اللغة الأم في وجدان المرأة الآفارية

  سالار علو

عندما نقرأ قسم اللغة في رواية بلدي لرسول حمزاتوف , تشدّنا مقاطع مثيرة عن حب المرأة الآفارية للغتها الأم, و مدى إدراكها لأهمية هذه اللغة التي تسري أحرفاً و مفرداتاً في دمائهن , إنّ اللغة الأم بالنسبة للنساء الآفاريات الجبليات هي مسألة حياة أو موت .
يقول حمزاتوف في رواية بلدي: إحدى النساء صبًت على رأس امرأة أخرى هذه اللعنة:

(ليحرم الله أولادك اللغة التي تتكلم بها أمهم) , حين كنت أكتب (قصيدتي الجبلية) احتجت إلى لعنة أضعها على لسان امرأة شريرة في القصيدة, فقيل لي: إنّ امرأة كهله تعيش في إحدى القرى لا تستطيع جارة من جاراتها أن تجاريها في السباب , فتوجهت فوراً إلى هذه المرأة العجيبة ,
 اجتزت عتبة البيت الذي كنت أقصده ذات صباح ربيعي لا يرغب القلب فيه أن يلعن و يشتم, بل أن يفرح ويغني , وبكل بساطة قلب أخبرت المرأة العجوز بما أنا آت من أجله, الأمر كذا و كذا , أريد أن أسمع منك لعنة كأقوى ما يمكن و سأسجلها و أضعها في قصيدتي.

–  ليجف لسانك , و لتنسى اسم حبيبتك ,وليفهم الإنسان الذي تقصده كلماتك على غير معناها , ولتنسى إلقاء التحية على قريتك حين تعود إليها من تطواف بعيد , و لتصفر الريح في فمك حين تسقط أسنانك ……. يا ابن آوى ,هل أستطيع أن أضحك (و ليحرمك الله هذه النعمة) حين أكون مغمومة ؟ هل يكلف البكاء غالياً في بيت لم يتوفّ فيه أحد؟ هل أستطيع أن أتفوه بلعنة , إذا لم يغضبني أو يشتمني أحد؟ أخرج , و لا تأت إليّ بعد هذا بمثل هذه المطالب الغبية؟
–  شكراً لك أيتها المرأة الطيبة ـ قلت و خرجت من بيتهاـ .
وفي الطريق أخذت أفكر : (إذا كانت هذه المرأة صبّت على رأسي دون أي كراهية ,هكذا على الماشي , مثل هذه اللعنات الرائعة, فما عساها تقذف في وجه من يغضبها حقاً).
أعتقد أن أحد الدارسين للتراث الشعبي سيضع ذات يوم كتاباً عن لعنات أهالي الجبال , وسيعرف الناس عندئذٍ مدى ابتكارهم و مهارتهم و سعة خيالهم, وكذلك مدى قدرة لغتنا على التعبير.
وقد سمعت في إحدى القرى امرأتين تتبادلان الشتائم:
–  ليحرم الله أطفالك من يستطيع أن يعلمهم اللغة.
–  بل ليحرم الله أطفالك من يستطيعون أن يعلموه اللغة.
إلى هذا الحد تكون اللعنات مرعبة في بعض الأحيان , لكن في الجبال , وحتى بدون لعنات , يفقد الإنسان الذي لا يحترم لغته الأم احترامه فالأم الجبلية لن تقرأ أشعار ابنها , إذا كانت مكتوبة بلغة فاسدة.
حين عدت من باريس بحثت عن أقارب الرسام الداغستاني الذي ألتقيته هناك………. و لدهشتي تبين أنّ أمه مازالت على قيد الحياة, و بحزن أصغى أقاربه الذين اجتمعوا في البيت إلى حديثي عن ابنهم الذي ترك وطنه و استبدل به أرضاً غريبة , لكنهم كما يبدو كأنما غفروا له, كانوا مسرورين لأن ابنهم حيٌّ مع هذا.
وفجأةً سألتني أمه:
–  هل تحدثتما بالآفارية ؟
–  كلا, تحدثنا بوساطة مترجم , كنت أنا أتكلم بالروسية , و ابنك بالفرنسية.
غطّت الأم وجهها بطرحةٍ سوداء كما تفعل النساء حين يسمعن بموت ابنهن.
كان المطر ينقر على سطح البيت , و كنّا نجلس في آفاريا, و على الطرف الآخر , في باريس , ربّما كان ابن داغستان الضال يصغي هو أيضاً إلى صوت المطر.
وبعد صمت طويل , قالت أمه:
–  أنت مخطئ يا رسول, لقد مات ابني منذ زمن بعيد, هذا لم يكن ابني , فابني لم يكن ليستطيع أن ينسى اللغة التي علمته إياها , أنا أمه الآفارية.
هكذا كتب حمزاتوف في رواية بلدي , هذه المقتطفات من هذه الرواية الرائعة للكاتب الداغستاني تظهر مدى وعي المرآة الآفارية و إدراكها لأهمية اللغة الأم , فاللغة الأم عندها هي مسألة حياة أو موت, وجود أو عدم .
إنّ اللغة الأم هي ثروة و كنز وفيها دواءٌ لكلِّ العلل , وتستطيع أن تعبر بها عما تريد, أما من يقول عن لغته الأم أنها لغة صغيرة و فقيرة , و قراؤها قلّة , و لا يمكن الإبداع بها , ويبحث لنفسه عن لغة أخرى غنية و كبيرة دون أن يتقنها , فشأنه يكون كشأن الجدي في الأسطورة الآفارية  (ذهب الجدي إلى الغابة لينمو له ذنب ذئب , فعاد حتى بدون قرنين).

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…