صدور كتاب «صورة الكرد في مصادر التراث الإسلامي» للدكتور أحمد خليل

  مقدمة
منذ ما يزيد على عشرين سنة اهتممت بجمع المعلومات حول الكرد في التراث الإسلامي، وقد لفت انتباهي خلال ذلك لَغَطٌ وخَلْط شديد بشأن هوية الكرد في التراث الإسلامي، ولم ينحصر ذلك اللغط والخلط في كتب التاريخ، وإنما وصلت عَدواه إلى كتب الدين والبلدان واللغة والأدب أيضاً، والغريب في هذا المجال أمران:

–   الأول: أنني لم أجد ربع ذلك اللغط والخلط فيما يتعلق بهوية جيران الكرد (العرب، والفرس، والكلدان، والآشوريين، والأرمن، والترك).
–   والثاني: أن ذلك اللغط والخلط كان مقبولاً حينما بقي في دائرة تنسيب الكرد إلى العرب تارة، وإلى الفرس تارة أخرى، وإلى أشتات من الناس تارة ثالثة. لكن المشكل أنه دخل في باب التلفيق والتخريف، فنسب بعضهم الكرد إلى الجن، ونسبهم آخرون إلى شيطان اسمه (جَسَد)، وجعلوا أمهاتهم في الحالين من الجواري المنافقات الفاسقات. 
ولما استرسلت في تتبّع ما جاء بشأن الكرد في مصادر التراث الإسلامي، تأكد لي أن الأمر لم يقتصر على التشكيك في أصل الكرد، وأَبْلَسَتهم وتجريدهم من الهوية البشرية، وإنما شُنّت عليهم حملات قاسية، بقصد تبشيع صورتهم في الذاكرة الغرب آسيوية، وتقديمهم إلى الأجيال بشكل منفّر، وطمس معالم مساهماتهم في التراث الحضاري لهذه المنطقة العريقة من العالم؛ علماً بأنها مساهمات كثيرة وقيّمة، وهي تتوزّع على مجالات الدين، والأدب، والعلوم، والسياسة، والقيادة.
والغريب أن القرآن وحده- من بين مصادر التراث الإسلامي- ظل بمعزل عن ذلك اللغط والتلفيق والتخريف، أما سواه من مصادر التراث الأساسية فقد تمّ توظيف معظمها لتحقيق الغرض المنشود، سواء أكانت كتب تفسير القرآن، أم كتب الحديث النبوي، أم كتب التاريخ، أم غيرها، كما أن الشهود الذين وُظّفت أسماؤهم لأبلسة الكرد، وتبشيع صورتهم، هم من المراتب الرفيعة في الذاكرة الإسلامية، فيهم النبي، والخليفة، والصحابي، والتابعي، والإمام، وشيخ الإسلام.
وكان من الطبيعي والحال هذه أن أتساءل مستغرباً: لماذا الكرد تحديداً؟ ولماذا كل هذا اللغط والتلفيق والتخريف؟ ولماذا التبشيع والأبلسة؟ وكي أصل إلى إجابات شافية كان عليّ أن أبحث عن هويّة الملفِّقين والمخرِّفين، وأتتبّع مسارات الروايات ذات العلاقة بالموضوع، وإذا بي أجد أنه لا دخل للنخب العربية باختلاق روايات الأبلسة والتبشيع، فكل ما فعلوه أن فريقاً منهم نسب الكرد إلى العرب القَحْطانيين، ونسبهم فريق آخر إلى العرب العَدْنانيين، وكان ذلك التنسيب- بمعايير القرون الهجرية الأولى- تكريماً للكرد، وليس تشويهاً ولا تبشيعاً ولا أبلسة.
وبعد مزيد من البحث والتنقيب، تأكد لي، وبالأدلة الموثَّقة، أن الروايات المتعلقة بتبشيع الكرد وأبلستهم، تعود إلى منتسبي مدرستين ثقافيتين، احتكرتا تصنيع الروايات وتسويقها في القرنين الهجريين الأول والثاني، هما مدرسة اليمن، ومدرسة الحِيرة في العراق. وكان القائمون على هاتين المدرستين إما فرساً أو من خرّيجي الثقافة الفارسية، ومنهم على سبيل المثال وَهْب بن مُنَبِّه، ومحمد بن إسحاق، وطاوُوس بن كَيْسان، ويَسار أبو نُجَيْح، ومُجاهد بن جَبْر، وإسماعيل السُّدّي، وشَهْر بن حَوْشَب؛ هذا إضافة إلى دور الروايات اليهودية (الإسرائيليات)، والروايات المسيحية النسطورية، في مجال التبشيع والأبلسة.
وللوصول إلى رأس الخيط، عدت إلى المصادر والمراجع الخاصة بتاريخ غربي آسيا قبل الإسلام، بل إلى ما قبل الميلاد أيضاً، وتحديداً إلى أحداث القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وسقوط إمبراطورية آشور على أيدي الحلف الميدي البابلي (الكلداني) سنة (612 ق.م)، وسيطرة كورش الثاني الفارسي على مملكة ميديا سنة (550 ق.م)، وعلى مملكة بابل الكلدانية سنة (539 ق.م)، ثم محاولات بعض النخب الميدية استرداد الملك السليب، ووصيّة الملك الفارسي قَمْبَيز بن كورش، سنة (522 ق.م)، للنخب الفارسية بالقضاء على كل محاولة لإحياء دولة ميديا.
حقاً، إن (وصيّة قمبيز) كانت بداية تأسيس المؤامرة على الكرد (أحفاد الميديين)، وظلت كلمات تلك الوصية خالدة في ذاكرة النخب الفارسية طوال القرون التالية، وحرصوا على تنفيذها بحذافيرها، مستعينين- فيما قبل الميلاد- بالجهود الثقافية والدعائية للعبرانيين الذين كان نَبُوخَذ نَصَّر (بُخْتُنَصَّر) البابلي سباهم ونفاهم إلى بلاد الرافدين، ومستعينين- فيما بعد الميلاد- بالنساطرة الذين خرجوا على المذهب المَلْكاني البيزنطي الرسمي، واحتموا بالنفوذ الفارسي في بلاد الرافدين.   
ولتوضيح ملابسات ومسارات هذه المؤامرة الخطيرة على الكرد- وهي مؤامرة متشعّبة الأطراف- كان هذا الكتاب، وآمل أن يتمكن القارئ، على ضوئها، من الربط بين الحالة الكردية القديمة والمعاصرة.
      أحمد محمود الخليل  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…