار فتقول في الصفحة 76:
أنا رمل الوقت في انتظارك المسفوح
على نصل الغياب وأنا الواحة المشتهاة
والبيلسان
أملأ رئة ايامك بعبيري
وضفائري…
مدهونة بزهر الأقحوان
انثرها موجاً على زندك.
وبذلك، تصف الحبيبة نفسها لحبيبها، كي تبثّ فيه رغبة الاقتحام وتخليصها من اغلال الاسر، والسجن.
ورغم نضوج تجربة آسيا خليل الشعرية، إلاّ أن هذه المجموعة هي باكورة نتاجها المطبوع، عدا بعض القصائد المنشورة في بعض المواقع الالكترونية. ولا شك أن تجربة الاعتقال كانت السبب في تأخّرها عن النشر. فآسيا خليل هي الشاعرة والناشطة السياسية الكردية الاولى التي افتتحت دفتر الكرديات السوريات في سجون النظام السوري، باعتبارها المرأة الكرديّة السوريّة الأولى التي جرّبت مرارة السجن والاعتقال السياسي طيلة سنين. تقيم في مدينة ديريك الكردية السورية، وما زالت تمارس الشعر والقلق والحزن وهي تراقب انبلاج الوطن من رحم الثورة الشعبية العارمة.
[المجموعة صدرت عن «دار الغاوون» في 80 صفحة، 2011.
عن جريدة المستقبل اللبنانية