دلور ميقري
1
1
بقدَر ما كانَ موتُ أسمَهان فاجعاً، وملغزاً، كذلك ذكرى ولادتها الماسيّة، المئوية، كأنها قد استعيدَتْ الآن بكلّ قسوة، وفي آن، بكلّ ما يعِدُ به هذا العام من آمـــــال مُبهمة بالنسبة لموطنها وشعبها. تشديدنا فيما سبق على كلمة ” آمال “، لكونها اسم مطربتنا، الحقيقيّ: وهوَ الاسمُ، الذي يُقال أنها مُنِحَتهُ لأنّ ولادتها جرَت على مركبٍ في عرض البحر، وصادفت هبوب عاصفةٍ شديدة، كادَت أن تغرقه مع راكبيه. ذلك، جرى في تشرين الثاني / نوفمبر عام 1912؛ وهوَ ذات العام الذي شَهِدَ غرق الباخرة الشهيرة، ” تيتانيك “. هذه الباخرة، لكأنما اسطورة هلاكها شاءت أن تتواشجَ لا مع اسطورة ميلاد مطربتنا السورية الأشهر، حَسْب، بل مع موتها أيضاً؛ بما أنها غرقت في ترعة مشؤومة وهيَ في طريقها من أحد مواقع تصوير فيلمها الثاني، والأخير؛ ” غرام وانتقام ” .
وإذن، نعودُ إلى ذلك العام، الشاهد على ولادة ” آمال “، عندما فرّت أسرتها من الأناضول هرَباً من بطش الأتراك. فيما أنّ ذكراها الماسيّة، ويا لعجائب المقدور، تتوافق هذا العام ـ 2012 ـ مع هروب آلاف الأسر السورية من مَوَاطِنِها إلى كنفِ الأتراك، خشيَة من وحشية السلطة البعثية، المُنفلتة العقال. ولكي تكتمل المفارقة، فإنّ الأسرَة المُنتميَة أسمهان لأرومتها الكريمة، والتي لعبَت دوراً أساسياً في مُحاربة العثمانيين، ومن ثمّ الفرنسيين؛ هذه الأسرة نفسها، هيَ من تتعهّد منذ 15 آذار 2011 ترميزَ ثورة الاستقلال السوريّ، الثاني، من خلال اسم عميدتها، السيّدة منتهى الأطرش. هذا، بغض الطرف عن الحقيقة المؤلمة، المتمثلة بضعف حركة الاحتجاج ضد النظام في منطقة جبل الدروز، مقارنة بمناطق البلاد الأخرى. ولكنّ هذا، حديث آخر.
2
قلنا، أنّ أكثر من مفارقة قد اعترَت مسيرة حياة أسمهان وذكراها سواءً بسواء. بيْدَ أنّ أدهى مفارقة، برأينا، هيَ أن تكون ” قرينة ” مطربتنا، اليومَ، واحدة من شبّيحة الفن الأكثر وقاحة وشراسة: إنها الممثلة، التي حققتْ شهرَتها عبرَ المسلسل الدرامي؛ ” أسمهان “. بدَوره، كان المسلسلُ نوعاً من اغتيال ذكرى الفنانة، النادرة العبقرية، طالما أنه لم يكن البتة بالمستوى المطلوب. إذ تمّ اعتمادُ مخرج تونسيّ، وكما لو أنّ سورية خالية من أصحاب حِرْفتِهِ. تماماً، مثلما كان أمرُ اختيار مخرج فلسطينيّ، ليناط به مهمّة تشويه ذكرى الشاعر العظيم نزار قباني. هنا وهناك، لم يكن تسميَة أبطال العمل الدراميّ بمنأى عن العقلية الطائفية، المُقيتة؛ وهيَ العقلية، التي تريدُ إدعاءَ تاريخ الآخرين بأيّ ثمن، وفي المقابل، تشويهه بكلّ مكنونات عقدها النفسية، المُزمنة، من دونيّة وحقدٍ وثأر و كيْدٍ.
بما أننا نتكلم عن ذكرى أسمهان، فلنقل أنّ فكرة إعداد حياتها كمسلسل دراميّ، يَعودُ كما نفترض للسببية نفسها، الطائفية: إذ لا بدّ أنّ أحدهم قد قرأ في يوتيوب ” نشيد الأسرة العلوية “، الذي أدّته أسمهان في فيلم سينمائيّ؛ فاعتقدَ أنه نشيدُ ” الأسرة القرداحية ” المنتسبَة ـ كذا ـ لآل البيت الشريف. الواقع، فأيّ تلميذ ابتدائي في سورية يعرف حقيقة كون نعت الأسرة الملكية في مصر مُستمَدّ من اسم مؤسّسها؛ محمد علي باشا. الكلّ يعرف ذلك، إذن، اللهمّ إلا كاتب السيناريو، علاوة على منتج المسلسل العتيد؛ بطله الأوحد. ولأن الشيء بالشيء يذكر، كما يُقال، فإن لي الحق الآن، بعد مرور أكثر من عام على بدء الثورة، أن أحيلَ القاريء إلى مقالتي ” باب الحارة، الكردية ” ـ المنشورة على النت عام 2007؛ والتي لمّحتُ فيها إلى حقيقة بعض من أسميتهم بـ ” أفراخ الدراما السورية “، وأنهم ليسوا أكثرَ من موظفين تابعين للفروع الأمنية.
3
إشكاليّة انتماء أسمهان، تتجلّى في حياتها الخاصّة. فهيَ قد تزوّجت ثلاث مرات، منهم اثنان من خارج مَذهبها. ومن النافل التأكيد، بأنّ خرق هكذا تقليد اجتماعيّ / دينيّ، في زمننا هذا المبتديء الألفية الثانية، هوَ نوعٌ من المخاطرة؛ فما بالك بمن فعل ذلك، قبل قرابة السبعة عقود: إنها فنانتنا الجَسورة، التي كان هاجسها الآخر هوَ المغامرة على حافة الخطر والهلاك. وهيَ أسمهان نفسها، من وافقت دونما وَجَل على تقصّي أحوال أتباع هتلر، المُسيطرين على سورية ولبنان، وذلكَ بطلبٍ من العاملين في مقرّ استخبارات الحلفاء في القدس. هؤلاء الأخيرين، كما هوَ معلوم، كانوا قد وعدوا دولَ المشرق العربيّ بالاستقلال إذا ما ساندتهم في حربهم ضد النازية. والمؤكّد، أنّ ممثلي الاستخبارات أولئك، حينما وضعوا ثقتهم بأسمهان، فقد كان في وارد تفكيرهم حقيقة كون أسرتها من آل الأطرش؛ الذين كانوا آنذاك في طليعة الثائرين ضد الظلم والاستبداد والطغيان.
عندما ماتت أسمهان غرقاً، في حادثة السيارة الشهيرة، فإنّ كثيرين رأوا في ذلك نوعاً من اغتيال سياسيّ. إنّ تعاون فنانتنا مع استخبارت الحلفاء كان، ولا غرو، من واردات شبهة القتل تلك. غيرَ أنّ الأمر، على أيّ حال، لم يحظ بسندٍ موثق بعدما تمّ فتح أرشيف الاستخبارات البريطانية الخاص بفترة الحرب العالمية الثانية. إن أصحاب ” عقلية المؤامرة “، ومنهم كتاب السيناريو للأفلام والمسلسلات العربية، المُصرّون على الزعم بكون موت أسمهان من تدبير البريطانيين؛ هؤلاء، يتجاهلون حقيقة أخرى أشدّ مضاضة وخزياً: وهيَ أنّ هذه المطربة، النادرة العبقرية في دنيا العرب، قد ماتت دونما أن تتمكّن من الحصول على الجنسية المصرية. يتعيّن القول، أنها في سبيل هذه الجنسية قد اضطرت إلى عقد قرانها مرّتين؛ الأولى بالمخرج أحمد بدرخان، والأخرى بزميله أحمد سالم. اليوم، وبعد ستين عاماً من جلاء الإنكليز عن وادي النيل، نعلمُ من الصحافة أنّ الفعاليات الثقافية قد قدّمت التماساً لمجلس الشعب بشأن الموافقة على منح الجنسية المصرية للمخرج المبدع، محمّد خان؛ المولود في القاهرة عام 1942، والمسجّلة خمسة من أفلامه بين أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية.
4
رحيلُ أسمهان المُبكر، على رأيي المتواضع، هوَ من قدّر له أن يَجعلها أسطورة. فهيَ إذ مرّت على كوكبنا خلال اثنين وثلاثين سنة لا غير، إلا أنّ سبعاً منها حَسْب قد حَفِلَ بزخم عبقريتها الرائعة، وخاتمته في آن. في هذه الحالة، ألا يمكننا مقارنة أسمهان بعبقريّ آخر، هوَ الشاعر آرثر رامبو؛ الذي عاش بدَوره عمراً قصيراً، شُغِلَ خلاله بالكلمة لثلاث أو أربع سنين فقط: ولو تأملنا صورة شاعرنا شابّا، لوجدنا فيها ملامحَ من حسن انثويّ. كذلك الأمر، بالنسبة لصورة أسمهان الشابّة الناضجة، فإنّ قسماتها الفائقة الجمال تتماهى بحزم ينتمي للرجولة الحقة.
السينما، لحسن الحظ، هيَ المُقدّر عليها أن تحفظ لنا أبهى صوَر أسمهان، ومن خلال فيلمين يتيمين. ” انتصارُ الشباب “، تمّ انتاجه عام 1941؛ أي في غمار الصراع الرهيب، المصيريّ، بين معسكرَيْ الديمقراطية والفاشية. بَيْدَ أنّ أجواء الفيلم، الكوميدية، تبدو وكأنها قد نأت بنفسها عن تلك المذبحة، العالمية. ولكن السيناريو، المُساهم بكتابته مخرجُ الفيلم أحمد بدرخان، يظهر بالمقابل كما لو أنه يروي القصة الحقيقية لبطليه الرئيسين، أسمهان وفريد الأطرش؛ على الأقل، في مرحلة بداية استقرارهما بالقاهرة. شقيقها هذا، النابغة، هوَ من لحن معظم أغاني الفيلم؛ حيث تسامى فيها ميله للتجديد في الموسيقى.
أسمهان، لم تكن ممثلة موهوبة. ولكن السينما، من ناحية أخرى، هيَ من كشفت لنا أداءها المُذهل للأغاني، والآسر بحق. عندما تنطق أسمهان المُمثلة، فإنّ نبرتها تتواترُ ببطء و برود؛ كأنما بفعل غلبَة المسلك الارستقراطيّ على شخصيتها. غيرَ أن كلّ ذلك يختفي، حالما تستهلّ المقدّمة الموسيقية لإحدى أغاني الفيلم: إذاك، تظهِرُ فنانتنا قوىً خفيّة، مُعجّزة، منطلقة على سجيّتها ومندمجة تماماً مع معاني الكلمات. وعندي، أنّ أروع مثال على ما ذهبتُ إليه بخصوص أداء أسمهان، يتجلّى في فيلم ” غرام وانتقام “، بدَورها الشهير ومطلعه:
” يا ديرتي ما لك علينا لوم، لا تعتبي لومك على من خان “
فهذا الموال، المؤدّى باللهجة الدرزية الشامية، يكشف أيضاً عن القدرات الهائلة لطبقة صوت أسمهان، الساحر. والملفت أنّ مخرجَ الفيلم، يوسف وهبي، جعلَ بطلة الفيلم تنهي موالها بضحكةٍ غامرة، نادرة، فيما كانت تتابع الممثلَ الكوميدي، بشارة واكيم، وهوَ يرقص بالسيف مُقلداً حركات فرسان البوادي.
2
قلنا، أنّ أكثر من مفارقة قد اعترَت مسيرة حياة أسمهان وذكراها سواءً بسواء. بيْدَ أنّ أدهى مفارقة، برأينا، هيَ أن تكون ” قرينة ” مطربتنا، اليومَ، واحدة من شبّيحة الفن الأكثر وقاحة وشراسة: إنها الممثلة، التي حققتْ شهرَتها عبرَ المسلسل الدرامي؛ ” أسمهان “. بدَوره، كان المسلسلُ نوعاً من اغتيال ذكرى الفنانة، النادرة العبقرية، طالما أنه لم يكن البتة بالمستوى المطلوب. إذ تمّ اعتمادُ مخرج تونسيّ، وكما لو أنّ سورية خالية من أصحاب حِرْفتِهِ. تماماً، مثلما كان أمرُ اختيار مخرج فلسطينيّ، ليناط به مهمّة تشويه ذكرى الشاعر العظيم نزار قباني. هنا وهناك، لم يكن تسميَة أبطال العمل الدراميّ بمنأى عن العقلية الطائفية، المُقيتة؛ وهيَ العقلية، التي تريدُ إدعاءَ تاريخ الآخرين بأيّ ثمن، وفي المقابل، تشويهه بكلّ مكنونات عقدها النفسية، المُزمنة، من دونيّة وحقدٍ وثأر و كيْدٍ.
بما أننا نتكلم عن ذكرى أسمهان، فلنقل أنّ فكرة إعداد حياتها كمسلسل دراميّ، يَعودُ كما نفترض للسببية نفسها، الطائفية: إذ لا بدّ أنّ أحدهم قد قرأ في يوتيوب ” نشيد الأسرة العلوية “، الذي أدّته أسمهان في فيلم سينمائيّ؛ فاعتقدَ أنه نشيدُ ” الأسرة القرداحية ” المنتسبَة ـ كذا ـ لآل البيت الشريف. الواقع، فأيّ تلميذ ابتدائي في سورية يعرف حقيقة كون نعت الأسرة الملكية في مصر مُستمَدّ من اسم مؤسّسها؛ محمد علي باشا. الكلّ يعرف ذلك، إذن، اللهمّ إلا كاتب السيناريو، علاوة على منتج المسلسل العتيد؛ بطله الأوحد. ولأن الشيء بالشيء يذكر، كما يُقال، فإن لي الحق الآن، بعد مرور أكثر من عام على بدء الثورة، أن أحيلَ القاريء إلى مقالتي ” باب الحارة، الكردية ” ـ المنشورة على النت عام 2007؛ والتي لمّحتُ فيها إلى حقيقة بعض من أسميتهم بـ ” أفراخ الدراما السورية “، وأنهم ليسوا أكثرَ من موظفين تابعين للفروع الأمنية.
3
إشكاليّة انتماء أسمهان، تتجلّى في حياتها الخاصّة. فهيَ قد تزوّجت ثلاث مرات، منهم اثنان من خارج مَذهبها. ومن النافل التأكيد، بأنّ خرق هكذا تقليد اجتماعيّ / دينيّ، في زمننا هذا المبتديء الألفية الثانية، هوَ نوعٌ من المخاطرة؛ فما بالك بمن فعل ذلك، قبل قرابة السبعة عقود: إنها فنانتنا الجَسورة، التي كان هاجسها الآخر هوَ المغامرة على حافة الخطر والهلاك. وهيَ أسمهان نفسها، من وافقت دونما وَجَل على تقصّي أحوال أتباع هتلر، المُسيطرين على سورية ولبنان، وذلكَ بطلبٍ من العاملين في مقرّ استخبارات الحلفاء في القدس. هؤلاء الأخيرين، كما هوَ معلوم، كانوا قد وعدوا دولَ المشرق العربيّ بالاستقلال إذا ما ساندتهم في حربهم ضد النازية. والمؤكّد، أنّ ممثلي الاستخبارات أولئك، حينما وضعوا ثقتهم بأسمهان، فقد كان في وارد تفكيرهم حقيقة كون أسرتها من آل الأطرش؛ الذين كانوا آنذاك في طليعة الثائرين ضد الظلم والاستبداد والطغيان.
عندما ماتت أسمهان غرقاً، في حادثة السيارة الشهيرة، فإنّ كثيرين رأوا في ذلك نوعاً من اغتيال سياسيّ. إنّ تعاون فنانتنا مع استخبارت الحلفاء كان، ولا غرو، من واردات شبهة القتل تلك. غيرَ أنّ الأمر، على أيّ حال، لم يحظ بسندٍ موثق بعدما تمّ فتح أرشيف الاستخبارات البريطانية الخاص بفترة الحرب العالمية الثانية. إن أصحاب ” عقلية المؤامرة “، ومنهم كتاب السيناريو للأفلام والمسلسلات العربية، المُصرّون على الزعم بكون موت أسمهان من تدبير البريطانيين؛ هؤلاء، يتجاهلون حقيقة أخرى أشدّ مضاضة وخزياً: وهيَ أنّ هذه المطربة، النادرة العبقرية في دنيا العرب، قد ماتت دونما أن تتمكّن من الحصول على الجنسية المصرية. يتعيّن القول، أنها في سبيل هذه الجنسية قد اضطرت إلى عقد قرانها مرّتين؛ الأولى بالمخرج أحمد بدرخان، والأخرى بزميله أحمد سالم. اليوم، وبعد ستين عاماً من جلاء الإنكليز عن وادي النيل، نعلمُ من الصحافة أنّ الفعاليات الثقافية قد قدّمت التماساً لمجلس الشعب بشأن الموافقة على منح الجنسية المصرية للمخرج المبدع، محمّد خان؛ المولود في القاهرة عام 1942، والمسجّلة خمسة من أفلامه بين أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية.
4
رحيلُ أسمهان المُبكر، على رأيي المتواضع، هوَ من قدّر له أن يَجعلها أسطورة. فهيَ إذ مرّت على كوكبنا خلال اثنين وثلاثين سنة لا غير، إلا أنّ سبعاً منها حَسْب قد حَفِلَ بزخم عبقريتها الرائعة، وخاتمته في آن. في هذه الحالة، ألا يمكننا مقارنة أسمهان بعبقريّ آخر، هوَ الشاعر آرثر رامبو؛ الذي عاش بدَوره عمراً قصيراً، شُغِلَ خلاله بالكلمة لثلاث أو أربع سنين فقط: ولو تأملنا صورة شاعرنا شابّا، لوجدنا فيها ملامحَ من حسن انثويّ. كذلك الأمر، بالنسبة لصورة أسمهان الشابّة الناضجة، فإنّ قسماتها الفائقة الجمال تتماهى بحزم ينتمي للرجولة الحقة.
السينما، لحسن الحظ، هيَ المُقدّر عليها أن تحفظ لنا أبهى صوَر أسمهان، ومن خلال فيلمين يتيمين. ” انتصارُ الشباب “، تمّ انتاجه عام 1941؛ أي في غمار الصراع الرهيب، المصيريّ، بين معسكرَيْ الديمقراطية والفاشية. بَيْدَ أنّ أجواء الفيلم، الكوميدية، تبدو وكأنها قد نأت بنفسها عن تلك المذبحة، العالمية. ولكن السيناريو، المُساهم بكتابته مخرجُ الفيلم أحمد بدرخان، يظهر بالمقابل كما لو أنه يروي القصة الحقيقية لبطليه الرئيسين، أسمهان وفريد الأطرش؛ على الأقل، في مرحلة بداية استقرارهما بالقاهرة. شقيقها هذا، النابغة، هوَ من لحن معظم أغاني الفيلم؛ حيث تسامى فيها ميله للتجديد في الموسيقى.
أسمهان، لم تكن ممثلة موهوبة. ولكن السينما، من ناحية أخرى، هيَ من كشفت لنا أداءها المُذهل للأغاني، والآسر بحق. عندما تنطق أسمهان المُمثلة، فإنّ نبرتها تتواترُ ببطء و برود؛ كأنما بفعل غلبَة المسلك الارستقراطيّ على شخصيتها. غيرَ أن كلّ ذلك يختفي، حالما تستهلّ المقدّمة الموسيقية لإحدى أغاني الفيلم: إذاك، تظهِرُ فنانتنا قوىً خفيّة، مُعجّزة، منطلقة على سجيّتها ومندمجة تماماً مع معاني الكلمات. وعندي، أنّ أروع مثال على ما ذهبتُ إليه بخصوص أداء أسمهان، يتجلّى في فيلم ” غرام وانتقام “، بدَورها الشهير ومطلعه:
” يا ديرتي ما لك علينا لوم، لا تعتبي لومك على من خان “
فهذا الموال، المؤدّى باللهجة الدرزية الشامية، يكشف أيضاً عن القدرات الهائلة لطبقة صوت أسمهان، الساحر. والملفت أنّ مخرجَ الفيلم، يوسف وهبي، جعلَ بطلة الفيلم تنهي موالها بضحكةٍ غامرة، نادرة، فيما كانت تتابع الممثلَ الكوميدي، بشارة واكيم، وهوَ يرقص بالسيف مُقلداً حركات فرسان البوادي.
وإذا كان فيلم أسمهان، الأوّل، قد روى بعضاً من سيرتها الشخصية في مبتدأ حياتها بأرض الكنانة، فإنّ فيلمها الآخر عليه كان أن يعرضَ نهايتها، المأسوية: فمنذ لقطة مقدّمة فيلم ” غرام وانتقام “، نقرأ اسم بطلته أسمهان بصفتها ” فقيدة الفن “. ثمّ نتابع الكاميرا، المنتقلة إلى مشفى الأمراض العقلية؛ أين يمكث ” الموسيقار جمال ” منذ علمه بخبر مصرع حبيبته ” سهير ” في حادث سيارة على طريق رأس البر. وإذن يلعبُ يوسف وهبي وأسمهان دورَيْ الحبيبين، فيطغى على الفيلم نبرَة الأوّل، الارستقراطيّة المسرحيّة، ونبرَة الأخرى، الارستقراطيّة الحقيقيّة. عندما تعودُ الكاميرا ثانية ً إلى حجرة المريض العقليّ، إثرَ جولتها المديدة على قصّة حبّه العاثر، يبدأ هذا بالعزف من جديد على كمانه. عندئذٍ، يُسأل الموسيقارُ المجنون عن اسم المقطوعة الموسيقية، التي يقول أنها مهداة للحبيبة تلك، الراحلة؛ فيكون جوابه: ” لحن لم يتم “.