«اللغة الفصحى» مصطلح الأقوياء في مواجهة «اللهجة».

عامر خ. مراد
amer.x.mourad@gmail.com

بدأ الحديث عن الفرق بين اللغة الفصحى واللهجة منذ زمن بعيد, ووصل الأمر بنا في الوقت الراهن إلى ما يشبه التسليم بحقائق تبدو لي وإلى حد بعيد غير دقيقة وبحاجة لمسلمات أخرى تحل محلها, فلن يكون سؤالي هنا هو هل بالإمكان إعادة صياغة نقاط الاختلاف بين المصطلحين والتمييز بينهما ؟ بل سيكون في مدى قدرة أحد المصطلحين على إزالة الآخر من القاموس اللغوي بصفته اسما ومصطلحا له شخصيته وإضافته إلى قائمة العلاقة الطبيعية بين الصفة والموصوف, وهذا ما سأقدم فيه أولى محاولاتي في الحديث فيه فيما يلي من عرض علنا نصل إلى الحقيقة.
وهنا سأبدأ بمسلمة القاموس المعاصر والذي يبين أن اللهجة ما هي إلا جزء من اللغة الفصحى أي علاقة العام بالخاص وبمعنى أدق أن هناك لغة فصحى لكل شعب ولكل شعب جملة من اللهجات التي تتحدث بها فئات منه تختلف في أمور معينة نتيجة ظروف جغرافية طبيعية وغيرها من العوامل ولكنني لن أنتهي بالتسليم بها بل سأضع فرضية أخرى أؤمن بها وأعتقد بأن هذه المسلمة كانت جانية  ومجحفة بحق أحد الأسماء الواردة فيها وهو ” اللهجة ” وفرضيتي تتضمن الحديث عن طرفي المسلمة ” اللغة الفصحى ” و اللهجة :
 ولنبدأ من السطور الأولى بالقول بأن اللغة كما يقول ابن جني في كتابه” الخصائص:” وحد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم” هي عبارة عن جملة من العلاقات اللفظية التي يتفاهم عبرها الناس بين بعضهم البعض وأن هذه العلاقات تختلف بين فئة وأخرى نتيجة جملة عوامل أهملها العامل الجغرافي – الطبيعي ومع مرور الزمن ونتيجة لشيء من التباعد بين هذه الفئات نتجت بعض الاختلافات مما أدى إلى تواجد ما نسميه اليوم باللهجات والتي حاول المتحدثون بها التفاهم مم أدى إلى غلبة لهجة على أخرى ونشوء ما تم تسميته باللغة الفصحى وهنا بدأ الخلط بين اللغة الأصل ومن ثم اللهجات ومن ثم غلبة لهجة على الأخريات نتيجة عوامل عدة منها الزيادة العددية والقدرة الاقتصادية والعسكرية وغيرها من عوامل القوة لدى أصحاب هذه اللهجة دون أصحاب اللهجات الأخرى التي تم وأدها وهي حية وظهر للسطح ما قلنا عنه بأنه اللغة الفصحى فكما يقول الدكتور علاء إسماعيل الحمزاوي (أستاذ العلوم اللغوية المساعد بكلية الآداب جامعة المنيا – مصر) :” في هذا المبحث نعرض لمجموعة من القواعد النحوية أسهمت اللهجات العربية في شهرة بعضها وذيوعها لكثرة الاستعمال، في حين بقي بعضها أقل شهرة أو دون شهرة ” ويضيف في معرض كتابه ” دور اللهجة في التقعيد النحوي, دراسة إحصائية تحليلية في ضوء همع الهوامع للسيوطي أنه :” وبإضافة كل ما تردَّدَ على لسان السيوطي من لهجات عربية بعضها إلى بعض نجد أن جملة اللهجات العربية التي أثْرَتِ القواعد النحوية تنوّعاً وتعدّداً ـ ربما في الظاهرة النحوية الواحدة ـ بلغت ثلاثا وخمسين ومائة لهجة ” وهذا ما يؤكد بأن ما نسميه الفصحى ما هو إلا لهجة واحدة خالطتها كلمات من لهجات أخرى نتيجة مقاومتها وقدرة مفرداتها على العيش والصمود أمام كلمات اللهجة المسيطرة.
 فاللغة الفصحى هي عبارة عن مصطلح خاطئ جملة وتفصيلا لأن ما سميناه لغة هنا ليس إلا لهجة من عدة لهجات ومن ثم فإنه لا توجد لهجة أفصح من لهجة أخرى ومع ذلك بدأنا بوصف اللهجة الغالبة على السطح باللغة و بالفصحى وكأنها فقط الفصيحة دون غيرها وكأن الناس من أبناء باقي اللهجات غير قادرون على التفاهم بين بعضهم البعض جيدا حتى تحولت كلمة الفصحى وهي عبارة عن صفة إلى اسم وهنا بدأ الخلط الأكبر لأن هذه العملية أوجدت مصطلحا غير دقيق.
 وإذا أكد البعض بأن الغرض من الفصحى هو تبيان أنها توحد عملية الفهم بين أبناء عدة لهجات فهذا جوابه بأنه لا مانع من ذلك ولكن بشرطين :
 أولهما : عدم إهانة اللهجات الأخرى بوضع صفة الفصحى أمام تلك اللهجة الناشئة .
 وثانيهما : هو تغيير أو استبدال هذه الصفة بصفة أخرى تستخدمها بعض الشعوب الأخرى ومنهم الشعب الفرنسي والذي يسمي تلك اللهجة التي تجمع بين الفرنسيين باللسان المسند (المدعوم La langue soutenue) وهو مدعوم من جهتين :
 أولى هذه الجهات هي جهة القوة الاقتصادية الاجتماعية التي تقف وراء هذه اللهجة الباريسية التي تجمع بيدها كل عناصر القوة على عكس باقي اللهجات الفرنسية الأخرى .
 والجهة الثانية هي جملة اللهجات الفرنسية الأخرى والتي ترفد هذه اللهجة الباريسية بمفردات لا حصر لها .
 وهذا كان حال لهجة قريش عند العرب حيث طغت هذه اللهجة على عشرات اللهجات العربية التي كانت موجودة في تلك الحقبة عبر قوة وسلطة قريش ومن ثم رفد هذه اللهجة بمفردات من لهجات محلية قريبة وحتى من لهجات أخرى بعيدة جغرافيا ولكن قريبة تجاريا وثقافيا وكان القرآن هو الباني لهذه العملية حين ثبت هذه اللهجة في طياته وأضفى عليها صفة القدسية التي حمتها من الزوال, ولم يذكر القرآن الكريم نفسه بأن هناك لغة فصحى بل ذكر بأن القرآن الكريم قد نزل بلسان عربي مبين ومبين ما هي إلا ” صفة ” للقرآن الكريم حينا كما في بعض الآيات من مثيل ما جاء في سورة الدخان ( آية 2) ” والكتاب المبين ” وفي سورة يوسف (آية 1) ” الر تلك آيات الكتاب المبين ” وهي صفة تلخص جملة كلمات متتالية كما جاء في سورة الكهف ( آية 1)” الحمد لله الذي انزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ” وحين ذكرت في القرآن صفة العربي وأضيفت على لهجة القرآن الكريم وأردفت بصفة مبين فهذا دلالة على أنه يبين الحق من الباطل وأنه واضح لدى العرب فلقد ذكر القرآن الكريم بأن الله أنزل على كل قوم رسولا من لسانهم واللسان هو بديل كلمة اللهجة وكانت مستخدمة عند العرب القدامى والآيات التالية تبين ما ذكرناه :
إبراهيم 4 ” وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم “
فصلت 3 “كتاب فصلت آياته قرانا عربيا لقوم يعلمون “
الأحقاف 12 ” ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ”
يوسف 2 ” إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون “
ولم تقتصر صفة مبين على القرآن بل انسحبت على الرسل أنفسهم فنجد الآية التالية :
المائدة 18 “يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير ” .

ويرى علم اللغة أنه لا فرق بين لغة و لهجة, فكل لهجة هي لغة قائمة بذاتها بنظامها الصوتي, و بصرفها, و بنحوها, و بتركيبها, و بمقدرتها على التعبير, و يرى البعض أن اللغة هي التي تغاير لغة أخرى بأصواتها و بمفرداتها, وبتراكيبها مغايرة لا يستطيع معها أن يتفاهم شعب مع آخر وهنا يجب التأكيد, وعطفا على ما سبق مما يراه علم اللغة, بأن المسافة الجغرافية والحدود هي التي تزيد من التغاير بين لهجة وأخرى لدرجة الاختلاف الكامل فاللهجات الرومانية أي:الإيطالية, و الفرنسية, و الأسبانية؛ تسمى لغات لا لهجات, و هي في الواقع التاريخي لهجاتٌ لاتينية, كذلك العربية و العبرية و السريانية و الحبشية فإنها لغات في نظرنا إليها, ولكن التاريخ ينظر إليها باعتبارها لهجات انحدرت من أم واحدة وعلى ضوء ما سبق يجب التأكيد بأنه ليس في العالم  بأسره إلا لغة واحدة وهي عبارة عن لغة منقرضة منذ بداية لجوء الناس إلى التفاهم عبر اللفظ ومن ثم الابتعاد عن بعضهم البعض جغرافيا وكل ما هو موجود ما هو إلا لهجات يسيطر بعضها على بعض بين الحين والآخر لتنتج لهجات خليط يسميها القوي باللغات الفصحى .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…