نظرة نقدية إلى قصيدة الشاعر جميل داري الموسومة بـ(كنت تنتظرين القصيدة)

خالص مسور:

لا شك أن الشاعر جميل داري يثبت في هذه القصيدة السياسية – الإجتماعية العصماء عن ألمه الممض ومعاناته وشكواه المريرة مما يحدث في وطنه سورية وهو بعيد عنها، ويقض مضجعه صراخ النساء والأطفال وضجيج آلات القتل والدمار يسمع في كل مكان من الوطن، فينتايه الألم وتطفح في وعيه الذاتي مشاهد هذا الجنون والرعب والقلق والإثارة، وهي تطال أبناء وطنه سورية، فيبدو متحسراً شاكياً باكياً على ما يتناهى إليه من تشريد وقتل ودمار وتدمير منهجي منظم في وطنه فيقول:
لم أحلامنا تتكسر مثل زجاج
وأشواقنا بين أيدي الطغاة
وتنتابه الحيرة والقلق مرة أخرى، في زمن تنتحر فيه الأغنيات على وقع خطى جنود الطغاة، معبراً عما يجيش في نفسه بلغة حزينة فيها الكثير من الإيحائية والإثارة والإدهاش، ممتحاً إياها من خزينه المعرفي الفائض بالثراءات الدلالية لتلفي به نحو هذا السؤوال الوجودي اللهيف.
وحروف الحنين لما ذا تئن
وتنتحر الأغنيات
وعرى الطغاة من نفاقهم:
كيف تنتظرين الغناء الصدوق
فجاء إليك الجنود
يغنون حتى أقاصي الكذب
لقد استطاع جميل داري أن يعبر مع حالة من انعطافات القصيدة وانسيابيتها مؤطراً بها ذاته المفعمة باللوعة والأسى، معبراً عن معاناة شعبه السوري مرة أخرى بلغة حداثية تتوفر على الكثير من الصور الرامزة الموحية كما في – من يديه يفيض السنونو – من يديها إله الجمال انسكب – وتركض فيها السحب – ومع الكثير من الغمز واللمز والإبتعاد عن المباشرة باستخدام تقنية التقديم والتأخير أحياناً  – كيف إليك أتوا – من يديها إله الجمال انسكب – وبعبارات لغوية ثرية تطفح بالعدولية والمجاز، مع شيء ليس بالقليل من الغموض الشعري المحبب وغير المعقد حتى لاينصرف القاريء إلى قصيدته الإلتزامية المؤثرة فعلاً، وجاء التناص مع القرآن الكريم في حالة انسجام تام مع موضوع القصيدة كما في.
كيف لم يخلعوا النعل
في حضرة هذا النبي الصغير الذي
ذبحوه بغير سبب
في إشارة واضحة وبكثير من الشاعرية وجمالية التعبير وبعينين دامعتين إلى حالة من التحسر والأسى، وهو ينظر إلى قرابين الأطفال الرائجة هذه الأيام في وطنه سورية على مذابح شهوات السفاحين والطغاة، في هذا العالم والوطن المليء بالعصاة والقتلة والسفاحين. لكن لايفقد الشاعر صبره وتفاؤله بالحياة ليفض بها وجع الإنكسار في الذات الشاعرة، وبذلك يكون الشاعر جميل داري قد عبر عن إمداءات إنسانيته الرائعة ومدى احترامه للإنسانية وحرصه على السلم والحقوق والحريات والديموقراطية التي لابد أنها آت في يوم تبتسم فيه الحياة في ربوع وطنه الحبيب، وزمن مغاير مليء بالتفاؤل والسعادة والأمل في حياة حرة كريمة.
آه لا بد من زمن آخر
زمن سيسمي الآخر
وعلينا أن نشير إلى أن في سطوره الشعرية مايوحي بقدرة الشاعر على إيجاد حالة من الإنسجام بين  ركيزتي الشعر ما بين الداخل والخارج، أو اللغة الرامزة والمحبوكة بإحكام والمجدولة على نوله الفطري المحلق في سماء الشاعرية الباذخة، والمستخدة بإيحائية عالية والتي جاءت بانسجام تام مع الموضوع أو الحدث المثير الذي يتناوله الشاعر، وقد ما نلمسه هو أن الشاعر اعتمد في جانب كبير من قصيدته على حروف صائتة كما في – كنت ما كنت – تنتظرين – من جهة وعلى جمل وتراكيب توحي في صورها ضمن لوحتها التشكيلية الموحية بجو العنف والحرب كما في – يغنون – زقزقة – صوت اللهب – ثم الجمالية في القافية المشتركة بين سطرين متتاليين (العبير – الصغير – اللهب – ذهب – رب – في العلب)
لقد تناولنا هنا دراسة القصيدة وباختصار مستخدمين منهج النقد التكاملي، نظراً لأن القصيدة تدخل جزئياً ضمن إطار المناسباتية العمومية والإلتزام، ولأن الشاعر يركز على المضمون والشكل معاً. ولكن لنا ملاحظات نقدية على القصيدة في بعض جانبيها الداخلي والخارجي وأقصد به الشكل والمضمون معاً.
1 – التاءات الثلاث في السطر الشعري الأول بموسيقاها الخشنة – كنت تنتظرين القصيدة – بالإضافة إلى حرفي القاف بعدهما – القصيدة – أقبلت – جاءت ثقيلة على الجهاز النطقي للقاريء وأربكته قليلاً، بالإضافة إلى صيغة الخطاب والحالة النثرية في – كلمة تنتظرين –  مما أبعدت السطرين عن الشاعرية نوعاً ما، وبدت كلغة حوارية عادية بين رجل وأنثى تخلفت عن موعدها – بغض النظر عن المضمون أو من هو المعني بها.
2– يلجأ الشاعر في بعض السطور القليلة إلى تقنية التقديم والتأخير وفقط لتجنب التقريرية والمباشرة في سطوره الشعرية، ولكنه تقديم وتأخير قد يوقعان الشاعر في كثير من الأحيان في الصنعة والتكلف وقد يتنافران مع الشاعرية والعذوبة والسلاسة التعبيرية كما في – كيف إليك أتوا – والفرق بينها وبين – أتوا إليك – هو التمطيط والنفس الصوتي الطويل في كلمة – أتوا – وهو المكسب الوحيد الذي بذله الشاعر لقارئه لإلتقاط الأنفاس ولكن دون شاعرية تذكر.
3– في السطر الخامس عشر أي في – حاملين سيوفهم – وبما أن الشاعر يصف حالة حرب ضروس وصراخ الأطفال وذبحهم، فلا يجب هنا أن يأتي القتلة حاملين سيوفهم وهي محمولة في الأغماد، بل الانسب هو القول – شاهرين سيوفهم- وهو الأبلغ والأنسب والأجمل والأكثر رعباً هنا.
4-  وجود حالات من التقريرية والمباشرة المسيئة للقصيدة كما في – والموت يشرب أنخابه الكثر – والتقريرية تكمن في الكلمة الأخيرة – الكثر – وأيضاً في السطر الشعري – إنه منحة متبادلة بين عبد ورب – رغم العذوبة والتنغيمية الجميلة الصادرة عن العبارة ألا أنها جاءت غير شاعرية بشكل كبير.
سنكتفي بهذا القدر رغم وجود ملاحظات أخرى على قصيدة  الشاعر جميل داري الموسومة بـ – كنت تنتظرين القصيدة – وفي النهاية أقول: أن هذه الامور لا تلغي شعرية القصيدة بالإجمال كما أنها لاتنقص من قيمة شاعر في مثل قامة الإستاذ جميل داري الذي أثبت انه يجيد قنص الكلمة المعبرة، والجمل الثرية بإيحاءاتها، والعبارة المنسجمة مع موضوعها، والجمل الرشيقة الطافحة بالثراءات الدلالية، والرمزية المعبرة.    
…………………………………………..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…