خرق المحظورات.. سمر يزبك في روايتها ''طفلة السماء''

هيثم حسين

إنّ المحظور هو من خَلْقِ البعض منّا، نحن البشر، وهو نفسه  ـ في الوقت نفسه ـ من خَرْقِ البعض الآخر منّا. أي القانون الطبيعيّ، والسنّة المدرَجة، يفترضان وجود قطبي الصراع، يفترضان وجود مختلِق ومخترِق، ويكون في الاختراق نوع من المغامرة التي لابدّ منها، حتّى يستقيم الأمر، في محاولة من المخترقين معادلة كفّة الميزان المرجّحة غالباً لصالح المختلقين، الساعين إلى تأبيد المقيّدين بالمحظورات في حظائرها، وبالتالي التدرّج في التربية التي تحرّم كلّ محاولة لتخطّي الخطوط الحمر، حتّى تصبح تلك التعليمات منهاجاً حياتيّاً للمحجور عليهم في زنازين الاختلاقات، وللمحنّطين في متاحف الإرضاخ، ولظانّي السعادة في أقفاص السيرك، هؤلاء المسعَد بهم عند تحويلهم إلى مهرّجين، مطبّلين، مزمّرين، مدّاحين، نوّاحين، ليكون الصوت الذي يتلاشى بالواحديّة الأوحديّة أصداء وهمه، متلاشياً بالتحايل عليه..    

ابتداء برواية “طفلة السماء” للكاتبة السوريّة سمر يزبك، التي صدرت عن دار الكنوز الأدبيّة في لبنان 2002م في 184 صفحة من القطع الوسط، وانتهاء بها، هذه الطفلة الناريّة في بعض منها، النوريّة في بعضٍ آخر، المؤاخية بين النار والنور في الجوانب المتبقّية، والتي تخلقها بإرادتها، لا بإرادة السماء التي تتخلّى أحياناً عن طفلتها المتأرجحة بين ما يكون، وبين ما يجب أن يكون.
والكون وواجب الكون يكون من مناظير مختلفة بحسب السمت الذي يتقيّد به الناظر حين يوجب التحكيم النظر للتقرير، وبالتالي الإقرار إلى أيّ الكونين هي أكثر انتماء، إلى السماء التي هي راعية الجميع، هي الأمّ والعدوّ في الوقت نفسه، والأمومة والعداوة كذلك مختلَف عليها، من خلال الخلفيّة المكوّنة للابن الابن، أو للابن المستعدَى، وذلك من خلل الحالّ بهما بتدبير أو تصديف من السماء الأمّ، من السماء العدوّ.
بين طرفي النار والنور، تبدأ عناصر التراب والهواء والماء بتفعيل فعلها، ليكون التراب جاذباً ومهلكاً، وليكون الهواء ذارّاً ذلك التراب في العيون ليعمي بها البصائر، ومن ثمّ الماء الذي هو الحياة في أرض طفلة السماء، وفي كلّ أرض أخرى، ماء الحياة الطهور، فكم من أنجاس يقضون أعمارهم في التطهّر به ولا يطهَّرون، لأنّ النجاسة لا تكمن في البدن، بل تكمن في الروح التي تنجّس أكثر من حاملها، المأفون بها، والمعاقَب بنفخ ذلك الجرم المسمَّى روحاً في ذلك الهيكل الذي لا يملك إلاّ الرضوخ أمام المشيئة القدسيّة، مشيئة السماء التي تعاقب المرء بجناية اقترفها غيره في العالم السابق لعالمه.
تكون طفلة السماء نموذجاً لهذا العقاب الإلهيّ لهذه الروح التي أذنب حاملوها في غير العالم الذي تحيا فيه الطفلة نور ذات الطباع الناريّة، والتي تغدو مغيراً منها لحظاتٍ، ولحظات أخرى مشفوقاً عليها، وثالثة مغضوباً عليها، على مرّ الرواية.
تربح نور، طفلة السماء نفسها، وتكسب “هيّتها”، تُخلَّص من سماويّتها، ولا تتأرّض، لا تصبح أرضيّة وفق المقاييس الأرضيّة المتعارَف عليها، لأنّ التشوّه الذي يطالها يزيح عنها الحقد والغيرة والحسد، وتربح هي بالخسارة الكبرى التي تنتكب بها نفسها، تربح نور سماءها وأرضها، ويظنّ بأنّها خسرتهما أبداً.
تقسّم الكاتبة سمر يزبك روايتها “طفلة السماء” إلى أربعة فصول، وكأنّي بها تريدها رواية تختصر أربعة فصول زمنيّة، الشتاء والربيع والصيف والخريف، أو ترمي من خلال هذا التقسيم إلى العناصر الأربعة، الماء والهواء والتراب والنار.
وعلى صفحات الرواية تكون الصفات الهوائيّة الناريّة المزاجيّة هي الطاغية، والتمرّد هو الميسم الذي يسمها، تنتقل من تمرّد إلى آخر، لا تستكين، لا تأخذ نفساً أو ترتاح، تلاحق التمرّد في كلّ مظنّاته، تكون روحها المارديّة أقوى من التمرّد، حيث أنّها الرابحة في شرعها، الخاسرة في شرع الأغيار الذين يحترفون المعاداة، ابتداء من الأسرة التي لا تريد الخير لأفرادها، ومروراً بالأقارب، فالعشيرة فالقبيلة …إلخ، هذه المشرّعات لم توقف طفلة السماء عن تحدّي قدرها المرسوم لها من قبل ذويها، تمرّدت على تشييئها، أو تحويلها بضاعة للمساومة أو المراهنة أو الإستار.
نور بطلة الرواية، التي تساوي في عدد أحرف اسمها خالقتها ومبلورتها كشخصيّة روائيّة، وتحافظ على الراء كحرف مشترك بينهما، أي في الحساب الرياضيّ، أبقت على الثلث منها في بطلتها، على أقلّ تقدير، ولا يحاسَب الكاتب، أيّ كاتب، أبداً سواء أبقى على الثلث أو الكلّ، فهذا عالمه وهو حرّ في خلقه وابتداعه، حرّ في الزيادة عليه أو الإنقاص منه، بحسب ما يحتاجه نصّه، وما يرتئيه إبداعه..   
ابنة المتنفّذ الكبير الذي هو أبوها وهو من الطائفة العلويّة، كان أيضاً في شبابه متمرّداً على كثير من الأعراف، وخاصّة تزوّجه – رغم أنف الجميع – من زوجته المسيحيّة، وتطبيقه كلمته وتمشيته تلك الكلمة على الجميع، أي أنّها تكون ابنة كسر العرف، وتجاوز الممنوع، والتمرّد على المألوف، وهذه الأمور لعبت دورها في شخصيّتها فيما بعد، ولم تركد روحها أو تهدأ كما ركدت روح والدها الثائرة، لم ترضخ بالمقابل أو تستسلم كما رضخت روح أمّها واستسلمت، هذه الأمّ التي آثرت العيش في الظلّ منذورة لحبّها الكبير المقدَّس لزوجها الذين لم يكن بمستوى عظمة حبّها له، لانغماره في النزوات بعيداً عنها، وتجاهله لها..
وكان هذا الرضوخ والاستسلام بالنسبة للطفلة التي تقدّس أمّها يتحوّل أحياناً إلى نقمة صامتة عليها و تعنيف غير معلَن لها، لأنّها لا تدافع عن حقّها، ولأنّها تجد بالغ سعادتها في تطبيقها أوامر زوجها، الذي يتحوّل بين ليلة وضحاها من متنفّذ ومسؤول إلى سجين محجوز على أمواله.. ولتبدأ من هنا رحلة العائلة الصغيرة، من بيت لآخر، ومن المدينة إلى القرية، ومن العالم الفسيح والطلبات المتوفّرة إلى العالم المسوّر وعُدم الرغبات، لكنّ المفارقة كانت بالنسبة لنور أنّها أحسّت بأنّها تكسب حرّيّتها، وتكون كغيرها من بنات جيلها.
ثمّ تتوالى الكوارث على نور، بموت أمّها، وزواج أبيها، وابتعادها عن جدّتها لأمّها، وسجنها في المنزل، إثر محاولتها التمرّد والخروج ليلاً لملاقاة حبيبها الذي تخلّى عنها تاركاً نور نهباً للألسنة والأسواط الحارقة، وبعدها تعريضها على طبيب نسائيّ ليعاينها بأصابعه البلاستيكيّة وهو يبشّر زوجة أبيها بعذريّتها التي لم تفقدها في نزوتها الليليّة مع حبيبها المجهول الذي لم تبح باسمه لأيّ شخص.. ويكون اللاحق أكثر أذى من السابق، حبسها في غرفتها، ابتعاد الناس عنها، لتبدأ ببناء مملكتها الهشّة في وجه الأعاصير التي تودي بها، إذ تقرأ إرث خالها الذي أورثها إيّاه، وهي الكتب التي تركها لها.
ولا تلبث هذه المملكة الورقيّة أن تندثر وتحرق لتحترق معها نور، طفلة السماء، وتتشوّه، لتكسب حرّيّتها بعد الحرق، وكأنّه كان لابدّ لها أن تدفع ضريبة الحرّيّة المكلفة، وهي هنا وفي حالتها الحرق، الذي يعثّرها بشخصيّتها الحرّة التي تكون قيداً أعظم أسىً عليها، وتقييداً مضاعفاً لها.. لتكون حرّيّتها أكثر تأسيراً لها من ذاك الأسر الذي كان يغرقها، ويجلّلها بالعار والإثم والخطيئة.. ولتبدأ معها رواية الانتكاسات والصدمات والمنعطفات الحادّة، ولتكمل مسيرتها في خرق المحظورات وقتلها، رغم أنّها تودي بالسجّان والسجين معاً..

طغيان الأزرق:

كأنّ هناك تواطؤاً بين الكاتبة وبين اللون الأزرق، فالأزرق لون السماء، لون البحر، لون العيون، لون الملابس، وكلّ ما تحيط به الكاتبة في روايتها ينتمي إلى الأزرق أو يتواطأ مع الأزرق، تستَقبل نور بالأزرق، يهدَى إليها الأزرق..
إنّها بحريّة الوله، سماويّة الانتماء والاسم، وبالتالي أسقطت هذا الوله وهذا الانتماء على الغلاف ليكون أزرق بدوره، وليتناصّ معها الفنّان أسعد عرابي في رسمه للوحة الغلاف التي أوقف عليها الأزرق بتدرّجاته ليكون هو اللون الغالب، ومعه اللون الأصيليّ المتوحّد معه، الملازم له، لتكون لون الشمس الغاربة لون اسمها على الغلاف، ولتكون صفحة السماء الزرقاء، وووجه البحر الأزرق، المساحة الممهّدة لدخول الرواية، ولتكون العتبة تعريفاً للقارئ بأنّه على وشك الدخول في عوالم بحريّة أو مشاطئة أو محلّقة في أجواء سماويّة، وليكون الغروب في بحور العيب والحرام والممنوع، والغوص كذلك في أعماق الشخصيّات التي تغرق في هموم الحياة وتغرقها المآسي المدبَّرة، وتبعدها عن براءتها التي كانت تمتاز بها وهي سائحة هنا وهناك، متحرّرة، لتصبح طفلة البحر، والسماء، والمسموح، وهي ابنة الهمّ والأسى والمآسي..
أمّا بقيّة الألوان من حمراء أو صفراء أو خضراء التي تلوّن بها الكاتبة النجوم، فإنّها تبدو سريعة الخبو والانطفاء، تظهر كألوان مساعدة داعمة للون الطاغي، فالملاءات البيضاء والجدران الملوّنة بألوان غريبة لا تعكس الفرحة التي يظنّ بأنّها ستعكسها، بل تمرئي الانكسار والخيبة والأسف..
إنّها تهرب من الأزرق إلى الأزرق، فحين يضعهم والدهم في الشاطئ الأزرق حيث شاليُّهم المطلّ على البحر والأجساد الملقاة على الرمل، فإنّها تشعر نتيجة خوفها من الرمال بأنّها تغوص فيها مختنقة منتهية في الظلام، لذلك كانت تهرب إلى الأزرق.. (ص 63) . 
اللون الوحيد المخلص لها “أزرق:ها”، فهي تطلب من أبيها سجّادة زرقاء (ص87)، البيت الذي تلتجئ إليه ذو باب حديديّ، هذا الذي تستغرب لونه الضاحك على النحو الذي بدا فيه، أزرق اللون (ص102)، وهذا ما جعلها تخمّن بأنّ من يعيش في ذاك المنزل ابن بحر مثلها، وقد هيّأ المكان لاستقبالها.. وكذلك قميص النوم الذي أُهدِي إليها من عادل، الشخصيّة الهاربة من خطر أفكارها، ومن الأحمر الثوريّ في تلك الأفكار، هو أزرق وسماويّ (ص 115)، أي أنّه يختصر طفلة السماء وابنة البحر..
كما أنّ حالتها مع الأزرق كحالة الطرب الذي يكون فرحاً ويكون حزناً كذلك، فكما أنّ الأزرق يفرحها ويرافقها في حالات السعادة، فإنّه لا يتخلّى عنها، ولربّما هي التي تستوقفه وتقحمه معها في الحالة، فهذيانها وهي تستذكر الاعتداءات المتتالية عليها تغرقها في محيط أزرق، هو المحيط نفسه الذي تهرب الزجاجة من أمام ابن عمّها منزلقة فيه.. ويكون كذلك في حالة أخرى تحوّل الجسد من حالته الطبيعيّة نحو الازرقاق وهي الحالة المرضيّة التي تلي تبلّل الجسد بالعرق واللهاث وارتجاف الشفتين اللتين تتحوّلان نحو الأزرق.. وهذه هي حالة عادل وهو يتحدّى نفسه رغبة في نور التي تتحدّى كذلك جموح رغبتها في عادل.. ويكابران ثمّ يتفاضحان.. وأخيراً يتّفقان، ليفقد عادل نفسه وتفقده نور في انتكاسة قاتلة وخيبة ما بعدها خيبة، تكون باحتلال العراق للكويت، حيث يشعر بأنّ كلّ ما كان يناضل من أجله، خيال وعبث، ويتمرّد على الحياة باختيار الموت منتحراً محتجّاً على طريقة الشاعر خليل حاوي..     
والوحيد المرافق لها مع اللون الأزرق، الشاعر طاغور، الذي ينوس ذكره على طول الصفحات، يشتدّ ويهدأ، يرافقها في حالات الأمل، وفي حالات الألم، وأيضاً أثناء التألّم، فهو عجوزها العائد إليها، ومعلّمها الأوّل، الذي جعلها تعرف الله وتدرك شكله وحقيقته في قلبها، تلك الحقيقة التي جعلت منها امرأة تحلم بالجمال والعدل. ص 93.

الجنس في الرواية:

يستحضر الجنس بمختلف حالاته في الرواية، وهنا خرقت الكاتبة المحظور الجنسيّ، هذا الأقنوم المحرَّم الاقتراب منه، حتّى لتستطيع أن تقول عنها في بعض منها بأنّها فاضحة مفضوحة، هتكت هذا المعتَّم عليه، والمجرَّم المقتَرَب منه.
يكون الجسد، هذا الوعاء الذي يحتضن القوّة الجنسيّة، ولا يطيقها، فتقمع تلك الرغبات، أو تصفَّى تصفية رمزية، وذلك بادّعاء تصعيدها، وتحرير الحبيس الهيكل: اللحم والعظم.
يكون الكبت الجنسيّ والقهر الجنسيّ، وتكون المتاجرة بالجنس، ويكون الخوف منه، ويكون الانتقام به، فأمّ نور مثلاً ترفض أن يقترب منها زوجها الذي تقدّسه، وترفض كذلك أن يلمسها لأنّها أقسمت في صلواتها ألاّ تدعه يلوّث جسدها، بعد أن عرفت بخياناته لها، وهي التي أوقفت روحها وجسدها له.
ووالد نور لا يحفظ حرمة زوجته، فيمارس الجنس مع أخريات، وهذا ما اعتُبر بالنسبة لزوجته ذروة الإهانة.
ابن عمّها الجاهل بالجسد، المقاد بالشهوة، يحاول أن يقتحم حدود الجسد الآخر بالقوّة دون أن يستأذنه..
أميرة، التي كان اكتشافها للذّة على يدي أختها، وهي تحترق، وترتجف، وتنتفض، وتسري رجفة خائفة في عروقها، في حين تطمئنها أختها بألاّ تخاف.. وهي التي تبقى مشوَّشة بين السرّ وبين العلن.. ، تتحوّل إلى المتاجرة بجسدها الذي كان يشكّل لأبيها المتستّر المتاجر بالدين ثروةً ربويّة، يؤجّر بناته تأجيراً مشرعناً، وإحداهنّ أميرة التي عرفت سرّ الجسد وقدّرته حقّ قدره باستغلاله في مواطن الكبت والحرمان اللامتناهي، ليتطوّر إتجارها بالأجساد إلى عملها كقوّادة تنال عمولتها.. ولتضاجع برغبتها مع أخذ المبلغ المرقوم.
عادل، المكتوي بالجسدِ المكابرِ على الشهوة، المتمسّك بالمبادئ التي تسمو على ارتكاب جرم تحرير المارد من قمقمه، فيظلّ أسير الرغبة، .. وقتيلها.
نور، جسدها يختصر كلّ الأجساد، يتلاقى مع كلّ واحد من زاوية مضبّبة، تشترك معهم، تبتعد عنهم، لكنّها تبقى الوجه المتحدّث بلسان الأوجه والأجساد كلّها، المحرومة، المشتهية، المشتهاة، المطرودة، الراغبة، المتمنّعة، التي تترك الباب إلى جسدها موارَباً، الغارقة في إثم العادة السرّيّة، هذه العادة التي يزاح الستار عن سرّيّتها في الرواية، لتكون معلومة مسكوتاً عنها، تكون أضمن الوسائل لتفادي كلّ تأنيب ضمير قد يثور..
كما أنّ نور في الرواية لا تكتفي بنفسها، لكنّها تفضح في تخيُّلٍ لها الكثير من النساء اللواتي يمارسن الجنس في غرف مغلقة، مسدَلة الستائر، وهنّ يضعن فوق رؤوسهنّ أغطية سوداء، يكتمن تأوّهاتهنّ وينشجن بصمتٍ عندما تلوح أمامهنّ صورة رجل عارٍٍ… إلخ. (ص 163).

أكثر من مرحلةٍ ولكلٍّ منها بدايتها
:

تعدّدت البدايات، بتعدّد المراحل، فكان لكلّ مرحلة بدايتها وعقدتها وحلّها، وهنا يمكن تقسيم المراحل إلى:
– مرحلة المدينة (المرحلة اللاذقانيّة): وهي مرحلة الطفولة المدلّلة والمحسودة من الجميع، فهي الطفلة الرقيقة، ابنة المسؤول المتنفّذ، التلميذة التي يؤلمها التعامل الخاصّ الذي تعامَل به من قبل كلّ من يحيط بها، كما أنّ الجانب الأرستقراطيّ في معيشتها كان يؤذي شعورها أكثر ممّا قد يُظنّ بأنّه يسعدها.
تتحوّل صغائر الأمور في نظرها إلى أحلام مستحيلة التحقّق، كأن تأكل سندويشة فلافل في الطريق، أو تمشي رفقة زميلاتها إلى البيت، لا أن تقاد إلى السياّرة التي تتعبها أكثر ممّا تريحها، محروسة من رقيبٍ وصيّ يحصي عليها أنفاسها خانقاً إيّاها في محارتها الذهبيّة المكروهة منها..
الميزة التي تمتاز بها في هذه المرحلة، هي تلك الحرّيّة الممنوحة لها من ناحية الخروج والدخول مع جدّتها المستوحشة، التي ترى في حفيدتها عزاءها، وهي تحشو رأسها بأفكارها الغريبة المحلّقة في فضاء الإنسان لتمنح إنسانيّته المفقودة قيمتها المسلوبة.
تنتهي هذه المرحلة بحبس والدها، وانتقال الأسرة إلى القرية بعد طردهم من البيت الممنوح للأب من الدولة بحكم المنصب.
– مرحلة الانتقال إلى القرية: وهي المرحلة الثانية التي تشكّل علامات أسرة نور الفارقة، وما يحمله هذا الانتقال من تبعات ولواحق..
فهو انتقال من العزّ والجاه والخدم والطلبات الملبّاة، إلى الاعتماد على الجهود الذاتيّة بعيداً عن الآخرين الذين تخلّوا عنهم، تغدو أمّها الناعمة عماد المنزل، وتشاركها طفلتها السماويّة التي تفتح عينيها على حقيقة أنّها قد أصبحت أرضيّة، وليست أيّ أرضيّة، قرويّة يجب عليها أن تعمل وتساعد وتجهد معاونة أمّها الوحيدة في منزلهم المتروك وحيداً في قريتهم وبين أقاربهم الذين جافوهم حين جافاهم المنصب والغنى..
ومرحلة القرية هذه، هي مرحلة الكوارث والانتكاسات بالنسبة لنور.. تموت أمّها، تبقى وحيدة مع أخيها دريئة للمصائب، يتزوّج والدها، تحاول أن تخترق السكون الذي يقتل حياتها بأن تتمرّد لتلاقي حبيبها البائس الجبان غير المتفهّم لطبيعة ثورتها، ثمّ تكون الفضيحة المرتقبة بانتظارها وهي في كنف الظلم الذي يتعاظم حولها، وتتغيّر حياتها بعد هذه الفضيحة.. تمنع من المدرسة، تحرق كتبها، يقال عن جنونها الأهوال، تستجنّ، وأحياناً تسعد باستجنانها.. يموت والدها في ظروف معيّنة، يفرض عليها الحجر من قبل أعمامها.. لتقرّر الهرب إلى المدينة، إلى دمشق، إلى الحبّ الذي عانت بسببه الكثير، الحبّ الذي أحرقها دون أن يمنحها أيّ متعة من المتع التي يتحدَّث عنها، والتي كانت قد قرأت وسمعت عنها..
– المرحلة الدمشقيّة: وهي مرحلة الهروب إلى المدينة (دمشق)، بعد أن كان الهروب من المدينة (اللاذقية) إلى القرية (عين الديب)، وفي هذه المرحلة تلوذ بصديق حبيبها سالم الهارب المسافر، تعيش مع هذا الصديق الذي تلتجئ إليه، تحار بين الرغبة وبين الحبّ، بين الصحّ وبين الخطأ، تراودها انتماءاتها أشباحاً وكوابيس، تشكّل لها حياتها الجديدة الوعي الحقيقيّ للأمور، حيث تقابلها الصدمات تلو الصدمات، يرميها الدهر بالأرزاء، حتّى تتكسّر النصال على النصال، حسب تعبير المتنبّي.
التيه، الظلم، الجنون، الانكسار، الفساد، القمع، الاستبداد، الخيبة، اللؤم، السياسة، التعاسة، وكوّة صغيرة لاستراق بعض اللحظات الفرحة من قلب الجحيم..
تكون المراحل تلك ملتصقة بالأمكنة الروائيّة، ولكلّ مكان طقس يحكمه، في اللاذقيّة انطلاقتُها، يكون الإفراط بالاهتمام والعناية بها، ثمّ قرية عين الديب، همزة الوصل التي تتحوّل نفسها بين الجرم والآخر إلى همزة قطع تقطع كلّ ارتباط سماويّ لتكون قوانين الغاب هي السائدة، ليكون التفريط بها وتجريدها من كلّ اهتمام أو عناية، وبعد ذلك دمشق، مُستعاد التوازن، حيث يكون إرجاع واسترجاع بعض من السماويّة إليها، دون التخلّي عن المكتسبات الأرضيّة كأدوات دفاعيّة لا يمكن التفريط فيها..
ويقف الحدث الروائيّ زمانيّاً في بداية عقد التسعينات من القرن العشرين، وتحديداً بعد احتلال العراق للكويت بزمن وجيز، ويمتدّ الزمن إلى الماضي، إلى ما قبل أكثر من عقدين وأحياناً إلى استذكار الماضي الذي يعود إلى بدايات القرن الماضي..

تأميم المُستبطَن
:

تشكّل بعض الاختلاقات بطاقات يانصيب رابحة دوماً، دون أن يكون احتمال الخسارة وارداً من بين احتمالات الربح العديدة، قد يكون الربح أقلّ قليلاً، لكن لا خسارة في مثل هذه الأمور، الخسارة الوحيدة تكون من نسبة الربح الدائم..
وهكذا يكون إقسار المعتقدات الدينيّة (في الرواية) التي تشكّل محظوراً آخر، قيداً إضافيّاً، مبتَزّاً متجدّداً، بؤرة لا يمكن التغلّب عليها، امتيازاً يصعب الاستغناء عنه، حيث تبوح الكاتبة على لسان نور بالكثير من الخفيّ، من السرّيّ للغاية، من أخصّ الخاصّ، حين هي تسترق النظر على بعض الشعائر المؤدّاة من الرجال المجتمعين في بيت عائلتها أيّام الأعياد، ليكون المجتمَع الحكريّ الذكوريّ، ولتكون الحيّاضة مبعَدة عن كلّ ما يجري، لأنّها أسّ النجاسة، ولأسباب أخرى كثيرة، فهي التي يقول عنها الإمام عليّ بأنّها شرٌّ كلّها، وشرّ ما فيها أنّه لابدّ منها، وهذه اللابدُّ هي لضمان التناسل، والمحافظة على العرق من الاندثار.. كما أنّها (نور) لفعلتها النكراء في تجسّسها، تكون من المغضوبين عليهم في العالم السابق، وتتقمّص روحها وجسدها روح معذّبة على مرّ الزمان، وجنايتها غير قابلة للاغتفار لأنّها ضحيّة نفسها المذنبة حيث كانت، وستبقى الجانية على نفسها بعد التقمّص اللاحق.
وكذلك الاستنجاد بوليّ الأولياء لشفاء نور ممّا يلحق بها من تعذيب وتمسيخ، وتقديم النذور والأضاحيّ كرمى لهؤلاء الأولياء المؤلَّهين المستغاث بهم، دون غيرهم، ودون ربّهم..
ومن جهة ثانية يكون احتكار التفسير المصلحيّ المغالط للدين على يد المتشيّخ والد أميرة، المتاجر بأجساد بناته، بتزويجهنّ بعقود صادقة مشهوداً عليها، ولكن لفترة وجيزة محدّدة في العقد المتّفق عليه، لتكون الأجساد جسور اغتناء للوالد، ولتصبح العقود جسور تدعير للبنات المتاجَر بأجسادهنّ من قبل والدهنّ الذي لا يستحقّ من الأبوّة أيّ معنى أو رحمة..
كما أنّها لا تخفي نشوء طبقة جديدة من المتنفّذين، يغدون أصحاب القرار، ومالكي الحلّ والربط، هم الطبقة الناشئة من الضبّاط، وذلك على حساب تراجع دور العوائل والأسر ذات التاريخ العريق، فتخلق الطبقة الناشئة عراقتها منطلقةً من مُطلَق سلطتها..

النهايات:

تكون النهايات متوقّعة على نحو ما، حيث البؤس المفروض يحتّم اختتام المآسي بمآسٍ متوالدة منها..
تسفَّر الجدّة إلى ابنها في الخارج، يغيب الأخ في التطويع الذي اختير له.. القرية تكرّر دورتها الروتينيّة،.. كأنّ الكاتبة تتخلّص من بعض الشخصيّات باختصار مخرج مدبَّر لها، فبعض النهايات يأتي مقحماً، وبعضها لا يأتي.. 
واختيار الانتحار أو فرض الانتحار كاختيار لعادل، بطل المرحلة الدمشقيّة، الثائر الذي لم تحقّق له ثورته وأفكاره الثوريّة إلاّ الهزائم القاتلة، هو قرار يعود إلى فكرة تحدّيه للموت باستعجاله، ليكون هو المقرّر الذي ملّ الانتظار، حيث النكبات تتربّص به، يضع لها حدّاً، يرفع بانتحاره صرخة رفض وانتقام لما يحصل من مهازل..
ينقتل وينتحر بانتحاره اليسار الذي سيظلّ لفترة طويلاً متحشرجاً قبل أن يُقضى عليه بإطلاق رصاصة الرحمة عليه من باتري الجهات والأطراف كلّها، وبالتالي تغويل الخوف ليتآكل كلّ قلبٍ قد يفكّر بأن يضخّ دماً في أوردة اليسار المسدودة بمسدّسات كاتمة للحرّيّة والأنفاس..
تكون النهاية الأخرى التي تنفتح على أكثر من بداية، الصفعة التي يوجّهها الضابط المُنَيْشَن الصدر، صاحب أميرة وحاميها إلى نور فارضاً بالصفعة تلك العتمة على من سيحاول الدفاع عن أيّ تنوير محتمَل.. ولتكون العتمة هي الطاغية، حيث تغدو نور السجينة التي لن تتحرّر أبداً رغم كلّ محاولاتها لقتل المحظور إثر خرقه..
يلقي السجن بظلاله المرعبة على كلّ المراحل، ففي طفولتها في اللاذقية كانت سجينة ترفها وكونها ابنة مسؤول، وفي القرية كانت سجينة العيب والعار والحرام والممنوع، وفي دمشق بقيت سجينة الماضي والخوف والرغبة..
ويبقى السجن في مستنقع البالي أحطّ السجون وأقذرها، رغم عموم الانحطاط في حالات السجن كلّها، ليكون المجرم الكبير أوّل من أسّس سجناً على هذه الأرض الحرّة، والأكثر إجراماً من يشيد في بنائها معلياً لها البنيان غوراً في طبقات الأرض، حافرين بذلك أقبية ستضيق بمهندسيها.. لتنقلب الأعالي أسافل سافلة..  
لم أستفض في الحديث عن الجانب النسويّ في الرواية، بقدر ما انصبّ اهتمامي على الإنسانيّ فيه، هذا الذي توضّح أكثر، لأنّه الأعمّ، ولأنّ قضيّة الإنسان لا تتجزّأ إلى رجوليّة أو نسويّة، لا تفاضل أو تفضيل، فالظلم حين يعمّ فإنّه يعمي الجميع ويبيدهم، ولا يستثني أحداً من مساوئه..
وأعتقد أنّ هنالك فجوةً في تطوّر شخصيّة نور، بعد إلقائها بنفسها في محرقة الكتب التي دبّرتها زوجة والدها المستبدّة مع زوجها الذي ترك واجبات الأبوّة متفرّغاً لرغبات الزوجة الجديدة، هذان اللذان مارسا سلطتهما في القضاء على الكتب بإحراقها، متماثلين في ذلك مع طبائع الاستبداد المعروفة في الخوف من العلم و والتنوّر والنور المخبوء في تلك الكتب، نرى بأنّ نور المفسَدة العقل من جرّاء الفساد الذي ينفثه الكتاب في رأسها، قد وقعت فريسة تلك المحرقة، لتكون النار مؤثّرة في نفسيّتها لبعض الوقت، ولفترة ليست طويلة، إذ لا تلبث أن تعود مشتهاة وبخاصّة من قبل ابن عمّها الذي يكمن لها، وقد لا يكون هذا عائداً إلى ما تتمتّع به، بل هو عائد للكبت والجهل اللذين يلفّان ابن عمّها ويعميانه..
كأنّ النيران فعلت فعلاً مؤقّتاً، والحقيقة تقول بغير ذلك، تؤكّد بأنّ النار تخلّد في الأجسام فعلها، وتبقي الأذى في النفوس إلى ما لانهاية.. يذكَر الأسى المخلَّف عند تواجدها في المشفى، وعند خروجها، وعند سفرها في القطار، أمّا بعد ذلك فإنّها تمارس، وتبدي الكاتبة الظروف التي ستجعلها تمارس حياتها، وكأنّ شيئاً لم يحدث، أو كأنّ حدثاً مفصليّاً حاسماً لم يحدث لها، وحادث كهذا لا يفارق الروح والوجدان، ويبقى، قد يكون هنالك اختلاف من فردٍ إلى آخر، ولكن بالتأكيد هو حدث استثنائيّ لا سبيل إلى الشفاء من آثاره إلاّ بتقادم الأيّام..
النار لم تقم في الرواية كعنصر حاسم رئيسيّ بدورها الذي يجب عليها أن تقوم به بحكم طبيعتها وخواصّها في الإفناء، إفناء الأعمار والآمال، هنا النار مسالمة إلى حدٍّ ما.. نور وحدها هي النار التي لا تخبو، ولا تستسلم..                     

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…