إبراهيم محمود
يبدو أن الباحث في الرياضة والكاتب القصصي ملكون ملكون، وهو من منطقة القامشلي، يبدو عليه معنياً بدور التاريخ في تشكيل القصة، أو إخضاعها للمؤثرات الواقعية التي تسجَّل في الحراك التاريخي.
يبدو أن الباحث في الرياضة والكاتب القصصي ملكون ملكون، وهو من منطقة القامشلي، يبدو عليه معنياً بدور التاريخ في تشكيل القصة، أو إخضاعها للمؤثرات الواقعية التي تسجَّل في الحراك التاريخي.
ولعل الناظر في مجموعتيه القصصيتين المنشورتين حتى الآن( حارس الكآبة-2002)، والصادرة عن مركز الإنماء الحضاري، حلب في طبعتها الأولى، و(أبواب الحنين-2012)، حيث لم تورد اسم دار النشر، ولا مكان الطبع، وهي التي ورد فيها ذكر تاريخ الطبعة الأولى للمجموعة القصصية سالفة الذكر، لعل الناظر يلاحظ مدى تقبُّل الكاتب لفعل التاريخ بجملة وقائعه في تشكيل الحدث الفني: القصصي، لا بل ورسم الخطوط العريضة، النفسية والثقافية والاجتماعية، لقائمة القصص التي وردت في تينك مجموعتيه، بغضّ النظر- قبل كل شيء- عن مدى تجلّي الدمغة الفنية فيهما.
ثمة ما يؤرّقه ويورّق فيه الرغبة بتحويل هذا الأرق الذاتي والاجتماعي، وقد تمازجا معاً، وبنسب متفاوتة، إلى مضمار الكتابة القصصية، تحت طائلة شعور بالمسئولية، وفحواه: إن القصة هي ذاتها نوع من التأريخ لما يجري في وسطنا، إنما بطريقتها الخاصة، حيث المشاهد الملتقطة، والأسماء، ولعبة الخيال والواقع وتداخلهما، من المكوّنات المفعَّلة في هذه القصة أو تلك، وفي الوقت الذي يمكن القول بداية، وانطلاقاً من حرَفيته في الكتابة الرياضية، يظهر أن الذي يتناسل على يديه الفنيتين قصصياً، يحيله إلى جمهرة لاعبين، وإذ به، جرَّاء هذا الانتثار الأدبي، يتكاثر بمستويات مختلفة، ليكون قارئه ذا الأوصاف المتبدلة، كونه ليس واحداً، وهو يعيش التفاوت في أداء اللاعب، ومهارات التمرير للكرة” وفي القصة تكون الجملة الأدبية، أو الوصف، أو الصورة الشعرية..الخ”، ومدى التجاذب والتفاعل بين اللاعبين: مكونات القصة كاملة، وما تكونه النتيجة، كما لو أننا إزاء تسجيل أهداف مرتقبة، وذائقتها الجمالية، وصدى اللعبة، عبر متخيَّل القارئ..
أزمنة اللعبة مختلفة من قصة إلى أخرى، وفي هذا المنحى يكون ثمة اختلاف عن أرض الملعب والمساحة والمدرجات، وزمن اللعب والتوقيت، إنها الأزمنة التي تتطلبها كتابة القصة الواحدة، ومدى انفتاحها على أكثر من واقعة فعلية وخيالية، وليكون استمرار اللعب كأداء يجري تذوقه لاحقاً، تبعاً لمستوى المتعامل، ومدى قدرة القصة على تأكيد نسبَها الفني.
وبين مجموعة قصصية، هي ( حارس الكآبة) تبوح بسلسلة من الانكسارات والبوح الذاتي بما هو حطامي، كما هو مغزى العنوان نفسه، في ثماني عشرة قصة متفاوتة الطول، تبدأ بمقبوسات بمثابة الاستهلال لكل قصة، باستثناء أربع قصص( ورود صفراء حزينة- بوح المرايا- غرباء- صور)، وتنتهي بتأريخ للقصة مع ذكر المكان، واليوم والشهر والسنة، وحيث تتراوح ولادات القصص بين أعوام 1998-2001، إنما في القصص الثلاث الأولى، والبقية كافة، تأتي مؤرخة بذكر فصل سنوي، والسنة فقط، عدا عن أن ثمة قصة واحدة غير مؤرخة نهائياً، وهي الأخيرة، أي(صور)، ودون مقبوس استهلالي، ولكل حالة ترجمة نفسية وثقافية، وإمكان توقف عندها لمقاربة أكثر عمقاً، لحقيقة هذا الجاري، على الأقل، عند الأخذ بأن ليس هناك من هدر أو جواز إهمال أي شيء وارد في القصة، أنَّى كان الموقع أو المقام، حيث إن كلية القصة هي التي تعلِمنا بذلك، ويبقى القاص في معبر أسئلة قارئه أو ناقده، سواء عبر التحامه الشعوري بما كتبه، أو انفصاله عنه، لأن القصة تسمّيه، ولكل إشارة تكون علامة فنية وترجمة أثر جمالي ما، تخضع من خلاله أو دونه، وتبعاً لنوعية القراءة، لشد وجذب واستقراء، وسبر كل شاردة وواردة فيها.
ومجموعة قصصية حديثة الظهور أو النشر جداً( أبواب الحنين)، وفي الأسفل وضعت مفردة( نوستالجيا) بالأجنبي، ليكون في هذه العنونة مأثور فني آخر، لأن المفردة هذه لا تقابل العنوان العربي، بقدر ما تعني( الحنين) فقط، وهو حنين يتصدر الواجهة النفسية في المجمل، اعتماداً على فعالية الذاكرة حيث نكون إزاء إحدى عشرة قصة، متقاربة في الطول( بين ثلاث وأربع صفحات في المجمل)، باستثناء ثلاث قصص تتفاوت بدورها في الطول، وهي في مقاطع، حيث تكون القصة الأخيرة( هذيان) هي الأطول، إنما تكون في كليتها عموماً غير مؤرخة البتة، ويبقى التداخل مع المجموعة الأولى، جهة المقبوس، ومدى صلته بالمحتوى، كاستهلال لكل قصة، وبالنسبة للطول نسبياً في النقاط المشار إليها.
والسؤال، هو: كيف يمكن مقاربة هذه القصص في سياق العلاقة بين حديث السرد وحدث المجموعتين القصصيتين؟
أزمنة اللعبة مختلفة من قصة إلى أخرى، وفي هذا المنحى يكون ثمة اختلاف عن أرض الملعب والمساحة والمدرجات، وزمن اللعب والتوقيت، إنها الأزمنة التي تتطلبها كتابة القصة الواحدة، ومدى انفتاحها على أكثر من واقعة فعلية وخيالية، وليكون استمرار اللعب كأداء يجري تذوقه لاحقاً، تبعاً لمستوى المتعامل، ومدى قدرة القصة على تأكيد نسبَها الفني.
وبين مجموعة قصصية، هي ( حارس الكآبة) تبوح بسلسلة من الانكسارات والبوح الذاتي بما هو حطامي، كما هو مغزى العنوان نفسه، في ثماني عشرة قصة متفاوتة الطول، تبدأ بمقبوسات بمثابة الاستهلال لكل قصة، باستثناء أربع قصص( ورود صفراء حزينة- بوح المرايا- غرباء- صور)، وتنتهي بتأريخ للقصة مع ذكر المكان، واليوم والشهر والسنة، وحيث تتراوح ولادات القصص بين أعوام 1998-2001، إنما في القصص الثلاث الأولى، والبقية كافة، تأتي مؤرخة بذكر فصل سنوي، والسنة فقط، عدا عن أن ثمة قصة واحدة غير مؤرخة نهائياً، وهي الأخيرة، أي(صور)، ودون مقبوس استهلالي، ولكل حالة ترجمة نفسية وثقافية، وإمكان توقف عندها لمقاربة أكثر عمقاً، لحقيقة هذا الجاري، على الأقل، عند الأخذ بأن ليس هناك من هدر أو جواز إهمال أي شيء وارد في القصة، أنَّى كان الموقع أو المقام، حيث إن كلية القصة هي التي تعلِمنا بذلك، ويبقى القاص في معبر أسئلة قارئه أو ناقده، سواء عبر التحامه الشعوري بما كتبه، أو انفصاله عنه، لأن القصة تسمّيه، ولكل إشارة تكون علامة فنية وترجمة أثر جمالي ما، تخضع من خلاله أو دونه، وتبعاً لنوعية القراءة، لشد وجذب واستقراء، وسبر كل شاردة وواردة فيها.
ومجموعة قصصية حديثة الظهور أو النشر جداً( أبواب الحنين)، وفي الأسفل وضعت مفردة( نوستالجيا) بالأجنبي، ليكون في هذه العنونة مأثور فني آخر، لأن المفردة هذه لا تقابل العنوان العربي، بقدر ما تعني( الحنين) فقط، وهو حنين يتصدر الواجهة النفسية في المجمل، اعتماداً على فعالية الذاكرة حيث نكون إزاء إحدى عشرة قصة، متقاربة في الطول( بين ثلاث وأربع صفحات في المجمل)، باستثناء ثلاث قصص تتفاوت بدورها في الطول، وهي في مقاطع، حيث تكون القصة الأخيرة( هذيان) هي الأطول، إنما تكون في كليتها عموماً غير مؤرخة البتة، ويبقى التداخل مع المجموعة الأولى، جهة المقبوس، ومدى صلته بالمحتوى، كاستهلال لكل قصة، وبالنسبة للطول نسبياً في النقاط المشار إليها.
والسؤال، هو: كيف يمكن مقاربة هذه القصص في سياق العلاقة بين حديث السرد وحدث المجموعتين القصصيتين؟
كآبة الحارس وحنينه الداخلي
أزعم هنا، أن لدى الكاتب جملة من المسوّغات التي حفَّزته على أن يطرح قصصاً مأهولة بهكذا كآبات فارقة؟
لا شأن لنا، كقرّاء بكآبته المتحولة، إنما ثمة علاقة بالذائقة الجمالية لمفهوم الكآبة في مضمارها الفني!
في قصصه الثماني عشرة، تكون الكآبة، إما مدخلاً إليها، أو نتيجة مستخلصة منها، وفي الحالتين، يظل التوتر الذي هو في جوهره نتاج علاقات قائمة بين فاعل الكتابة، وهو السارد بأكثر من ضمير: متكلم، غائب، حاضر، فردي في الغالب، وهو ليس أكثر من هذا المجتمع الذي يجلو حقيقة الجاري، إنما من منظور سارد الحدث بمفهومه القصصي لدى الكاتب.
ربما يصدم قارئ المجموعة هذا الكمُّ اللافت من الكآبة، وهي تعني انقباض النفس، الارتطام بالواقع، لأن ثمة ما دفع بهذا المكتئب بحالته النفسية إلى إعلان الانسحاب إلى الداخل، وربما اعتبار القطيعة بالتالي، نوعاً من رسم الحدود بين الذات والآخرين، ربما يصدمه في كل متابعة لقصة حتى الأخير، هذا الضخ لعبارات التوتر والقلق وتلك السوداوية المستدعاة، حيث أستثني هنا قصة( الصباح لا يمل الإشراق)، رغم أن الأمل الذي يعرّف بالسارد، قد يستدرجه ويدفع به إلى الدائرة الكاملة التي تتحكم بعموم القصص في كآبة القائم في الداخل، إذ لا شيء يبرر فرح المتكلم والرحالة، لأن ما يعيشه وما يراه يحثه على البقاء مستفزاً، حتى الأشياء تتلبس لبوس حالته( علبة السجائر تحتضر.. والأعصاب تغادر مقعدها الوثير. ص 76)، ليجد نفسه وهو يقرر السفر، وقد غيَّر اتجاهه( ثم فنجان قهوة آخر… وأنظر حولي لأكتشف الوطن في الصباح… مازال جميلاً مشرقاً… أنا لم أمت… لم أمت إذاً… مازلت على قيد الوطن…! ص 77).
والحديث عن الكآبة المفعَّلة أو ممكنة التصور أو التوقع، حديث قائم من جهة الدافع الذي استبقى السارد، مغيَّراً فكرة السفر، لكن الذي عاشه ورآه وتفاعل معه، لا ينتقل بقارئه إلى جواره وتصور القادم فرحاً، إنما يكون قبضاً على الجمر، وما يمكن أن يستولده هذا المسار المعاكس، أي بقاء الكآبة في الانتظار، كحدث متفرع ومتلون ومشرش في النفس.
تقرَأ قصص المجموعة وكأنها أصوات مختلفة” تعددية أصوات” في مسرحية حداثية، يؤديها ممثل واحد، ويتحكم بمخارج الصوت وإيقاعاته ذات التوتر المتفاوت، مسرحية تراجيدية سوداء، والحدث المهيمن على فضاء الخشبة، هو استحالة البحث عن ملاذ آمن، لأن الذين يكونون معنيين به يبدون كما لو أنهم منقرضون، أو لا ينفكوا يفسخون هذا العقد الودي.
سرد يطال اللغة في جانبها الوصفي الذي يغلب المجموعة، يلازم صدوع الحاصل في البنية المجتمعية، ودوران زوبعي في المكان رغم اختلافه، إن توقفنا عند علاقة الأب بطفله المقعد، وعدم قدرته على تغيير مصيره، وهو حلمه، أمله، إرادته التي قرّر مصيرها، رغم الشعور بأن ثمة ما يراود الأب بأن الحياة لا بد أن تعاش، لكنها باهظة التكاليف، وفي يوم نموذجي: يوم العيد، وهو يراه، يرى طفله( وتنزوي عند النافذة تموء مواء غامضاً وعلى ثغرك ترتسم ابتسامة ما. ص 12)، وكأني بالسارد، ممثل دور الأب، على بيّنة من وطأة المعاش في الداخل، ولاحقاً، والخوف من الآتي.
إلى الباحث عن نقطة أمان، وهو رحالة من نوع آخر، حيث الرحيل سعي إلى مغادرة أو مفارقة مكان وطلب غيره، رغبة في الاستقرار السعيد، ومن خلال سارد متكلم عمن يكون محرّك الحدث وهو المعنَّى( من يمد له طوق النجاة؟؟- من يجرف الثلج عن طرقات أحزانه؟؟- من يذيب الصقيع عن لحظاته؟؟..ص 17)، إلى المصدوم بما يجري في مدينته، وجريرة الدائر( صمت مطبق يخيم على المدينة… هناك ما يشبه المؤامرة على ما حدث. جميع الناس يغسلون أيديهم من دمائه.. ص 29)، إلى الحياة العبثية والصادمة لحفار وابنه وقد صار مثل ابنه يحترف مهنة حفر القبور للناس، ليجد نفسه في مواجهة ما لم يكن يتمناه: موت ابنه، أي يكتشف مرارة ما كان يخشاه أو يتجاهله، كما لو أنه الاستثناء فيما كان عليه طبعاً( الموت يصفعني… الحزن يزور أحاسيسي يا لهول الموت… يا لفظاعته.. ص 46)، إنها مجموعة من العبارات المتداخلة والتي تؤكد في جملتها على حدث صادم، لا عهد للمأخوذ بالغفلة” حفار القبور” به، وفي وهم العيش.
إلى الشعور الجماعي بأن لا شيء يستدعي الفرح، عبر سرد بلسان مجموع، وانتقال من عنف إلى آخر، عنف معاش، وعنف يتجاوز الحسي، أي يبرز غيبياً، كأنه يسمي القدر، ودونما أمل( الغربة تهطل دموعاً على نوافذ بيوت مدينتنا، والمدينة تنتظر كل صباح ساعي البريد الذي يخطئ العناوين. ص 71)، إلى حالة التسلل إلى الأبعد مما هو داخل في نطاق الحدث الفعلي، حيث يتخذ السرد طابعاً من تفعيل الأقوال اللصيقة بما هو نفسي وشعري، وما في ذلك من مجابهة، وعبر تداعيات واستدعاءات متكررة( أقف في العراء كنخلة عنيدة… أقف في العراء كنخلة مائلة…- أقف وحيداً في العراء كنخلة شمطاء…- أقف وحيداً في العراء كنخلة عنيدة..)، وليكون المنتظر، باعتباره صفعة على المعاش وله، وربما حكماً بالإعدام عليه، فيما لم يعد يُرجا منه شيء( أركع بخشوع وأصلي بتضرع لله فلم يبق لنا إلا هو.. ص 104)، رغم أن هذه الانتقالات ليست موسمية، إنما أشبه بقرار متخذ، في سياق موسم الهجرة الدائم إلى” الله”، وما يعنيه هذا التوجه من عدم الالتفاتة إلى الوراء، وإشعار الآخر أن ثمة الكثير من المآسي مؤرشفة في الذات، فاضت على الروح..
قد يكون في الوسع الحديث عن تشنجات، عن حالات عطب نفسية، تتملك هذا السارد تحت أسماء ومسميات مختلفة، ورغم عن العديد من الأمثلة من الحالات التي يكون فيها هذا السارد مجانياً فيما ينطلق منه ويتوقف عنده ويخلص إليه كنتيجة، لأن حالة البتر اللغوية، وذلك المشهد الحِدادي الذي يسم عالم المجموعة يوحي بذلك، إلا أن هذا الشعور النبيل بالذات، يقابل شعوراً بوجود جسد مدمى، جسد كائن لا أظنه ينتشي بهذه الدفوعات المستمرة من العذابات ومعاقرة هذا الكم الهائل من الأوجاع أو السوداوية، ولنكون إزاء ما لا نريد قوله أو معايشته، ولكنه الواقع الذي لا مفر من مواجهته، أومن التوقف عنده، وحتى الاستسلام بوجوده، مهما تضاءلت القناعة هنا، عبر مستويات التلقي للقصة هذه أو تلك.
أزعم هنا، أن لدى الكاتب جملة من المسوّغات التي حفَّزته على أن يطرح قصصاً مأهولة بهكذا كآبات فارقة؟
لا شأن لنا، كقرّاء بكآبته المتحولة، إنما ثمة علاقة بالذائقة الجمالية لمفهوم الكآبة في مضمارها الفني!
في قصصه الثماني عشرة، تكون الكآبة، إما مدخلاً إليها، أو نتيجة مستخلصة منها، وفي الحالتين، يظل التوتر الذي هو في جوهره نتاج علاقات قائمة بين فاعل الكتابة، وهو السارد بأكثر من ضمير: متكلم، غائب، حاضر، فردي في الغالب، وهو ليس أكثر من هذا المجتمع الذي يجلو حقيقة الجاري، إنما من منظور سارد الحدث بمفهومه القصصي لدى الكاتب.
ربما يصدم قارئ المجموعة هذا الكمُّ اللافت من الكآبة، وهي تعني انقباض النفس، الارتطام بالواقع، لأن ثمة ما دفع بهذا المكتئب بحالته النفسية إلى إعلان الانسحاب إلى الداخل، وربما اعتبار القطيعة بالتالي، نوعاً من رسم الحدود بين الذات والآخرين، ربما يصدمه في كل متابعة لقصة حتى الأخير، هذا الضخ لعبارات التوتر والقلق وتلك السوداوية المستدعاة، حيث أستثني هنا قصة( الصباح لا يمل الإشراق)، رغم أن الأمل الذي يعرّف بالسارد، قد يستدرجه ويدفع به إلى الدائرة الكاملة التي تتحكم بعموم القصص في كآبة القائم في الداخل، إذ لا شيء يبرر فرح المتكلم والرحالة، لأن ما يعيشه وما يراه يحثه على البقاء مستفزاً، حتى الأشياء تتلبس لبوس حالته( علبة السجائر تحتضر.. والأعصاب تغادر مقعدها الوثير. ص 76)، ليجد نفسه وهو يقرر السفر، وقد غيَّر اتجاهه( ثم فنجان قهوة آخر… وأنظر حولي لأكتشف الوطن في الصباح… مازال جميلاً مشرقاً… أنا لم أمت… لم أمت إذاً… مازلت على قيد الوطن…! ص 77).
والحديث عن الكآبة المفعَّلة أو ممكنة التصور أو التوقع، حديث قائم من جهة الدافع الذي استبقى السارد، مغيَّراً فكرة السفر، لكن الذي عاشه ورآه وتفاعل معه، لا ينتقل بقارئه إلى جواره وتصور القادم فرحاً، إنما يكون قبضاً على الجمر، وما يمكن أن يستولده هذا المسار المعاكس، أي بقاء الكآبة في الانتظار، كحدث متفرع ومتلون ومشرش في النفس.
تقرَأ قصص المجموعة وكأنها أصوات مختلفة” تعددية أصوات” في مسرحية حداثية، يؤديها ممثل واحد، ويتحكم بمخارج الصوت وإيقاعاته ذات التوتر المتفاوت، مسرحية تراجيدية سوداء، والحدث المهيمن على فضاء الخشبة، هو استحالة البحث عن ملاذ آمن، لأن الذين يكونون معنيين به يبدون كما لو أنهم منقرضون، أو لا ينفكوا يفسخون هذا العقد الودي.
سرد يطال اللغة في جانبها الوصفي الذي يغلب المجموعة، يلازم صدوع الحاصل في البنية المجتمعية، ودوران زوبعي في المكان رغم اختلافه، إن توقفنا عند علاقة الأب بطفله المقعد، وعدم قدرته على تغيير مصيره، وهو حلمه، أمله، إرادته التي قرّر مصيرها، رغم الشعور بأن ثمة ما يراود الأب بأن الحياة لا بد أن تعاش، لكنها باهظة التكاليف، وفي يوم نموذجي: يوم العيد، وهو يراه، يرى طفله( وتنزوي عند النافذة تموء مواء غامضاً وعلى ثغرك ترتسم ابتسامة ما. ص 12)، وكأني بالسارد، ممثل دور الأب، على بيّنة من وطأة المعاش في الداخل، ولاحقاً، والخوف من الآتي.
إلى الباحث عن نقطة أمان، وهو رحالة من نوع آخر، حيث الرحيل سعي إلى مغادرة أو مفارقة مكان وطلب غيره، رغبة في الاستقرار السعيد، ومن خلال سارد متكلم عمن يكون محرّك الحدث وهو المعنَّى( من يمد له طوق النجاة؟؟- من يجرف الثلج عن طرقات أحزانه؟؟- من يذيب الصقيع عن لحظاته؟؟..ص 17)، إلى المصدوم بما يجري في مدينته، وجريرة الدائر( صمت مطبق يخيم على المدينة… هناك ما يشبه المؤامرة على ما حدث. جميع الناس يغسلون أيديهم من دمائه.. ص 29)، إلى الحياة العبثية والصادمة لحفار وابنه وقد صار مثل ابنه يحترف مهنة حفر القبور للناس، ليجد نفسه في مواجهة ما لم يكن يتمناه: موت ابنه، أي يكتشف مرارة ما كان يخشاه أو يتجاهله، كما لو أنه الاستثناء فيما كان عليه طبعاً( الموت يصفعني… الحزن يزور أحاسيسي يا لهول الموت… يا لفظاعته.. ص 46)، إنها مجموعة من العبارات المتداخلة والتي تؤكد في جملتها على حدث صادم، لا عهد للمأخوذ بالغفلة” حفار القبور” به، وفي وهم العيش.
إلى الشعور الجماعي بأن لا شيء يستدعي الفرح، عبر سرد بلسان مجموع، وانتقال من عنف إلى آخر، عنف معاش، وعنف يتجاوز الحسي، أي يبرز غيبياً، كأنه يسمي القدر، ودونما أمل( الغربة تهطل دموعاً على نوافذ بيوت مدينتنا، والمدينة تنتظر كل صباح ساعي البريد الذي يخطئ العناوين. ص 71)، إلى حالة التسلل إلى الأبعد مما هو داخل في نطاق الحدث الفعلي، حيث يتخذ السرد طابعاً من تفعيل الأقوال اللصيقة بما هو نفسي وشعري، وما في ذلك من مجابهة، وعبر تداعيات واستدعاءات متكررة( أقف في العراء كنخلة عنيدة… أقف في العراء كنخلة مائلة…- أقف وحيداً في العراء كنخلة شمطاء…- أقف وحيداً في العراء كنخلة عنيدة..)، وليكون المنتظر، باعتباره صفعة على المعاش وله، وربما حكماً بالإعدام عليه، فيما لم يعد يُرجا منه شيء( أركع بخشوع وأصلي بتضرع لله فلم يبق لنا إلا هو.. ص 104)، رغم أن هذه الانتقالات ليست موسمية، إنما أشبه بقرار متخذ، في سياق موسم الهجرة الدائم إلى” الله”، وما يعنيه هذا التوجه من عدم الالتفاتة إلى الوراء، وإشعار الآخر أن ثمة الكثير من المآسي مؤرشفة في الذات، فاضت على الروح..
قد يكون في الوسع الحديث عن تشنجات، عن حالات عطب نفسية، تتملك هذا السارد تحت أسماء ومسميات مختلفة، ورغم عن العديد من الأمثلة من الحالات التي يكون فيها هذا السارد مجانياً فيما ينطلق منه ويتوقف عنده ويخلص إليه كنتيجة، لأن حالة البتر اللغوية، وذلك المشهد الحِدادي الذي يسم عالم المجموعة يوحي بذلك، إلا أن هذا الشعور النبيل بالذات، يقابل شعوراً بوجود جسد مدمى، جسد كائن لا أظنه ينتشي بهذه الدفوعات المستمرة من العذابات ومعاقرة هذا الكم الهائل من الأوجاع أو السوداوية، ولنكون إزاء ما لا نريد قوله أو معايشته، ولكنه الواقع الذي لا مفر من مواجهته، أومن التوقف عنده، وحتى الاستسلام بوجوده، مهما تضاءلت القناعة هنا، عبر مستويات التلقي للقصة هذه أو تلك.
الكآبة التي أنجبت حنيناً
في المجموعة الثانية، ثمة سعي ملحوظ لدى الكاتب في التخلص كثيراً مما هو حدثي، حيث تكون معايشة القصص المودعة في المجموعة وكأنها تتحدث عن شخوص ملفعين بالضباب، عن أشباه صور، عن وجوه غير مرئية أو مستوفيه شروط تكوينها، وفي واقع أشبه ما يكون بانهيار طيني مستمر، وفي مجتمع يشهد انزلاقات وحتى اللحظة.
يتراجع الحدث الذي يشير إلى سارد، وإلى مشكلة قائمة، وعلاقات تُرتَسم، وقيم تتلون في الحراك الأدبي، ومشهد تخيلي في النهاية المرتقبة…الخ، ليكون حديث عن سرد من نوع آخر أقل حضوراً مقارنة بقصص المجموعة الأولى، تحت وطأة يمكن افتراضها، وطأة واقع ربما لم يعد في مقدور السارد الذي يكون بمثابة العصب المركزي المحرك لعموم قصص المجموعة أن يسند قواماتها، أن يمنحها هذا الحضور الواجب، استجابة لدواعي القصة بالذات وشروط تحققها فنياً.
غلبة السرد اللفظي: الوصفي، حيث الصور تكاد تقربها مما هو شعري، تضعنا في إهاب محنة السارد بما يقول ويصف وحتى يعيش، محنة الواقع الذي انسلخ مما هو واقعي فيه، والشخوص أنفسهم قد غادروا هيئاتهم الجسدية أو فارقوا ذلك المشهد الذي يبقينا في مواجهتهم ومكاشفة فعلية ودقيقة لما يقوم به، ومن خلال تفاصيل منتقاة لأن فرص تشكيل القصة هنا أو هناك، هي التي تبقينا قرّاء قصة وليس سواها، وأما الحديث الوصفي فيدفع بنا إلى المسار عن مبرر هذا الحادث أو ربما الطارئ، أي ما الذي حفّز الكاتب على إنزال لعنة ما بشخوصه، وربما بذاته المركَّبة الفنية، ويستنزف روحياً.
في وسع قارئ نقدي أن يتحدث عن خلل بنيوي في كتابة القصص، باعتبارها نصوصاً تستشعر ما ليس قصة، إنما تعيش وهم الحالة القصصية، ولكن في الوسع أيضاً النظر في هذا المتحول البنيوي، حيث صوت السارد يكون الطاغي.
لعله افتراق المعاش، ومفارقة الجاري، أو ما يدفع بنا إلى الظن بأن لا شيء يمكن تمثله بدقة، والدقة تلاشت، وثمة التفاصيل المطلوبة التي هي بدورها انمحت أو استشبحت، ولم يبق لدينا سوى هذه الشبهة والعطالة القائمة هنا وهناك.
يمكن الحديث عما هو قصصي في سياق المعاش فنياً في المجموعة السالفة، من خلال الوحدة التي تحتضن السارد في قصة( أبواب)، والفراغ ثقيل الوطء، والوحدة النافذة( لا أحد… فراغ… خواء… وحدة… صمت مطبق..ص9)، ودفق المشاعر المتناسلة والكي الداخلي في ( أربعون)، وقد ارتفعت وتيرة اللغة الوصافة لروح تعيش موتها المتدرج، وما لا يمكنه الحضور( أربعون… والبقية قد لا تأتي؟؟؟ !!!.ص17)، وما يدخلنا في نص مأسوي ومرعب، كأنه نتاج مسرح عبثي، في ( تلك الرائحة)، حيث رائحة جثة، تصل السارد بالواقع، تشعره بشيء مختلف، تكون الرائحة علامة على الحضور والغياب، تكون الرائحة بمثابة الحدث، وإمكان استيلاد مشاهد تستشرف الواقع، ولكنه الموت كما أنه الحياة في الطرف المقابل( ألملم رائحتها في رئتي… أحبس أنفاسي… تنتعش ذاكرتي المثقوبة، وأغفو بهدوء مريب…ص23)،ليكون لدينا حدث دون الحدث في الانتظار لاحقاً، عبر طغيان الصور دون حضور الحدث المألوف سالفاً، كما لو أن السارد حزم أمره وطلَّق المفهوم المعتاد للقصة، مواعِداً ما هو لغوي، توتري، دون وجود حزمة العلاقات الاجتماعية التي تبقي القصة قصة، كأن ثمة قولاً بأن ليس من إمكان الحديث عن القصة، أو هكذا يخيَّل، كما في ( نسغ وهواء وإحباط)، والعنوان ذاته دال على هذا التوجه، في سلسلة متواليات لغوية ووصفية( عندما تستلقي في لحظة غادرة من هذا العمر المقيت على سرير طارئ…عندما تخترق ذراعك حقنة..ص47)، لتكون قصة( قبلة يهوذا) ذات العلامة الفارقة في الرعب، داخلة في مضمار ما تقدم، إذ الحديث عما هو نفسي وتمرير إشارات عن الفراغ والمشاهد الوصفية، بدءاً من المفتَتح في القصة( جميعهم تحدثوا إليها… جميعهم حرَّضوا الحنين بداخلها… ص55) حديث يشي بحضوره الكارثي وتلك اللوثة الروحية بالذات، ليكون هذا المسرود هو ذاته في موقع قبلة يهوذا، وليكون القارئ نفسه مأخوذا بجريرة الجاري متهوذاً، وتشمل اللعنة الجميع، جرّاء هذا التراكم لأفاعيل العنف الكلامي ولو أنه موجه إلى الداخل، رغم وضوح العلاقة في النهاية بين السارد وأمه التي رحلت، وأن ثمة شفافية متخيلة تذهب بإصبع الإدانة إلى السارد بالذات وحديث النهاية، ولكنه في الحالة هذه لن يكون الاستثناء، كما هو مغزى القصة المفترض، إنما ما يدخلها في عموم القول ومساره الفني، ولتكون قصة( هذيان) ودون ” أل” التعريف، الأطول كما تقدَّم، بما يقال في المجموعة هذه( ثلث مساحتها)، في أكثر تجلياتها خروجاً على ما هو قصصي معتاد، استجابة لذات العنوان، وفي أربعة وعشرين مقطعاً، هذيان يسلم لسواه في سباق التتابع وفي مضمار واحد مثقَل عليه بالكآبات والانكسارات( أريد أن أتذكر النسيان لأنسى..ص 73)، أو(ما تبقَّى من العمر لا يحتمل سوى هذا الحنين الذي يكاد يقتلنا… ص 80)، أو ( الصباح لا يخلف مواعيده نحن من نغفو على كتف الزمن فنصبح خارجه.ص92)..الخ.
لا حدث، كما قلت في هذه القصة الأطول في المجموعة، إنها هذيانات سارد تضعنا على مفترق طرق، كأني به نسي نفسه أنه محكوم بما يجب عليه قوله، وأن ما تصرفه أو انقاد إليه أبقى الهذيان هذياناً واستبعد فكرة القصة، وربما لنكون في النهاية موعودين مع ما هو ممكن قوله: ألا يمكن لهذا المسلسل هذيانياً أن يكون هو نفسه قصة تتردد هنا وهناك؟ وثمة ما يستوقف القارئ، أي ما هو مكتوب على الغلاف الخارجي الثاني، حيث صورة الكاتب مكبَّرة وخلف السياج، وثمة عنونة لافتة( هذا أنا)، والوارد هو نفسه المقطع” 23″ في القصة الأخيرة. إنه أبعد من حدود التداخل، إذ ينقلب التعبير دلالة من حالته القصصية المعتبَرة ليكون لسان حال كائن حي، هو القاص نفسه، ليكون الداخل في الهذيان هو نفسه، وهي إشكالية كبيرة في الكتابة الأدبية، وكأن ثمة تماهياً بين السارد الذي لا يكون الكاتب بالضرورة، والكاتب الذي فارق السارد وإذا به يستدعيه ليهبه اسمه أو كينونته، ليكونه في بعض من أحواله النفسية ومشاهده التخيلية، أي لنكون إزاء هذا النطاق المفتوح بين وضعين: وضع القصة كأثر جمالي تخيلي أساساً، ووضع قائم، كحدث واقعي يسمّي كائنه ويعرّفنا به.
هنا تكون الصلة المسمَّاة والمستمرأة كوصف، وكانتقاء مدروس مفصحاً عن نوع من تحديد المكانة للكاتب بالذات وتحديثها، إن جاز التعبير تقانياً، وكأني به يشير إلى واقع يكون وراء هذا الهذيان بالذات، ولكنه يعيش عصفه وعنفه ونزفه، ليكون الهذيان تحت طائلة الألم، وهو المردود المخصب لكتابة القصة، وتجلي أفق الكاتب فيما هو عليه كثيراً.
إنها قصص الفجيعة المعممة من خلال السارد في تفاوتاته الفنية، فجيعة تقيمنا في مأتم مفتوح، يغطي مجتمعاً كاملاً، ويحسسنا بنوع من الخطيئة مدفوعة الثمن مسبقاً، وإن لم ندرك ذلك، خطيئة كوننا نقضي حياتنا في الداخل، ونستهلكها دونما نظر فيما ننتهي إليه، وهي الإشارة الأبعد والقابلة للتسوية والتسمية، حيث الأكثر سوداوية هو الأكثر تنبيهاً إلى أن ثمة ما يدعونا إلى التفاؤل، إلى تجاوز هذا التذرير، وتعليق الخطيئة جانباً، لأن الحياة لم تتوقف بعد، ولأن ثمة عمراً فينا لا يعرَف في نهايته، لعل في المتبقي( ولا نعرف إلى متى)، بعضاً من الممكن تعويضه، أو على الأقل تطويبه ليكون خلاف ما كان، خلاف ما هو متردد في أصل المجموعتين، وليكون في وسع كل منا أن يفتح بابه على الآخر ويصافحه!
في المجموعة الثانية، ثمة سعي ملحوظ لدى الكاتب في التخلص كثيراً مما هو حدثي، حيث تكون معايشة القصص المودعة في المجموعة وكأنها تتحدث عن شخوص ملفعين بالضباب، عن أشباه صور، عن وجوه غير مرئية أو مستوفيه شروط تكوينها، وفي واقع أشبه ما يكون بانهيار طيني مستمر، وفي مجتمع يشهد انزلاقات وحتى اللحظة.
يتراجع الحدث الذي يشير إلى سارد، وإلى مشكلة قائمة، وعلاقات تُرتَسم، وقيم تتلون في الحراك الأدبي، ومشهد تخيلي في النهاية المرتقبة…الخ، ليكون حديث عن سرد من نوع آخر أقل حضوراً مقارنة بقصص المجموعة الأولى، تحت وطأة يمكن افتراضها، وطأة واقع ربما لم يعد في مقدور السارد الذي يكون بمثابة العصب المركزي المحرك لعموم قصص المجموعة أن يسند قواماتها، أن يمنحها هذا الحضور الواجب، استجابة لدواعي القصة بالذات وشروط تحققها فنياً.
غلبة السرد اللفظي: الوصفي، حيث الصور تكاد تقربها مما هو شعري، تضعنا في إهاب محنة السارد بما يقول ويصف وحتى يعيش، محنة الواقع الذي انسلخ مما هو واقعي فيه، والشخوص أنفسهم قد غادروا هيئاتهم الجسدية أو فارقوا ذلك المشهد الذي يبقينا في مواجهتهم ومكاشفة فعلية ودقيقة لما يقوم به، ومن خلال تفاصيل منتقاة لأن فرص تشكيل القصة هنا أو هناك، هي التي تبقينا قرّاء قصة وليس سواها، وأما الحديث الوصفي فيدفع بنا إلى المسار عن مبرر هذا الحادث أو ربما الطارئ، أي ما الذي حفّز الكاتب على إنزال لعنة ما بشخوصه، وربما بذاته المركَّبة الفنية، ويستنزف روحياً.
في وسع قارئ نقدي أن يتحدث عن خلل بنيوي في كتابة القصص، باعتبارها نصوصاً تستشعر ما ليس قصة، إنما تعيش وهم الحالة القصصية، ولكن في الوسع أيضاً النظر في هذا المتحول البنيوي، حيث صوت السارد يكون الطاغي.
لعله افتراق المعاش، ومفارقة الجاري، أو ما يدفع بنا إلى الظن بأن لا شيء يمكن تمثله بدقة، والدقة تلاشت، وثمة التفاصيل المطلوبة التي هي بدورها انمحت أو استشبحت، ولم يبق لدينا سوى هذه الشبهة والعطالة القائمة هنا وهناك.
يمكن الحديث عما هو قصصي في سياق المعاش فنياً في المجموعة السالفة، من خلال الوحدة التي تحتضن السارد في قصة( أبواب)، والفراغ ثقيل الوطء، والوحدة النافذة( لا أحد… فراغ… خواء… وحدة… صمت مطبق..ص9)، ودفق المشاعر المتناسلة والكي الداخلي في ( أربعون)، وقد ارتفعت وتيرة اللغة الوصافة لروح تعيش موتها المتدرج، وما لا يمكنه الحضور( أربعون… والبقية قد لا تأتي؟؟؟ !!!.ص17)، وما يدخلنا في نص مأسوي ومرعب، كأنه نتاج مسرح عبثي، في ( تلك الرائحة)، حيث رائحة جثة، تصل السارد بالواقع، تشعره بشيء مختلف، تكون الرائحة علامة على الحضور والغياب، تكون الرائحة بمثابة الحدث، وإمكان استيلاد مشاهد تستشرف الواقع، ولكنه الموت كما أنه الحياة في الطرف المقابل( ألملم رائحتها في رئتي… أحبس أنفاسي… تنتعش ذاكرتي المثقوبة، وأغفو بهدوء مريب…ص23)،ليكون لدينا حدث دون الحدث في الانتظار لاحقاً، عبر طغيان الصور دون حضور الحدث المألوف سالفاً، كما لو أن السارد حزم أمره وطلَّق المفهوم المعتاد للقصة، مواعِداً ما هو لغوي، توتري، دون وجود حزمة العلاقات الاجتماعية التي تبقي القصة قصة، كأن ثمة قولاً بأن ليس من إمكان الحديث عن القصة، أو هكذا يخيَّل، كما في ( نسغ وهواء وإحباط)، والعنوان ذاته دال على هذا التوجه، في سلسلة متواليات لغوية ووصفية( عندما تستلقي في لحظة غادرة من هذا العمر المقيت على سرير طارئ…عندما تخترق ذراعك حقنة..ص47)، لتكون قصة( قبلة يهوذا) ذات العلامة الفارقة في الرعب، داخلة في مضمار ما تقدم، إذ الحديث عما هو نفسي وتمرير إشارات عن الفراغ والمشاهد الوصفية، بدءاً من المفتَتح في القصة( جميعهم تحدثوا إليها… جميعهم حرَّضوا الحنين بداخلها… ص55) حديث يشي بحضوره الكارثي وتلك اللوثة الروحية بالذات، ليكون هذا المسرود هو ذاته في موقع قبلة يهوذا، وليكون القارئ نفسه مأخوذا بجريرة الجاري متهوذاً، وتشمل اللعنة الجميع، جرّاء هذا التراكم لأفاعيل العنف الكلامي ولو أنه موجه إلى الداخل، رغم وضوح العلاقة في النهاية بين السارد وأمه التي رحلت، وأن ثمة شفافية متخيلة تذهب بإصبع الإدانة إلى السارد بالذات وحديث النهاية، ولكنه في الحالة هذه لن يكون الاستثناء، كما هو مغزى القصة المفترض، إنما ما يدخلها في عموم القول ومساره الفني، ولتكون قصة( هذيان) ودون ” أل” التعريف، الأطول كما تقدَّم، بما يقال في المجموعة هذه( ثلث مساحتها)، في أكثر تجلياتها خروجاً على ما هو قصصي معتاد، استجابة لذات العنوان، وفي أربعة وعشرين مقطعاً، هذيان يسلم لسواه في سباق التتابع وفي مضمار واحد مثقَل عليه بالكآبات والانكسارات( أريد أن أتذكر النسيان لأنسى..ص 73)، أو(ما تبقَّى من العمر لا يحتمل سوى هذا الحنين الذي يكاد يقتلنا… ص 80)، أو ( الصباح لا يخلف مواعيده نحن من نغفو على كتف الزمن فنصبح خارجه.ص92)..الخ.
لا حدث، كما قلت في هذه القصة الأطول في المجموعة، إنها هذيانات سارد تضعنا على مفترق طرق، كأني به نسي نفسه أنه محكوم بما يجب عليه قوله، وأن ما تصرفه أو انقاد إليه أبقى الهذيان هذياناً واستبعد فكرة القصة، وربما لنكون في النهاية موعودين مع ما هو ممكن قوله: ألا يمكن لهذا المسلسل هذيانياً أن يكون هو نفسه قصة تتردد هنا وهناك؟ وثمة ما يستوقف القارئ، أي ما هو مكتوب على الغلاف الخارجي الثاني، حيث صورة الكاتب مكبَّرة وخلف السياج، وثمة عنونة لافتة( هذا أنا)، والوارد هو نفسه المقطع” 23″ في القصة الأخيرة. إنه أبعد من حدود التداخل، إذ ينقلب التعبير دلالة من حالته القصصية المعتبَرة ليكون لسان حال كائن حي، هو القاص نفسه، ليكون الداخل في الهذيان هو نفسه، وهي إشكالية كبيرة في الكتابة الأدبية، وكأن ثمة تماهياً بين السارد الذي لا يكون الكاتب بالضرورة، والكاتب الذي فارق السارد وإذا به يستدعيه ليهبه اسمه أو كينونته، ليكونه في بعض من أحواله النفسية ومشاهده التخيلية، أي لنكون إزاء هذا النطاق المفتوح بين وضعين: وضع القصة كأثر جمالي تخيلي أساساً، ووضع قائم، كحدث واقعي يسمّي كائنه ويعرّفنا به.
هنا تكون الصلة المسمَّاة والمستمرأة كوصف، وكانتقاء مدروس مفصحاً عن نوع من تحديد المكانة للكاتب بالذات وتحديثها، إن جاز التعبير تقانياً، وكأني به يشير إلى واقع يكون وراء هذا الهذيان بالذات، ولكنه يعيش عصفه وعنفه ونزفه، ليكون الهذيان تحت طائلة الألم، وهو المردود المخصب لكتابة القصة، وتجلي أفق الكاتب فيما هو عليه كثيراً.
إنها قصص الفجيعة المعممة من خلال السارد في تفاوتاته الفنية، فجيعة تقيمنا في مأتم مفتوح، يغطي مجتمعاً كاملاً، ويحسسنا بنوع من الخطيئة مدفوعة الثمن مسبقاً، وإن لم ندرك ذلك، خطيئة كوننا نقضي حياتنا في الداخل، ونستهلكها دونما نظر فيما ننتهي إليه، وهي الإشارة الأبعد والقابلة للتسوية والتسمية، حيث الأكثر سوداوية هو الأكثر تنبيهاً إلى أن ثمة ما يدعونا إلى التفاؤل، إلى تجاوز هذا التذرير، وتعليق الخطيئة جانباً، لأن الحياة لم تتوقف بعد، ولأن ثمة عمراً فينا لا يعرَف في نهايته، لعل في المتبقي( ولا نعرف إلى متى)، بعضاً من الممكن تعويضه، أو على الأقل تطويبه ليكون خلاف ما كان، خلاف ما هو متردد في أصل المجموعتين، وليكون في وسع كل منا أن يفتح بابه على الآخر ويصافحه!