قبل سنوات خلت حينما كان الفقر يقتات من أجساد الفلاحين ومرض الملاريا الذي سحق أعدادا منهم وحتى الدنيا بشكلها الكبير كانت فاتحة اللون لاتسع أن ترى فيها سوى ضوء ابيض يمتد مع الاصفرار إلى مالا نهاية.
– أبو أزاد…ابوازاد.
كانت أنفاسه تتقطع ويلهث محمر الوجه من الفزع الذي أصابه ويخرج الكلمة من جوف حلقه متكسرا:
-أبو…از..اد…ابتلع ريقه ليعيد الديمومة إلى لسانه الذي جف من الرعب وهو يؤشر ناحية الجنوب،انه سرب من الجراد..بل جيش من الجراد يجتاح الحقول ويسحق ما أمامه.
فغر فاهه عن استغراب حائر اجتاحه الخوف وتشرد ذهنه وزاغت عينه وهو يرنو نحو حقل القمح الذي يمتد إلى مساحة لا متناهية بحيث تختفي الأنظار عن رؤية نهايته وسنابل القمح قد امتلأت ببذورها وسمنت من كبرها.
صدرت عنه صرخة مكتومة (اللعنة…أن..)لم يستطيع أن يكمل عبارته وهو يشاهد غيوم صفراء تزحف في السماء لتغطي الأرض وتخفي الشمس من خلفها وتنبسط كالمظلة على الحقل وتختفي زرقة الجو إلى اصفرار غامق كأن التراب قد أنقشع من على سطح الكوكب ليملي الكون بفضائه المرعب إلا انه لم يكن من التراب كانت حشرات تتطاير لتشكل سحب كالموج تنزل على الأرض وتصعد وثم تنقض للأسفل …تسمر والده وجف الدم في عروقه واستحال الى صنم لا يفقه غير الانبهار للمنظر الفاجع الذي إمامه…انتزع قدميه المتصلبة من على الأرض واطلق العنان نحو البيت ليحضر معه ملعقة واناء كبير.لم يفهم أزاد ماذا يفعل والده بقى مكتوف الأيدي مبهورا يحدق في المشهد الجهنمي لحظة اقترابه من نقطة الانفلاق كالمعتوه منقطع الأمل اخذ يهرول فزعا نحو حقله يطرق الاناء بكل قوة مصدرا صخبا عارما” ويصيح بأعلى صوته نحو السماء مستغيثا كأنه يحاول متشبثا بأخر خيط أمل بأن يبتعدوا من قمحه اجتاح الجراد كالبساط على المزرعة وكالمنجل أخذ يسحق السنابل سحقا واختفى والد أزاد في لجة الحشرات وتلاشى عن الأنظار ليمتلئ جسده بالجراد الأصفر والأسود….تملك الخوف قلب الطفل الذي وقف مشدوها للمنظر وأحس بالرعب يجتاح سماءه شاهد الفلاحين المنتشرين في المزارع المجاورة يرمون بما في أيديهم هلعا ويهرعون إلى منازلهم ليختبئوا من الشبح الأصفر واستكان الناس في بيوتهم وأغلقوا كل المنافذ من الأبواب والشبابيك ليمنعوا من هجومه إلى الداخل بعد ان غطى الجدران الخارجية بشكل كامل والتحموا بعضهم ببعض ككتلة واحدة تهاب الموت الذي يزحف نحوهم بوحشية اعتزل الجميع في ثكناتهم كأن الدنيا قد أنقلبت على عقبها وإنها نهاية العالم لا محال.
اشتدد غضب أزاد لهول المنظر الفاجع ونسى بيته الطيني .كان عليه أن يقتلهم وان يمنعهم من دخول بيتهم وحقلهم وحين شاهد ما أل إليه والده لم يحتمل المشهد كان بالقرب منه قطعة من خشب طويل احضره ليعمل به سقف منزله الطيني حمله بكلتا يديه وكالمتهور اخذ يضرب العود في الهواء ليقاتل الجراد الذي أنسال على جسمه ووجهه،أطلق العنان ليده ما استطاع من قوة ليضربهم بشدة ويوقع إعداد هائلة تحت قدميه ليسحقها واستمر في حركاته العبثية ويلتفت يمينا” ويسارا حوله والجراد يحيطه بشكل عشوائي وهو يحاول أن يستهدفهم بدقة استمرت تلك الحالة لفترة وجيزة إلى أن تلاشى الغيم وانقشع عن الأنظار واختفى خلف البيت ثم استمر في التحليق والقفز إلى الجبال وهناك من بعيد اختفى خلف القمة.
خارت قواه وأدركه الإعياء،حينما التف إلى أمامه أرتابته الصاعقة واغرورقت عينه بالدموع حينما شاهد والده واقعا على الأرض يشد بشعر رأسه الأشعث وهو يحملق في حقله الواسع الذي استحال إلى قشا” منثور وتلك السنابل الطويلة غدت أرضا جرداء صافية لا ترتفع منها أنملة.
أحس بقدميه قد التصقتا بالأرض ولا يقوى على رفعهما كان البيت الطيني الذي بناه سابقا” قد دمره تحت قدميه إلى هيكل هلامي.