فصل من رواية (ارض على قرني ثور)

  هونر كريم

  قبل سنوات خلت حينما كان الفقر يقتات من أجساد الفلاحين ومرض الملاريا الذي سحق أعدادا منهم وحتى الدنيا بشكلها الكبير كانت فاتحة اللون لاتسع أن ترى فيها سوى ضوء ابيض يمتد مع الاصفرار إلى مالا نهاية.

    كان بين أنامل يدي ازاد الصغيرتين كتلة من الطين يعجنه بنعومة ويسطحه بكفيه ليجعل منه جدرانا بشكل مربعات ثم يضع عليها أخشاب متناثرة على طول المساحة فيبني كوخا” صغيرا” من الطين كانت هوايته المفضلة حينما كان في السادسة من عمره اللعب بالتراب والطين وبعض الأحيان يقوم بصنع أواني وحيوانات غريبة الأشكال لم يكن لها وجود في الكون ذات أقدام متعددة ورءوس بدون أعناق ويضعها جانبا تحت أشعة الشمس الحارقة ويبقى سارحا فيها ويحميها حتى تجف ثم يضعها فوق الكوة المستطيلة مصنوعة بين غرفتين للتهوية.
    كان كوخهم الصغير المصنوع من أعواد القصب داخل مزرعتهم يربو على تل واسع يمتد من تحته إلى الحقول الصفراء في أشهر الصيف،يومها كان يعمل في صناعة بيته الصغير,احضر مجموعة من العيدان الطويلة مع أن الجو ذلك اليوم كان صافيا لا غبار فيه ألا انه أحس بنفحة هواء غريبة تحمل رائحة نتنة تأتي من الجنوب من بين سنابل القمح التي تتمايل مع هبوب الريح كأمواج البحر يتلاطم سطحها الشاسع وتهب كالحرير الناعم وتصدر صوتا أسطوريا هادئا”….تخلل ذلك الهدير صوت مشي وتكسر السيقان تحت الأقدام ليترأى من البعيد رأس رجل أصلع يتقافز كفقاعة بالون من بين المحصول ويظهر فجأة ويختفي وفي يديه سلة من بذور الطماطم تتساقط من خلفه دون أن يهتم بها وهو يطلق قدميه للهواء بأقصى سرعته كأن غولا وحشيا” يلاحقه ليمسك به وينهشه.من بعيد نادى بأعلى صوته المزمجر:

– أبو أزاد…ابوازاد.
     كانت أنفاسه تتقطع ويلهث محمر الوجه من الفزع الذي أصابه ويخرج الكلمة من جوف حلقه متكسرا:
-أبو…از..اد…ابتلع ريقه ليعيد الديمومة إلى لسانه الذي جف من الرعب  وهو يؤشر ناحية الجنوب،انه سرب من الجراد..بل جيش من الجراد يجتاح الحقول ويسحق ما أمامه.
    فغر فاهه عن استغراب حائر اجتاحه الخوف وتشرد ذهنه وزاغت عينه وهو يرنو نحو حقل القمح الذي يمتد إلى مساحة لا متناهية بحيث تختفي الأنظار عن رؤية نهايته وسنابل القمح قد امتلأت ببذورها وسمنت من كبرها.
    صدرت عنه صرخة مكتومة (اللعنة…أن..)لم يستطيع أن يكمل عبارته وهو يشاهد غيوم صفراء تزحف في السماء لتغطي الأرض وتخفي الشمس من خلفها وتنبسط كالمظلة على الحقل وتختفي زرقة الجو إلى اصفرار غامق كأن التراب قد أنقشع من على سطح الكوكب ليملي الكون بفضائه المرعب إلا انه لم يكن من التراب كانت حشرات تتطاير لتشكل سحب كالموج تنزل على الأرض وتصعد وثم تنقض للأسفل …تسمر والده وجف الدم في عروقه واستحال الى صنم لا يفقه غير الانبهار للمنظر الفاجع الذي إمامه…انتزع قدميه المتصلبة من على الأرض واطلق العنان نحو البيت ليحضر معه ملعقة واناء كبير.لم يفهم أزاد ماذا يفعل والده بقى مكتوف الأيدي مبهورا يحدق في المشهد الجهنمي لحظة اقترابه من نقطة الانفلاق كالمعتوه منقطع الأمل اخذ يهرول فزعا نحو حقله يطرق الاناء بكل قوة مصدرا صخبا عارما” ويصيح بأعلى صوته نحو السماء مستغيثا كأنه يحاول متشبثا بأخر خيط أمل بأن يبتعدوا من قمحه اجتاح الجراد كالبساط على المزرعة وكالمنجل أخذ يسحق السنابل سحقا واختفى والد أزاد في لجة الحشرات وتلاشى عن الأنظار ليمتلئ جسده بالجراد الأصفر والأسود….تملك الخوف قلب الطفل الذي وقف مشدوها للمنظر وأحس بالرعب يجتاح سماءه شاهد الفلاحين المنتشرين في المزارع المجاورة يرمون بما في أيديهم هلعا ويهرعون إلى منازلهم ليختبئوا من الشبح الأصفر واستكان الناس في بيوتهم وأغلقوا كل المنافذ من الأبواب والشبابيك ليمنعوا من هجومه إلى الداخل بعد ان غطى الجدران الخارجية بشكل كامل والتحموا بعضهم ببعض ككتلة واحدة تهاب الموت الذي يزحف نحوهم بوحشية اعتزل الجميع في ثكناتهم كأن الدنيا قد أنقلبت على عقبها وإنها نهاية العالم لا محال.
    اشتدد غضب أزاد لهول المنظر الفاجع ونسى بيته الطيني .كان عليه أن يقتلهم وان يمنعهم من دخول بيتهم وحقلهم وحين شاهد ما أل إليه والده لم يحتمل المشهد كان بالقرب منه قطعة من خشب طويل احضره ليعمل به سقف منزله الطيني حمله بكلتا يديه وكالمتهور اخذ يضرب العود في الهواء ليقاتل الجراد الذي أنسال على جسمه ووجهه،أطلق العنان ليده ما استطاع من قوة ليضربهم بشدة ويوقع إعداد هائلة تحت قدميه ليسحقها واستمر في حركاته العبثية ويلتفت يمينا” ويسارا حوله والجراد يحيطه بشكل عشوائي وهو يحاول أن يستهدفهم بدقة استمرت تلك الحالة لفترة وجيزة إلى أن تلاشى الغيم وانقشع عن الأنظار واختفى خلف البيت ثم استمر في التحليق والقفز إلى الجبال وهناك من بعيد اختفى خلف القمة.
    خارت قواه وأدركه الإعياء،حينما التف إلى أمامه أرتابته الصاعقة واغرورقت عينه بالدموع حينما شاهد والده واقعا على الأرض يشد بشعر رأسه الأشعث وهو يحملق في حقله الواسع الذي استحال إلى قشا” منثور وتلك السنابل الطويلة غدت أرضا جرداء صافية لا ترتفع منها أنملة.
    أحس بقدميه قد التصقتا بالأرض ولا يقوى على رفعهما كان البيت الطيني الذي بناه سابقا” قد دمره تحت قدميه إلى هيكل هلامي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…