«وشوم جدَّتي» الأرمنية

 إبراهيم محمود

 لا يمكن أن تشاهد الفيلم الوثائقي” وشوم جدتي” من إخراج سوزان خارداليان، ومدنه ” 58/د”، حيث عرضته قناة الجزيرة الوثائقية، وتابعناه مترجماً إلى الانكليزية عن طريق الصديق الدكتور أنطوان أبراط، وتنفيذ ابنه المجدّ جاك أنطوان أبرط، وذلك في القاعة الفسيحة للكنيسة الأرمنية في قامشلي، الأحد مساء بتاريخ 6-5/2012، حيث مناسبة شهداء أيار في سوريا، أقول لا يمكن أن تشاهد هذا الفيلم، إلا وتشعر، لحظة التفاعل مع مأسويته النافذة، أن جسمك بدوره قد أصيب بعدوى الوشم أو توشم وشوماً متعددة الجهات والإشارات، كما هي وشوم الجدة الأرمنية.
 الوشم علامة بصرية على الجسم، في جانب منه، ولعلها علامة تُقرَأ بالنظر، وتعلِمنا بتاريخ سابق ربما على الكتابة نفسها، بقدر ما تأخذ بنا بعيداً إلى ماض ٍموغل في القِدَم، بقدر ما تستشرف بنا عادات وأعراف شعوب وجماعات وأمم، حيث يعرّف الوشم بتاريخ ثقافات مختلفة لجماعات صغيرة وكبيرة، كما لو أنه الشاهد الحي والفصيح على مستجدات واقع. كأنّي بالسليلة : حفيدة الجدة وهي المخرجة والمقيمة في السويد، كأني بها أرادت أن تسرد حكاية شعب كامل، حكاية ذاكرة بصرية يمكن التمعن فيها بيسر في جسد منكوب أو مهدور داخلاً وخارجاً، وكأني بها فيما استرسلت فيه، أرادت أن تترجم هذه الوشوم، أو تمارس تفكيكاً لتاريخ معتَّم عليه، بطريقة ابتكارية من خلال الدفع بالجدة إلى الواجهة، رغم أنها في الخلف دائماً، وفي حالة الغائب، لأن المخرجة أو الحفيدة هي التي استلمت زمام أمور السرد، وقابلت قريباتها وأقرباءها في ارتحالاتهم القسرية في المغتربات، بين بيروت والسويد وأرمينيا…الخ، وبدت رحلتها البحثية عن سيرة حياة جدتها المركَّبة، سيرة متعدية لحياة امرأة عانت ما عانت جرَّاء مذابح الأرمن سنة 1915 وغيرها، بطريقة ذكَّرتنا بما قام بها مبدع رواية ( الجذور) لأليكس هالي، وقد تُلفزت روايته هذه، بين مسقط رأسه في أميركا وأصوله في أفريقيا، مع فارق أن المخرجة اتَّبعت طرقاً عدة للمّ شتات ذاكرة تناهبتها أمكنة وأزمنة، ومقابلة أشخاص شكَّلوا مراجع عن الجدة، كما لو أننا إزاء وضع آخر من الآلام ومعايشتها، كون التاريخ الأرمني المأسوي أكبر مما أحيط به أو نقل عنه. أن تكون الجدة هي المحور، فنظراً لمكانتها باعتبارها امرأة، وهي تتمكن من تمثُّل أدوار عدة في دور واحد، على صعيد الدلالات وعمق المأساة أكثر من الرجل، وهذا ينطبق على المخرجة من خلال العلاقة الأهلية والوجدانية، كما لو أنها أرادت أن تقول للمشاهد من الخارج ها إنني أعيش جدتي وأجدّد مأساتها في ذاكرة دوَّنت وشكلت تاريخاً للقراءة. يبدو التعامل مع الوشم في غاية الدقة واليقظة، لأنه متعدد المعاني نظراً لوظائفه وأدواره.

 إن الجدة الصامتة طوال الفيلم والخائفة من أي يد تمتد إليها، واللائذة بصمت رهيب، والمميزة بصعوبة عيشها حتى مع زوجها، كما يقول أفراد أسرتها، كانت بقدر صمتها اللافت بليغة، بما أنها أسلمت القياد للوشوم المختلفة، وهنا تكمن حكمة الفيلم الوثائقي أو يكون سره، إذ لو أنها انفتحت على الآخرين لفقد الفيلم ميزته التي من أجلها كان إخراجه. لعل المخرجة أرادت أن تقول عبر مطالعة بصرية نافذة للوشوم هذه: عندما يكون العنف الجسدي مضاعفاً، تتوقف اللغة، ويكون الخرس، وما على المعاين سوى أن ينفذ عميقاً، والوشوم هي التي تولت مهمة سرد تاريخ موغل في المأساة. وشوم معتبرة، متنافرة، ذات دلالات موزعة بين صورة العلم التركي والصليب على ظاهر يد الجدة، وما في ذلك من عنف ومقاومة صامتة حيث العلم إحالة إلى السلطة القامعة والاغتصابية لجسدها، وقد اغتصبت منذ الصغر على يد تركي، وهو اغتصاب جاء من ” الخلف” وما في ذلك من اغتصاب مضاعف مهين تماماً لإنسانيتها وما تمثله نسَبياً، والصليب في الجوار يشير إلى المأسور والمضحَّى به وليس مجرد الانتماء إلى الدين المسيحي، لتبقى بقية الوشوم التي غطت جسمها بدءاً من الوجه تعبيراً عن الذين” استلموها” وتركوا عليها بصماتهم، وقد جُرّدت من انسانيتها، كأن الوشم شكل عنفاً على عنف، وليس مجرد انتساب إلى جماعة أو للتعبير عن زينة معينة، إنما علامة قهر واستبداد، ونزع ما هو انساني أو استئصالي فيها، ويكون صمتها شاهد عيان على هذه المأساة المتجددة في التاريخ. كما لو أنها وهي في صمتها الكلامي، راهنت عبر المخرجة والحفيدة على النظر، لأن اللغة لا تفي بالغرض، ولأنها أيضاً لا تريد وهي في قمة الشعور بما هو أضحوي روحي ومدمَّى، أن تسحب الماضي صوب المستقبل، بقدر ما أرادت لمن جاؤوا من بعدها أن يتابعوا حياتهم، وربما لأنها تكتمت على انجراحها الروحي والإنساني، لأن مصيبتها أبعد من حدود التصديق لفظاعتها المأسوية، وتركتهم نهب اجتهاداتهم وتفاسيرهم وتأويلاتهم، كما لو أنها نقلت المشاهد من حالة الوثيقة الداخلة في مهام التاريخي ومما هو متحفي إلى مهام الجغرافيا الجسدية، إلى حالة الفن وقدرته على إحداث أثر مضاعف أكثر، كما هو الشعور الذي رافق متابعة حيثيات المشاهدة حتى اللحظة الأخيرة. الذين من حولها، وقد تشتتوا في الجهات الأربع، عاشوا المأساة، كلٌّ على طريقته، دون مفارقة جماعته والأصل الواحد للمأساة، وتناثروا في الجهات تعبيراً عن استمرارية الشتات، وتأكيداً على رعب الجينوسايد بعلامته التركية وصمت العالم المعني حول ذلك، لأن مجرد الاهتمام لا يعني مجرد التفاعل مع حدث يعاش ولا يروى فقط، لتكون أرمينيا وعبر سرد متقطع جرَّاء رعب المسرود من ” ماريا” الطاعنة في السن وهي تعيش رعب ما كان بدورها، لتكون أرمينيا كما قلتُ قِبلة الأرمني، والعزاء في أن تاريخاً يعاش لا بد أن يجمع شمل من تشتتوا، إنما دون نسيان الذاكرة الجريحة في العمق. ثانية، وبصدد جملة وشوم الجدة، أذكّر بالعلامة التي جعلها الرب لقابيل إثر قتله لأخيه هابيل في ” سفر التكوين” حتى لا يتعرض له أحد، أي شبح هابيل نفسه حيث الوسط المحيط به كان خلاء، هذه العلامة ربما كانت وشماً ما، في مكان معلوم مسايرة لتقليد قديم في سياق التعامل الوشمي الجسدي، أما بالنسبة لوشوم الجدة، فإن وشومها لم تخترها هي، إنما الآخرون الذين لا صلة لها بهم، إنها علاماتهم المتداخلة وحتى المتضاربة التي تدل عليهم، ونفي كل ما له صلة بالإنسانية عنها، وهي في صمتها وبقائها” جثة تمشي” كما ورد ذلك على لسان المخرجة، إنما تدين الجميع، بقدر ما تدين العالم الذي وقف وراء هؤلاء، كلٌّ حسب نوعية جرمه أو عنفه فيها، بقدر ما تخاطب العالم الذي تابعها على الشاشة، وتستجوب أصحاب الضمير عبر إشارة نافذة مرسلة من العين الأصدق إنباء من الأذن، سائلة عما يمكن فعله، بصدد مأساة معاشة تقولها عظام من دفنوا هنا وهناك، وليس في مرقدة وحدها، والتراب الشاهد على مذبحة تاريخية، لما يزل جناتها خارج قفص العدالة، وفي النقطة هذه يمكن مكاشفة الدور المنتظر للمعنيين بالعدالة عالمياً والاقتصاص من المجرمين. شكراً للمخرجة سوزان خارداليان على وثائقية فيلمها، وشكراً للصديق أنطوان أبرط على سلاسة الترجمة، وللحذق جاك على نباهته في التنفيذ، حيث وشوم الجدة الأرمنية ترافقت مع لغة لم تجارها، ولكنها أدت مهمتها في تبين مأساتها.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…