أهل الحق أو اليارسان طائفة باطنية كردية (مخطوط غير مطبوع سيصدر قريباً عن دار الزمان في دمشق)

دحام عبدالفتاح

الحلقة الثانية 

إن التاريخ الحقيقي  لنشأة مذهب هذه الطائفة الدينية غامض ، يلفه ضباب من تضارب الأقوال ، وليس بين أيدينا ما نستند عليه أو نستدل به على تكوناته و امتداداته الأولى . ومما ساهم في غموض تاريخ هذه الطائفة هو لجوؤها ، كبقية الطوائف الدينية والفلسفية (الباطنية) إلى إتباع مبدأ التقية في التستر على مبادئها وعقائدها بإظهار سياسة توفيقية تصالحية إزاء الآخرين المخالفين خشية البطش بهم ، إضافة إلى تداول  المبادئ والتعاليم الدينية الشفهي (غالباً) بين القوم بقصد إخفائها عن مسامع الآخرين في المحيط المخالف عقائدياً .
من هنا جاءت شحة المعلومات التوثيقية لدى الدارسين والمتتبعين . ومن هنا أيضاً كان اختلاف الرواة والباحثين في أحكامهم التاريخية واستدلالاتهم المعرفية المتعلقة بشأن الطائفة ومعتقداتها وممارساتها الطقسية . فبعضهم انطلق من مواقف مذهبية ودينية مخالفة فأسقط في حكمه ما في النفس من ترسبات تراكمية وكتب عن القوم ما اتفق مع أهوائه وبعضهم اعتمد على جهة محددة في نقله للمعلومات عنهم دون تمحيص المنقول والبحث فيه للتفريق بين المعقول واللامعقول .
وهناك من حاول ويحاول جاهداً في البحث الموضوعي عن الجذور الحقيقية الأولى لهذا المذهب الضبابي وعن سِرّ هذا الألق الروحي المتوهج في أشعار الحاج نعمت الله والشيخ أمير ، وفي رباعيات بابا طاهر العريان ،([1]) المتدفقة بشظايا روحه أو في حرقة الزفرات المتصاعدة من صدور أولئك الدراويش ( الكلام خوان ) وهم يتلون ” الكلام ” المقدس أو ينشدونه للحقيقة التي تملؤهم إيماناً وذهولاً .
وفي ما يلي بعض الآراء لبعض الباحثين  فيهم :
–  يقول محمد أمين زكي : ” كان أهالي كردستان الشرقي (في غرب هراة) قبل الإسلام يعتنق بعضهم عقائد غريبة . فكانت راسخة فيهم رسوخاً كبيراً لدرجة أنها لم تتغير كثيراً بعد دخولهم الإسلام …. فإن أهالي (أرنيل) أو (رمال) الواقعة في كردستان الشرقي كانوا يعتقدون بالتناسخ وعبادة الشمس . ولما دخلوا الإسلام كان من السهل أن ينتحلوا نِحلة ” علي إلهي ” ([2])  .
–  ويذهب الأب توماس بوا بعد إطلاعه على كتاب “الباطنية الكردية ” إلى القول : ” … يمكننا أن نعلق أخيراً على الجذور الأولى لهذه الطائفة والمبادئ التي يجب أن نعترف بأنها اليوم بعيدة عن الإسلام . فعلى الرغم من مساعي المؤلف ( نور علي شاه ) في أن لا نرى فيها سوى اختلافات ظاهرية ، فبالتأكيد يمكننا أن نجد فيها أفكاراً  غنوصية من الإفلاطونية الحديثة ونجد أيضاً بقايا من المانوية والمزدكية الإيرانية ” ([3]) واضح أن رأي الأب بوا مستخلص من قراءته لكتاب ” الباطنية الكردية ” وحسب رأيه فقد توصل إلى نتيجة مفادها أن مذهب القوم بعيد عن الإسلام وأنه ذو صلة عقائدية بالديانة المانوية والمزدكية . وهذا رأي لافت سنقف عنده لاحقاً .
–  أما فلاديمير مينورسكي فأنه يعيد نشأة مذهب الجماعة تاريخياً إلى نهايات القرن الرابع عشر وبدايات الخامس عشر ، في عصر كثرت فيه الحركات السياسية والدينية في العالم (الإيراني – العثماني) الذي تُوِّجَ بتأسيس السلالة الصفوية في إيران ([4])
يبدو أن مينورسكي يحدد أسباب نشوء مذهب أهل الحق بتلك الحركات السياسية والدينية التي ظهرت في منطقة الصراع المذهبي بين إيران الشيعية والسلطنة العثمانية السنية ، دون أن يعير أي اهتمام لتلك الظواهر الروحية التي كانت تُشاع بشكل مدهش ، في  مجتمع فلاحي أمي جاهل ، مثل ولادة السلطان إسحاق المعجزة ، وما رافق تلك الولادة وما تلاها من أمور خارقة تأخذ بالألباب . فاجتمع الناس حوله ونقلوا عنه المعقول واللامعقول ، بما في ذلك ظاهرة تجسد الذات الإلهية ، فسلموه أمرهم (Sersipardan ) .
ثم إن مذهب أهل الحق هذا ، كان قد ظهر قبل عصر الصراع المذهبي السياسي بين الإيرانيين والعثمانيين بأربعة قرون تقريباً ، أي عند ظهور الشاه ” خوشين ” في لورستان في القرن الرابع الهجري ( بداية القرن العاشر الميلادي ) .
–  في مقالته البحثية القيمة حول كتاب (شاهناميي حقيقت) يذكر الأستاذ فؤاد عبدالرحمن ، أن الباحث ” گُلمرادي مرادي ” يقول : إن اليارسان يسكنون اليوم في إيران وتركيا وأذربيجان والعراق وسوريا ، إضافة إلى الهند والباكستان وأفغانستان . ويبلغ عددهم نحو أربعة ملايين نسمة . وهم ليسوا شيعة ولا سنة ، ولاهم علويون أيضاً ([5]) .
ما يهمنا من هذه المقولة في هذا السياق ، هو أنهم أتباع مذهب أو دين لايمت بصلة إلى المذاهب الإسلامية المذكورة (الشيعة – السنة والعلويين) .
–  وفي المصدر السابق ذاته ، يذكر الأستاذ فؤاد عبد الرحمن ، أن الدكتور محمد مكري ، الباحث في مذهب أهل الحق ، يقول : إن طائفة أهل الحق هم في الأصل يرجعون إلى ديانة سنسكريتية قديمة ، لكن بشكل أكثر تطوراً . فقد تأثروا بأفكار الديانات الإيرانية القديمة من طقوس روحية وإشراقات عرفانية (هرمزية) .
عرضنا في ما سبق آراء خمسة من الباحثين في أصول مذهب أهل الحق ونشأة عقائدهم . وباستثناء رأي مينورسكي ، فإن الأربعة الباقين أجمعوا على أن الجذور الأولى لمعتقداتهم ترجع إلى مبادئ وطقوس الديانات الهند – إيرانية القديمة . وهو الرأي الذي أجدني أكثر انحيازاً إليه .
…. يتبع

[1] – هو أشهر دراويش الشاه ” خوشين ” وأقرب مريديه إليه . تُروى عن كشوفاته العرفانية ، وقرضه المفاجئ للشعر حكايات أسطورية وضعته في منزلة الأولياء ذوي الكرامات المعجزة .

[2] – محمد أمين زكي : خلاصة تاريخ الكرد وكردستان . لبنان (1985) – ص (289) .

[3] – الأب توماس بوا ( مقالته في الكتاب ).
[4] – فلاديمير مينورسكي : أهل الحق – الموسوعة الإسلامية – طبعة ثانية ( الكتاب ) .
[5] – فؤاد عبد الرحمن : مجلة ” سَرْدَم ” Serdem)) باللغة الكردية العدد (84) لعام (2009) – السليمانية – كردستان العراق .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…