حبيبتي الغالية!
انقلاب ربيعي حدث في حياتنا منذ منتصف أذار من العام الماضي يفوق الخيال، فمعاناتنا وشكوانا وأمانينا التي ما كنا نجرؤ على التفوه بها أيام زمان، أصبحت اليوم على كل لسان وشفة، يجهر بها الصغار والكبار في الشوارع والساحات، يطلقونها شعارات ومطالب ودعوات، راجين الله أن ينصرهم على من أحالهم إلى أجساد بلا أرواح، مسوخ ودمى، بلا خشية من أذن حائط يمكن أن تلتقط أصواتهم، أو عين كلب تترصد حركاتهم، في هذا الوقت بالذات، بل ومنذ الأيام الأولى لهذا الانقلاب، الربيعي الحياتي التاريخي، بدأت تنهضين أمام ناظري، هكذا فجأة، بكامل روحك وبدر وجهك وألق نظراتك، دون سابق استحضار أو تفكير، ووجدتني، والناس على جمر، وسماؤهم على عَمَد شاهق الطول، أبوح لك بحبي، ذلك الحب الكبير الذي بقي طيَّ القلب والروح زمناً أطول من قرن، ليس لعيب في نطقي و لا لعيّ في لساني، بل لأسباب يطول شرحها، نهض حبك الغافي في قلبي وردة لكل الفصول، ونشر عطره في جنبات الروح، فاستيقظت كل جوارحي وارتوت بعد يباس طويل، مضت أيام وتوالت شهور وأنا موزع بين الإقدام على ما عزمت عليه من الكتابة إليك والاحجام عن ذلك ولسان حالي يقول: لا بد أن يكون ردها: صح النوم أيها العاشق، هل كان قلبك سادس أهل الكهف ؟ أم بُعِث للتو من رماد حب مضى؟ وقد تقولين كلاماً أشد سخرية من هذا الكلام، ولكِ في كل ما ستقولينه من عتب أو سخرية أو استهجان.. الحق كل الحق،، ولكن ماذا أفعل أيتها الحبيبة، وفاكهة القلب التي احتفظت بها من أجلك في سلال من قصب الروح ما زالت ناضجة شهية، تنتظر بفارغ الصبر فرصة لتقديمها لك إيفاء لدّين قديم مازال القلب يسدد فوائده المتراكمة نبضات وحرارة وعمراً، واليوم، وحين أصبحت فرصة إيفائه مواتية، عادت تلك الأيدي التي فصلت تيار الحب الموصول بيننا في زمن مضى، إلى فصل التيار الكهربائي بشكل متكرر واستفزازي، ولك أن تتخيلي يا حبيبتي، يا من كنت الحبيبة، ماذا يعني فصل التيار الكهربائي لساعات طويلة وبشكل متقطع، ليس على السهرات والمكيفات والبرادات والطرقات فحسب، بل على الانترنت، وسيلة تواصلنا الوحيدة مع الآخرين، وتواصلي المأمول معك، خارج هذا الجحيم، فسحة من بوح والتقاط أنفاس، هكذا كانوا، وهكذا هم الآن، يقطعون كل شيء حيّ: أواصر الحب وأسباب الرزق وأوصال الأطفال وحناجر المغنين. ستقولين عني وأنت تقرئين هذه الكلمات: أنت نزق بالأساس، وتستنفر لأقل ظاهرة لا تعجبك. نعم هذا أنا، وأعرف طبعي جيداً، ولا أنكر ما يتصف به من نزق، ولكن كيف لي أن أكون غير ذلك وقد كنت أشاهد عمري وهو ينسل من سجادة الحياة خيطاً مهترئاً، وأيامي تكرُّ بملل كحبات مسبحة في يد شحاذ عجوز؟ حتى حبك الذي كان ملء مسامات الروح، لم يستطع هو الآخر تجاوز الأسلاك الشائكة التي أحاطوا بها قلبي، ومنحي برهة سعادة، وكم كان حزني عميقاً وأنا أتابع محاولاتك المتكررة في تهريب الفرح إلى قلبي، كل ذلك والعين بصيرة واليد قصيرة والروح أسيرة.
ما حال البرد هناك، في بلاد الله الإسكندنافية الواسعة التي هاجرت إليها بعد أن ضاقت بلادنا بأهلها، هل هو قارس وجاف مثل برد شتائنا لهذا العام، يصفع الوجوه مثل أكف معلميّ زمننا العجوز ؟ أما زال البرد يلون سُمرة وجهك ويحيله إلى وردة جورية كما كان يفعل هنا؟ أم أن البرد هناك مختلف هو الآخر عن بردنا؟ أعلم أن البلاد التي تسكنين فيها باردة جداً، فكيف تتقين شر بردهم ؟ هل تلجئين إلى حشر جسدك النحيل بأطنان من الثياب الشتوية الثخينة كعادتك أيام زمان؟ حتى كان يخيل للناظر إليك أنه يشاهد مشجب متنقل لا قامة فتاة هيفاء، وهو ما كان يبعث الارتياح في قلبي أنا العاشق الغيور، أم أنك تهرعين إلى المدفأة وتحيطينها بكفيك بحنو ولهفة، كما كنت تفعلين مع المدفأة الصغيرة في مكتبنا المشترك أنا وأنت وسلوى؟ سلوى صديقتنا المشتركة وخابية أسرارك التي أحالت نبيذنا إلى سائل فاسد جعلني أتقيأ بعض ما كان في قلبي من صور وذكريات ومشاعر، هذا الخمر الفاسد الذي أدار عقلي وأسكره دفعني مرة إلى اقتلاع قلبي من مكانه ورميه في مدفأة مكتبنا التي كنا نتحلق حولها أيام زمان، نتجاذب أطراف الأحاديث ونتبادل النظرات الولهى، فشلت، فلا أنا تجرأت على فعل ذلك ولا أمك الشتائية، كما كنت تصفين المدفأة، قبلت بالتهام قلب أنت فيه، واليوم وبعد فقدان مادة المازوت وغياب أمك عن التواجد حيث نكون نحن الفقراء، لك أن تبشري بطول البقاء في قلب أنت روحه ومصدر دفئه الوحيد، خاصة بعد أن غادرتنا أمك وأصبحت جزءاً عزيزاً من التراث، مثل حكايات الجدات ولحم القلي وخبز التنور.
انقطاع التيار الكهرباء المتكرر زاد في الطنبور نغماً، برد وعتمة وغلاء فاحش.. حتى المسلسلات الفكاهية والاجتماعية والمدبلجة التي كان يلجأ إليه المتعبون من هموم الحياة في آخر الليل، حلّت محلها مشاهد الأوصال المقطعة، والبيوت المهدمة على رؤوس ساكنيها، ومناظر الأطفال والنساء في براري الله والشعاب الجبلية، أو في خيام منصوبة داخل حدود بعض الدول المجاورة، كل هذا وشبح الموت يتربص بنا في كل زاوية وتحت كل بناء وغُبَّ كل ليل، فقد حدث معي قبل حوالي الشهر أن لاحظت تتبع أحدهم لخطواتي عند كل عودة لي ليلاً إلى البيت، وكم كان اختفاؤه سريعاً حين تحين مني التفاتة نحوه، نصحني بعض الأصدقاء باقتناء قطعة سلاح، تخيلي كيف يحمل شخص مسالم مثلي سلاحاً؟ ولكن ما العمل وحوادث اقتحام البيوت والاغتيالات تتكرر بين الحين والآخر ؟ ورغم كل ذلك، رغم الخوف وفقدان الأمان والجوع والبرد القارس وأخبار القتل ومشاهده، نهض حبك في قلبي فجأة، نعم هذا ما حدث لي فجأة، فهذا الانقلاب الربيعي، وهذه العاصفة التي تجوب الشوارع وتكنس ما تراكم فيها، فكَّتْ أسر قلبي أيضاً، وأعادت إليَّ ملكيته، بكامل محتوياته، بمشاعره وأحاسيسه وذكرياته، وبألبوم ممتلئ بصور لنا كلينا، صورنا التي عادت تنبض بالحياة والحرارة واللهفة في كل مظاهرة أشترك فيها ويصادف مرورها من مكان شَهَدَ وقع خطواتنا، فأرفع صوتي فرحاً وسعيداً: الشعب يريد إسقاط النظام. أرددها مع من يرددها وكأنني ألقي عليك تحية حب أو أرسل لك قبلة، بالمناسبة، هل تعلمين أن خط سير مظاهراتنا التي تنطلق عادة من أمام جامع قاسمو في حينا الغربي وتنتهي عند دوار الهلالية، يمر بشارع منير حبيب، شارعنا المفضل الذي كنا نزرعه جيئة وذهابا، ولذلك أجدني، وقبل الالتحاق أو الخروج إلى المظاهرة، أرتدي أحسن ما لدي من لباس، وأحلق لحيتي وأضع بعض العطر على وجهي ويدي التي تلوح لك وهي تهتف، ولكن قولي لي: أما زال هذا الشارع حبيباً إليك كما كان أيام زمان؟
حبيبتي،
بصراحة وبلا مقدمات طويلة أو قصيرة، يجب أن أقول لك أن هذا الشارع لم يعد كسابق معرفتك به، فقد أُزيل ذلك الرصيف الذي كان يقسمه إلى قسمين،،بأحجاره البسيطة وأشجاره الصغيرة، وأصبح واسعاً وعريضاً أشبه بطريق عبور الشاحنات لا مرور السيارات وسير العشاق، حتى البيوت المحيطة به، وكسائر بيوت قامشلي الطينية البسيطة، ذات الأحواش الكبيرة والواسعة، راحت هي الأخرى تخلع عنها زيها الطيني الفضفاض بسرعة وعلى عجل، وترتدي زياً اسمنتياً طويلاً وضيقاً وخانقاً. لقد أحزنني ذلك كثيراً، ولكن من ذا يستطيع أن يُوقف عجلات الزمن ويعترض خط سيره؟
رجاء:
أرجو الرد على رسالتي بسرعة، ولك الحق في قول ما شاء لك القول، كلمة حب أو عتب أو كره، ولا تخشي شيئاً، وإذا كنت لا تنوين الرد خشية ما لا تُحمد عقباه، فاعلمي أنني لست جار القلب حتى أقودك على حصان جموح في تيه البراري، بل نديمه وشقيق الروح، وإذا كان الأمر لديك خلاف ما أقول، وإذا ذهب بك الظن مذاهب شتى، فأرجو الضغط حالاً بأحد أصابعك الرقيقة التي كنت أحبها وأتمنى أن أقضمها كقطعة من سكر على كلمة حذف، لا بدّ أنك تعرفين مكانها، افعليها فوراً، قبل أن تعودي إلى متابعة عملك في المطبخ وأنت تدندنين بأغنية ما قد تكون بلغة أهل البلد الذي تسكنينه الآن، أو قبل مغادرة المنزل والذهاب في جولة إلى حديقة قريبة من حيّك أو بيتك، وإذا كان الوقت متأخراً فافعلي ذلك حالاً واندسي بعدها في الفراش إلى جانب زوجك، احتضنيه واغمضي عينيك ثم أفعلي معه ما يحلو لك.
رجاء آخر:
الرجاء كل الرجاء ألا تعتبري ما جاء في رسالتي هذه حكاية مملة يرويها عاشق فاشل، أو احتضار قلب مازال يحتفظ بصور حبّ بالأسود والأبيض في زمن تلتقط فيه الصورة بألف لون ولون.
استدراك:
في حال عدم الرد سأعتبر آسفاً أنني أرسلت هذه الرسالة إلى العنوان الخطأ، وسأضطر حينها إلى نشرها على العلن، لعلَّها تصل إلى صاحبتها الحقيقية، تلك الحبيبة التي لم يجد حبيبها المهدور عمره وأحلامه فسحة من حرية كي يقول لها: أحبك.
علي
قامشلو 1432012
a.smail1961@gmail.com