إبراهيم اليوسف
ثمة أسئلة كثيرة، باتت تطرح بعد الانتشارالعمودي والأفقي لوسائل الإعلام الحديثة،على مستوى عالمي، يتجاوزالخريطة الوطنية والقومية، مفادها: إلى أية درجة تخدم هذه الوسائل العملاقة الحالة الثقافية؟، وهل إنها أمينة في إعطاء الصورة الفعلية للمشهد الثقافي؟، أم أنها تقدمه بشكل اعتباطي؟، وهل أن في تناول الإعلام للثقافة دفعاً لها إلى الأمام، وغيرذلك من الأسئلة الكثيرة الكبرى، والمشروعة التي لابد وأن تثار، مع تحقيق وسائل الإعلام، عبر ثورتها، خطوات هائلة، إلى الأمام، إلى الدرجة التي قد أصبحت المعلومة التي تقدمها هذه الوسائل، ثقافية أوخبرية، هي الأبرز، بل باتت تهيمن على كل ماهو ثقافي وإعلامي، في الوقت الذي كانت العلاقة بين الثقافي والإعلامي، تتساوق ضمن معادلة، تحفظ لكل منهما خصوصيته.
وبدهي، أنه إذا كان إعلام ماقبل الثورة المعلوماتية، متقيداً بسياساته الخاصة، في تقديم الثقافي، حيث كنا نجد على سبيل المثال مواهب إبداعية ذات أفق محدد، يتم تسليط الضوء عليها، وعلى إنتاجها بطريقة مائزة، بحيث يتم تسويق ما تقدمه، من خلال المساحة الإعلامية التي كانت تشغلها، بيد أننا كنا نجد -في المقابل- أصواتاً إبداعية ثقافية، ثرَّة، بارزة، كان يتم التعتيم الإعلامي، لذلك فإنها كانت تعيش مهمَّشة، من دون أن تأخذ حظها الإعلامي اللازم، وهذا ماكان يجعلها أسيرة حدود معينة، إلى حين، تحشرج، وتحتضر فيها، إلى أن تجد فرصتها في تقديم أوراق كفاياتها، إذ إن مجمل أساليب التعتيم -في الأصل- لاتستطيع أن تقف في وجه الإبداع الحقيقي، ولعلنا قد وجدنا أن أسماء إبداعية معينة، في بعض دول العالم، كان يتم تهميشها، إلا أنهااستطاعت أن تظهر، ويقوَّة، بعد سقوط سطوة تلك الآلة الإعلامية المهيمنة، هذه الآلة التي كانت تقدم -أحياناً- مواهب جد عادية، وتحاول النفخ فيها، وهوما كان يحدث في ظل الإعلام الشمولي و الأحادي،عادة، هذا الإعلام الذي بات يغير تكتيكاته، واستراتيجياته، دفعة واحدة، بعد انتشاروسائل الإعلام الجديدة، بطريقة حرباوية، مبدلاً ثيابه القديمة، بأخرى جديدة، بيد أن جوهره يظلُّ -كما هو- إلا أن ما تغير، بات كامناً في اتساع دائرة الإعلام الجديد، وقوة فعاليته، ودرجة تأثيره..!
إن الإعلام الجديد، وهوفي أغلبه يعتمد على الصورة الإلكترونية، التي أصبحت أداته الرئيسة، بعدأن حاول مزاحمة الإعلامين المقروء والمسموع، وإن كان هذان الإعلامان سيتكآن على إنجازاته، بدافع غريزة البقاء، صاريقدم ثقافة معينة، تتماشى مع طبيعة اللحظة، حيث قد يتيح الفرصة لوجهة نظر ثقافية، محددة، أن تقدم ذاتها، وأسئلتها، ورؤيتها، ولو كانت لاتتجاوز مرحلة “القشور” في الوقت الذي قد تلجأ فيه، إلى التصامم، تجاه أية وجهة نظر،لاتتحقق فيها المواصفات المطلوبة من قبلها، كي تزيحها إلى الهامش، ولو كانت جوهرية، حيث أن ما حدث ينم عن أن السياسات المتحكمة بالإعلام، على مستوى عالمي، ظلت أرومة رؤاها، كماهي، في مايتعلق بتقسيم المشهد الثقافي، إلى عالمين، عالم يجسد رؤيتها، وآخرغير منسجم معها، لذلك فإنها تتشبث بماهو قريب منها، تتيح له وسائل الترويج المطلوبة، حتى يمارس فعله، ويحقق خصيصة الاستقطاب الرؤيوي، بالشكل المخطط والمرسوم له من قبل واضعي مثل تلك السياسات الإعلامية، عالمياً.
إن تقدّم وسائل الإعلام على نحوهائل، وضعنا أمام الإشكال القديم نفسه، في علاقة الإعلامي بالثقافي، حيث نحن هنا، أمام إعلامين، متناقضين، يتمحوركل منهما حسب منظومة رؤاه، على السلم التدريجي لجوهرثنائية أخرى، هي وفق اللغة الرياضية “السالب والموجب”، تماماً، حتى وإن كان وجه الصراع، مضمراً، غير مرئي، بل قد يلاحظ ثمة تداخل بين حدودهما، حيث إن من شأن الإعلام غيرالمبني على أسس تتوخى خدمة الثقافة الجادة، أن يتماهى في لبوس هذه الثقافة، حرباوياً،بيد أنها لاتسهو البتة، عن أداء المهمات المنوط بها، على أكمل وجه، مادام أنه يتم الترويج لما هو استهلاكي، عبر تكريس انزواء ماهو نافع، وقد يبدو كل ذلك غير واضح للعيان، للوهلة الأولى،لاسيما، عندما يستخدم الإعلام الاستهلاكي لغة المعرفة الأصيلة، في إطارمحاولات إلغائه.
أجل، كل هذا ليتطلب، الانتباه والحذر الشديدين، في قراءة ثنائية الإعلام والثقافة، وذلك من خلال إبراز معالم الثقافتين الأصيلة، والمتهافتة، كل منهما على حدة، والسعي الدؤوب للنهوض الفعلي بكل دعامات الثقافة المتوخاة، بتبيان تفاصيلها ومفرداتها الصغيرة، والخطوط العريضة التي تسمها، إلى جانب تحقيق معادلة الارتقاء بالإعلام الجاد، ليكون في مستوى السؤال الثقافي، واضح الرؤية، والهدف، إلى الدرجة التي تحقق السمو الجمالي المعرفي، بأعلى أشكاله، في خدمة الفرد، لئلا يتم تضخيم ماهو قشري، هامشي، وتقزيم ماهو أصيل، جوهري، حيث هنا تماماً لبّ المشكلة الكبرى، أو نواة الحرب القديمة الجديدة…!